الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ محمد أويس الصديقي القاسمي النانوتوي
برزت على الساحة الدولية مفاهيم جديدة بعد الحرب العالمية الثانية ، وتركت أثرها سلبًا وإيجابًا على الكتاب والأدباء الإسلاميين ، من بينها العولمة والتسامح الديني والإرهاب وغيرها . بيدَ أن مفهوم العولمة لشموله جميعَ جوانب الحياة الإنسانية ، احتل الصدارةَ في جميع المناقشات السياسية والأدبية والاقتصادية والثقافية .
وبادئ ذي بدء أقول : إننا لابد أن نسلم بأن ظاهرة العولمة باتت إحدى الحقائق المؤكدة في عصرنا الراهن في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي حوّلت هذا العالم الفسيح على امتداد قاراته الست إلى قرية صغيرة مفتوحة على جميع الاتجاهات ؛ حيث: إن خطر العولمة لايمثل خطرًا على أمة بعينها بقدر ما يمثله بالنسبة للأمة الإسلامية ، وهو ما يدفعنا إلى الإلحاح على إحياء النزعة الإسلامية العربية ، التي أصبحت ضرورة حتمية دفاعاً عن الوجود وترسيخًا للهوية ووقاية من الذوبان . يقول الدكتور موسى عطاء الله ، أستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة :
«ليس أمامنا من سبيل سوى توسيع قاعدة المعرفة وامتطاء جواد التقدم العلمي والولوج إلى الآفاق المستقبلية حتى لو كان ذلك من بوابة الخيال العلمي ؛ لأن كل الشواهد تشير إلى تسارع ملحوظ في كم المعرفة الإنسانية التي تضاف إلى رصيد البشرية» (1) .
يمكن أن نستخلص من هذه العبارة أن ظاهرة العولمة بدأت تشغل أذهان كثير من الأجيال الإسلامية، وفي تقديرنا أن ارتفاع الوعي الثقافي والأدبي والسياسي بالمشكلات والتحديات علامة صحية ، لأنه بغير هذا الوعي ، وبدون الدفع في طريق إبداع الحلول لمختلف المشكلات الثقافية والأدبية والسياسية التي تواجهنا ، يمكن أن نخسر معركةَ المواجهة العالمية قبل أن تبدأ . والحق أن هذه المواجهة صراعًا كان أو تعاوناً ، أو خليطاً من الصراع والتعاون ، أشبه ما تكون بمعركة مستمرة تحتاج إلى حشد الطاقات ، وتعبئة الموارد، والتخطيط المتقن ، والتنفيذ الفعال ، والمتابعة المستمرة .
مفهوم العولمة :
لست شخصيًا ممن يحبذون إنفاق الوقت في محاولات الوصول إلى تعاريف محددة جامعة مانعة، إلا أنني أستشعر ضرورة أن يطرح الباحث مفهومه لأي مصطلح يستخدمه ، لكي يكون التعامل مع ما يطرحه على أساس هذا المفهوم .
العولمة ، هي واحدة من ثلاث كلمات جرى طرحها ترجمةً للكلمة الإنكليزية Globalization والكلمان الأخريان هما «الكوكبة» و«الكونية» وقد فضّل الدكتور إسماعيل صبري استخدامَ كلمة «الكوكبة» لترجمة هذه الكلمة ؛ ولكن شيوع استخدام كلمة «العولمة» حسم هذا الأمر . أما عن المعنى الاصطلاحي للكلمة فهو أن العولمة ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والسلوك والاجتماع والأدب ، يكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود السياسية للدول ، وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور تؤثر على حياة الإنسان في كوكب الأرض أينما كان . ويرى الدكتور ياسين أن العولمة ظهرت كمفهوم في أدبيات العلوم الاجتماعية الجارية كأداة تحليلية لوصف عمليات التخيير في مجالات مختلفة ، لكن العولمة ليست مفهوماً مجردًا ، فهي عملية مستمرة يمكن ملاحظتها باستخدام مؤشرات كمية وكيفية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصال(2).
وهناك إجماع بين المراقبين الدوليين على أن العمليات السياسية والأحداث والأنشطة في عالم اليوم لها بعدٌ كوني دولي متزايد .
ويرى بعض الباحثين أن هناك أربع عمليات أساسية للعولمة ، وهي على التوالي : المنافسة بين القوى العظمى ، والابتكار التكنولوجي ، وانتشار عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث . أما معناها في الأدب العربي فهو الوحدة الفكرية التي تطبع الأدب العربي بطابعه . ويمكن هنا القول بأن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة ، نظرًا لتعدد تعريفاتها، والتي تتأثر أساسًا بانحيازات الباحثين والأيديولوجيّين، واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً . وأرى من المناسب أنه لابد من صياغة تعريفات متعددة لهذه الظاهرة ، وكل منها حسب ذلك المجال الذي يريد الكاتب استخدام كلمة العولمة فيها ، فمثلاً يمكن تعريفها ثقافيًّا وسياسيًّا وأدبيًّا واقتصاديًّا . كل منها على حدة .
وعندما نستخدم هذه الكلمة في الأدب الإسلامي تعنى الوحدة الفكرية النابعة من القرآن والسنة ، يقول الدكتور ياسين :
«لو نستخدم هذه الكلمة في الأدب الإسلامي فهي تمثل عنصر «التوحيد» أو القاسم المشترك الذي يلتقي حوله الأدباء الإسلامييون العرب ، ويكون ذلك «التوحيد» عاملاً من عوامل التجمع والتكتل والتقارب وعنصرًا من عناصر التفاهم والتآزر، وسبيلاً إلى أخوة في الروح» (3) .
وفي تقديرنا أن هذه الوحدة الفكرية في الأدب العربي إنما مصدرها الأول هو الدين الإسلامي ، الذي يظهر أثره عند المبدعين بشكل مباشر وغير مباشر . وذلك أن الدين هوالمقوم الروحي الأول في روئ المبدعين ، حتى لنذهب مع الفيلسوف الأوروبي «برجسون» إلى أننا قد نجد أمة تخلو من العلم أو الفن، ولكننا لا نجد أمة تخلو من دين» (4).
أثر العولمة في كتابات وأعمال الأدباء العرب
وليس من شك في أن ظاهرة العولمة مع جميع جوانبها أثـَّرت إيجاباً وسلبًا على كتابات الأدباء العرب . وظهرت تجلياتها في مختلف الميادين . ونوجز فيما يلي الأثار البارزة لهذه الظاهرة :
1– نتيجة لبروز هذه الظاهرة أصبحت العالمية هدفًا – في حد ذاتها – يسعى إليها الأديب ، فيكتب وفي ذهنه ما ينبغي أن يكون عالميًّا يصلح لكل زمان ومكان ، وهنا يحنح إلى مفاهيم عامة ، ويعرب عنه واقعه المحلى بما يشتمل عليه من جزئيات ودقائق وتفاصيل تميزه عن غيره ، إلى كليات ومعان شاملة يشترك فيها الكل . ولا يخرج نتاجُه الأدبي في هذه الحالة عن إطار الشعارات الجوفاء ، والبديهيات العامة، والملاحظات الساذجة التي لاتصنع أدباً يلتفت إليه في بلده أو فى خارجها. وإنني شخصيًّا شاهدت في المؤتمرات التي شاركتُ فيها عندما كنتُ في القاهرة عام 1998م أن بعض المبدعين العرب كانوا يبذلون قصارى جهدهم بل يسارعون لتوصيل أعمالهم إلى المشاركين في المؤتمر من الأجانب طلباً إلى ترجمتها أو توصية أبناء لغاتهم بترجمتها إلى درجة أن واحدًا من هولاء الأجانب ، وهو المستشرق الأمريكي «روجر ألن» الذي جاء إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر عقده المجلس الأعلى للثقافة ، قد ضجَّ من كثرة هذه الأعمال التي تقتحمه لتتزاحم في غرفته أكوام . وعندما لقيته في غرفته سألني ، ظنًّا بأنني مصري الجنسية ، كيف أخرج بكل هذا الكم الهائل من المؤلفات من مصر . وقال لي : إنني قرأت بعضًا منها فلا يصل إلى المعيار الذي يعتبر شرطاً أساسيًّا للترجمة ، كما أخبرني ، بأنه في الأيام الأخيرة ساد أمريكا وأوروبا منهجٌ جديد في النقد ، وسمّاه هو «المذهب الفني في النقد» عماده الحكم على النص الأدبي من حيث روحه وموسيقاه وأصالته وعناصره وصدقه وتجربته الشعرية .
قبل أيام قلائل ، قرأتُ روايةً لقاص سعودي اِسمها «القود» وهذه الرواية إسلامية النزعة بكل ما في هذه الكلمة من معنى ؛ لأن من خلال كتابته يحاول رفض جميعَ الأعراف والتقاليد الزواجية غير الشرعية ، السائدة في المسلمين في جميع أنحاء العالم . يقول في مقدمة هذه الرواية :
«في السنوات الأخيرة تنشط تصورات لبعض أدباء العرب – خاصة الشباب – مؤدّاها أن ترجمة أعمالهم الإبداعية هي أقصر الطرق إلى العالمية . وإزاء هذه التصورات أصبح من مسوغات الكفاءة الأدبية أن يترجم العمل إلى أكثر من لغة بصرف النظر عن الطرق والأساليب التي تمّت بها هذه الترجمة ، والغريب أن تراهم يتشدّقون في زهو وخيلاء بأن أعمالهم تمت ترجمتها إلى أكثر من لغة» (5) .
نستخلص من هذه العبارة أن العولمة أفسدت على بعض الأدبا الشباب أعمالَهم الأدبية .
2– ظهور الأدب الإباحي .
برزت ظاهرة الأدب الإباحي في الأدب العربي لكثرة احتكاك العرب وتأثـّرهم بالآداب العـربية والثقافة الغربية ؛ فكل واحد يسابق الآخر في إنشاء أدب يُرضى الجمهورَ في الدول الغربية ، ولايبالى في ذلك بضياع القيم الأخلاقية والدينية . وكل ما يهدف إليه هو اكتساب شهرة في العالم . ويمكن أن نشير إلى أسماء بعض الروائيين الإباحيين في العقد الأخير للقرن العشرين ، وهم مجدى قطب ، كرمة سامى ، شهاب سلطان ، كمال صلاح رحيم ، ممدوح القديري الفلسطيني ، إبراهيم مسعود ، يوسف الشاروني ، فتحي سلامة نعمات البحيري ، يوسف أبو زيد وغيرهم . هؤلاء المبدعون كتبوا الأدب الإباحي باسم الثقافة ، ونالوا تقديرًا من الأوساط الثقافية الغربية .
3– اشتداد النزعة التحفظية في الأدباء الإسلاميين العرب . هناك كثير من الأدباء الذين يحملون النزعة التحفظية في أدبهم ، يكيلون الكيل بمكيالين ، وهؤلاء انتقدوا الأدباء الإباحيين نقدًا شديدًا لاذعًا ، وكتبوا روايات تهدف إلى وقاية المجتمع العربي في مهالك تحمل العولمة في طياتها . و رغم أنهم ينتقدون الأدب المكشوف والأدب الاباحي ، لكنهم اشتدوا في نقدهم بعد بروز هذه الظاهرة على الساحة الأدبية العربية . ومن بين هولاء نذكر على الأخص ، توفيق الواعي ، ولي الدين يكن ، مرعى مدكور ، سيد عاشور أحمد ، أحمد الشطي ، وحسين علي حسين ، إبراهيم علي يوسف الشامي وغيرهم .
هذه كانت بعضُ الآثار للعولمة على كتابات الأدباء العرب في العقد الأخير من القرن العشرين . عندما برزت العولمة على الساحات الثقافية والأدبية ظهرت هناك آراء متضاربة في الأدباء العرب حول العولمة ؛ فمنهم من يدعو إلى التفاهم معها ، ومنهم من يعارضها ، ومنهم من يدعو إلى أسلمة العولمة ، التي تعنى إعطاء هذه الظاهرة طابعاً إسلاميًّا ينحاز إلى وحدة فكرية إسلامية ، واستخدامها لصالح الإسلام في شتى بقاع الأرض . نحاول عرض هذه الآراء بشيء من التفصيل في الصفحات التالية :
1- الرأى المعارض للعولمة
يعتقد كثير من الأدباء العرب ، أن العولمة مصطلح اقتصادي وسياسي بحت ، يحاول اليهود من خلال تعميمها ونشرها الهيمنة الاقتصادية والثقافية والسياسية على العالم كله ، حتى أن بعضًا منهم ترجموا الكلمة الإنكليزية المعبرة عن هذا المفهوم الجدلي بكلمة «الهيمنة» .
كتب «جارودي» الكاتب الإسلامي الفرنسي الشهير أروع مؤلفاته بعنوان «حوار الحضارات» وصف فيه ما صنعه الغربيون طوال تاريخهم بشعوب العالم الأخرى ، بأنهم صنعوا «الشر الأبيض» وأطلق هذا الوصف وصف «إمبراطورية الشر الأبيض» على الغربيين ، ويقول : «إن الأمم الغربية كانت دائمة السطو على إنجازات الآخرين ، ودائمة الاعتداء على حقوقهم وأراضيهم ومواردهم تحت حجج واهية ودعاوٍ فارغة لا تنطلى على أحد ، ولكن هذه الدعاوي الفارغة كانت تفرض نفسها على الآخرين بالقوة العسكرية» (6) .
إن ما قدّمه جارودي في هذا الكتاب الهام من تعرية لما يسمى بالحضارة الغربية ، خوّف الأمم الشرقية من خطر القوى الغربية التي تحاول السيطرة على الآخرين بإطلاق الشعارات الجوفاء مثل العولمة والديمقراطية والعلمانية وغيرها.
2- الرأى الذي يدعو للتفاهم مع العولمة :
هناك رأى آخر يدعو للتفاهم مع مفهوم العولمة؛ لأنّه يوجد لكل مفهوم جانبان : إيجابي، وسلبي ، فلابدّ من أن نأخذ ونستفيد من إيجابيات العولمة ونتفادى سلبيّاتِها . يرى الدكتور العسكري – كاتب كويتي معاصر – بأن الثقافة الإسلامية هيمنت على ثقافات أخرى كانت قد سبقتها ، حتى أصبحت هذه الأمم تابعةً للثقافة العربية والإسلامية في لغتها وآدابها . والسبب أنّها كانت قوة جديدة وصاعدة ، لهـا قيمُها ومبــادئُها فأثـّرت فيما حولها وسادتها . وهو نفسُ ما يحدث الآن من وجود قوة صاعدة بيدها مفتاحُ التقدم والتحضر. وبالتالي تنشر نفوذَها على القوى الأخرى(7).
فعلينا أن نشارك في هذا النظام ؛ لأن مصير الذي لا يلحقه سيكون العزلة . ولا نستطيع المقاومة . وإذا كان هناك ضرورة للمقاومة فلماذا لاتكون من داخل النظام نفسه نفعل فيه ونتفاعل معه ، و نستفيد من كل إمكاناته وإنجازاته مع الحرص التامّ على بقاء هويتنا كأمة عربية إسلامية . وتوجد لهذا النظام إيجابيّات ، منها أنّها وسّعت انتشارَ الكتاب على مستوى العالم ، وبفضلها تُطْبَع ملايينُ النسخ لرواية أو ديوان شعر . ثم لا تنسَ أن الدول المهيمنة على العولمة لاتستطيع أن تحتكر نتائجَها ؛ حيث تصبح هذه النتائج ملكاً مشاعًا للجميع ، ويستطيع كل واحد من استخدام آليّاتها بسهولة ، مثل الكمبيوتر ، والإنترنت ، وغيرها من التقنيات . إذن يجب علينا أن لا نخاف سلبياتها ؛ بل ينبغي أن نشحذ أذهاننا ونسارع خطانا للَّحاق بها كغيرنا من الشعوب المتقدمة .
3- رأى يدعو إلى أسلمة العولمة
هناك كثير من المفكرين والأدباء الإسلاميين الذين يدعون إلى أسلمة العولمة وآلياتها . و يعني ذلك استخدام نظام العولمة في جميع المجالات لصالح الإسلام، ويؤكدون أن الإعلام الغربي لعدائه السافر للمسلمين ، عرَّف الناس بهذا الدين ، ومهَّد لنا الطريق للوصول إلى قلوب أولئك الذين لم يسمعوا عن هذا الدين الحق حتى الآن . والحقيقةُ أن جوهر الدين الإسلامي يرتكز على أن الخطاب القرآني مُوَجَّهٌ للناس جميعًا ، وليس لقبيلة أو قوم أوحتى للمسلمين فقط ؛ بل إن القرآن يخاطب البشر جميعًا بلا استثناء . والدليلُ على ذلك أن كثيرًا من آياته تبدأ بنداء إلى الناس كافة كقوله تعالى : «يـٰـأَيُّهَا الناسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الآية 13 ، الحجرات) هذا الخطاب ليس مُوَجَّهًا للمسلمين فقط ، ولكن للجنس البشري برمّته ؛ فالناس جميعًا يتكوّنون من ذكر وأنثى ، وليس المسلمون فقط ، ويعيشون على الأرض في قبائل وشعوب . فالناسُ يعيشون في قبائل وشعوب ويتعارف بعضُهم ببعض .
ولم يلتصق اسمُ النبي محمد ﷺ بكلمة قوم ولم يرد في الخطاب القرآني تعبير (قوم محمد) بل كان الخطابُ المُوَجَّه إلى الرسول ﷺ مصوغًا بصيغة مختلفة تماماً عمّا ورد بالنسبـة لجميع الأنبياء والرسل السابقين . يقول الله عز وجل : «قُلْ يـٰـأَيُّها الناسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيْرٌ مُبِيْنٌ» (سورة الحج ، الآية 49)
ولم يرد في الخطاب القرآني تفضيلُ قومٍ على قوم آخرين ، وإنما اعتبر الناس جميعًا أمة واحدة «إِنَّ هـٰـذِه أُمّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْنِ». (الأنبياء، الآية92) ولا يقرُّ الإسلام العنصريةَ أو التحيز لجنس على آخر أو تفضيل لون على لون ، وإنما جاء ذكر الألوان في الخطاب القرآني للدلالة على قدرة الله في الخلق : «وَمِنْ آياتِه خَلْقُ السَّمـٰـواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ في ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالَمِيْنَ (الروم ، الآية 22) وجاء الحديث الشريف ليؤكد أن لا فضل لقوم على قوم أو للون على لون ، وإنما معيارُ التفضيل عند الله يرتكز على دعامة مختلفة تماماً : «كلكم لآدم وأدم من تراب ، لافضل لعربي على أعجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (8) هذه هي المساواة المطلقة بين البشر بدون تفرقة أو عنصرية أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العرقية أو اللغة أو حتى الدين . مادام المعيارُ كما جاء في الحديث الشريف هو لفظ «التقوى» إنّ هذه المبادئ التي أرساهـا الدينُ الإسلامي وأعلنها الرسولُ محمد ﷺ منذ 14 قرنًا من الزمان ، هي نفس المبادئ والمعايير التـي أقـرّهـا الميثاق العالمي لحقــوق الإنسان منذ خمسين عامًا .
إن الإسلام دين عالمي يصلح لكل زمان و مكان ، والرسول ﷺ هو رسول عالمي ؛ بل إنه النبي الوحيد الذي لم يُرْسَلْ إلى قوم بالتحديد ، بل إنما بعث للنّاس كافّةً ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ . تقول الدكتوراة فوزية العشماوي ، أستاذة بقسم الدراسات الأدبية الإسلامية ، كلية الآداب ، بجامعة جنيف :
«إن الرسول محمد ﷺ بعث إلى الأمم جميعًا ، واذا ترجمنا كلمة الأمم جميعًا ، نصل إلى معنى قريب لمعنى العولمة أوالعالمية . وهو ما نود الوصول إليه لنؤكد أن الرسالة المحمدية هي رسالة العولمة التي بعث الله بها سبحانه وتعالى رسولَه محمدًا ﷺ منذ أربعة عشر قرناً من الزمان ، قبل أن يكتشف خبراءُ الاقتصاد والسياسة الغربيون المفهومَ الجديد الذي أطلقوا عليه مصطلح العولمة ، والذي لم ينتشر في أنحاء العالم إلا منذ عشر سنوات ماضية» (9) .
إن الأسس والمبادئ والقيم التي أقرّها الإسلام قبل 14 قرنًا من الزمان كانت مرتكزة على المساواة والعدل والسلم والتعاون والالتزام بالمواثيق والعهود ، إذن يناسب لنا أن نتفاعل مع هذا النظام، ونخدمه لصالح الإسلام عن طريق كتاباتنا الأدبية ، والنشاطات الثقافية والاقتصادية والسياسية . لأننا لانستطيع أن نقاوم هذا التيار العالمي ، ولا حاجة لنا لمقاومتها مادام يخدم مصالحنا الإسلامية والقومية العربية .
بعد عرض هذه الآراء المتضاربة حول مفهوم العولمة والتفاعل معها ، أرى من المناسب أن تساير الآدابُ العربية والإسلامية مع المعايير الدولية على نحو يحفظ على الأمة العربية والإسلامية ذاتيتها الثقافية والحضارية والدينية . فلا تقع في أسر التقليد للماضي حرفيًّا ، ولا تتحول إلى تابع ذليل للحضارة الغالبة ، فتنطبق عليها مقولة ابن خلدون «المغلوب مُوْلَعٌ بتقليد الغالب» (10) .
ومن المعلوم أن الحياة متحركة متطورة ، دائمة الشباب ، مستمرة النمو ، تنتقل من طور إلى طور ، ومن لون إلى لون ، لا تعرف الوقوف ولا الركود ، ولا تصاب بالهرم والتعطل ، فلا يسايرها في رحلتها الطويلة المتواصلة إلا نظام حافل بالحركة والنشاط ، ولا يتخلّف عن ركب الحياة . ومن المقرر أن التجديد يطرأ على كل مرفق من مرافق الحياة ، فالعادات والتقاليـد والأدب والنظرات السياسية تتجدد ؛ لأن كل هذه الأشياء وليدة الزمان ، والزمانُ في تجدد مستمر ، وحركة دائبة .
وإن آدابنا العربية منذ كانت لم تقف عند حد المأثور، وإنما طرأت عليها تجديدات في أشكالها ومضامينها في كل عصر من العصور الأدبية ، ولاسيما في عصور الازدهار والقوة التي تلاقت فيها الأفكار العربية و الأجنبية ، وحدث بينهما امتزاج معتدل .
وبناء على ما سبق يمكن لنا القول بأن الآداب العربية يمكن لها الاستفادة الشاملة من آليات العولمة ، وإثراؤها من تجارب الأمم الأخرى في العالم بدون الذوبان والانصهار في بوتقة الآداب الأجنبية .
* * *
الهوامش
- الأهرام الأدبي ، 15 يناير 1998م .
- مقالة نشرت في الأهرام الأدبي بعنوان : مفهوم العولمة قراءة تاريخية للظاهرة .
- الأدب الإسلامي : قضايا وآراء ، للدكتور سامح كُريّم . طبع في بيروت 2003م .
- Understandings child psychology. P. No. 18
- رواية «القود» (مقدمة) ص 7 ، دارالمعارف بمصر 2004م.
- حوار الحضارات للجارودي . ترجمة إلى العربية عبد المعطى حجازي ، ص: 57 .
- عولمتنا على النقيض من عولمتكم . ترجمة محمد سيف ص: 75 . صدر عن مكتبة الرسالة بالقاهرة عام 2001م .
- مشكاة المصابيح في باب التفاضل ، ص: 418 ، صدر عن مكتبة عزيزية ، بديوبند ، بالهند .
- الأهرام السياسي ، 4 سبتمبر 1998م ، القاهرة .
- مقدمة ابن خلدون ، ص: 114 .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1426هـ = ديسمبر 2005م ، العـدد : 11 ، السنـة : 29.