إشراقة
كنتُ – عندما كنتُ غلامًا غِرًّا غيرَ مُجرَّب (على صيغة اسم المفعول، وهو الفصيح) – أُسِيئُ الظنَّ حتى بالصالحين، عند ما كنتُ أجد أولادهم فاسدين مُدَمَّرين خلقيًّا لا ينزلون على مستوى والديهم في الصلاح؛ لأني كنتُ أظنّ أنهم كانوا قادرين على إصلاحهم وترويضهم على ترك السيئات واتيان الحسنات؛ لكنهم تَغَاضَوْا عن ذلك، وقَصَّرُوا تمامًا في تربيتهم، ومارسوا معهم الدلالَ الزائدَ، والعطفَ المتجاوزَ الحدَّ المطلوبَ، مما ساعد على إفسادهم والشذوذ بهم عن الصراط المستقيم، فكنتُ أُحَمِّل الصالحين كاملَ المسؤولية في فساد أولادهم وتعوّدهم المفاسد وضراوتهم بالمساوئ التي أَدَّتْهم إلى البطالة في الحياة وخلوّهم تمامًا من القدرات العملية التي ينتصر بها المرأ في معارك الحياة.
كنتُ أقول: إن تهاونهم فيما يتعلق بأولادهم، هو الذي أَفْسَدَ أولادَهم لهذ الحدّ، الذي أساء سمعتَهم، وجعل الناسَ ينتقدونهم؛ وإنّ الصلحاء بكونهم لَيِّنِي الجانب وحلماء في التعامل مع الكل قد لا يُوَظِّفون الشدّةَ والجِدَّ في المواقف التي تتطلبهما، فيؤدي ذلك إلى فساد أيّ فساد للأمور التي لا تقبل اللينَ والتهاونَ.
كنتُ أقول: كيف يجوز أن يكون الرجل صالحًا، ولايكون أولاده صالحين؟. لقد كان ذلك من المستحيل لديّ، فكنتُ أقول: إن الصلحاء ليسوا صلحاء أصلًا، وإنما هم رجال عادِيّون من رجال الشارع، إن أخذنا بالحيطة، فلم نقل: إنهم بدورهم فاسدون من الداخل تَلَبَّسُوا الصلاحَ، لتحسين سمعتهم، وتلميع شخصيتهم، وتحقيق ما يودّون من وراء ذلك من المكاسب والأغراض التي يسهل تحقيقها عن طريق ارتداء الصلاح، لأن أبناء المجتمع يُعْجَبون بالصالحين إعجابًا لا يُعْجَبُونه بغيرهم.
ولمّا تعلمتُ، وبلغتُ الرشدَ العقليَّ والفكريَّ، وجَرَّبْتُ الحياةَ، وحلبتُ الدهرَ أَشْطُرَه، وعرفتُ كثيرًا من أمور الحياة على ما هي عليه، علمتُ أن سوء ظني بالصالحين فيما يتعلق بأولادهم غير صحيح ألبتة؛ لأنّ أيَّ والد صالحًا كان أو طالحًا لايرضى أبدًا أن يَفْسُدَ أولادُه وتسوء أخلاقُهم ويعودوا باطلين ضائعين في الحياة. إن الوالد لايرضى بفساد أولاده، ويحاول بكل حيلة متاحة أن يأخذ أولاده بالإصلاح والتربية والتقويم، وبكل ما يجعلهم لائقين لتأدية دورهم في الحياة، ويَحْسُنُوا دينًا ودنيًا، ويجملوا لدى الخلق وربّه.
ولكن الصلاح إنما هو موهوب من الله كالهداية مقابل الإضلال، ليست إلّا بيد الله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (القصص/56)
فربّما يحدث أن ما يبذله الوالد من الجهد والوقت والتدبير على إصلاح الأولاد، يذهب سُدًى، ولا يُجْدِي نفعًا؛ لأن الله يكون قد كتب عليهم الضلالَ والفساد، فلا يعيرون له استماعًا، ولا يُصْغُون إليه بالقلب؛ لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة، وعلى بصيرتهم حجابًا، وعلى قلوبهم وعقولهم وقرًا، فلا يُؤَثِّر فيهم الوعظُ، ولا ينفع فيهم النصحُ، ولا يجدي شيئًا فيهم همُّ الوالد، وعناية المُرَبِّي، وعطفُ الأستاذ، ومواساة المخلصين، وتألم الصالحين، واحتراق محبي الخير، وملامة الأقرباء، ومتابعة المحسنين من عامة الناس.
كثيرًا ما يحرص الصالحون على أن يجعلوا أولادهم نسخة من أنفسهم في الصلاح والتقوى والعفة والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة؛ ولكن محاولاتهم كلها تبوء بالفشل، فيتجرعون الأحزان، ويتشرّبون الآلام، ويئنون تحت أعباء المصاعب والمتاعب، تحسُّبًا للفشل الذي أصيبوا به في إصلاح الأولاد و وضعهم على صراط مستقيم وعلى مسار قويم. والأمر قد لايتوقف على عامة الصالحين وإنما يتعدّاهم إلى الأنبياء، فهذا نوح – عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة مما يعدون يدعوهم وابنه إلى الله وترك عبادة الأوثان والأصنام؛ ولكنه لم ينجح أن يصلح ابنه فضلًا عن قومه؛ وهذا إبراهيم – عليه السلام- ظل يدعو طَوَالَ حياته قومه ووالده «آزر» إلى ترك عبادة الأصنام إلى الله وحده؛ ولكنه لم ينجح في ذلك، وإنما باءت جهوده بالإخفاق؛ وهذا سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حاول جهدَه أن ينطق عمه الحبيب أبو طالب لدى موته بكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولكنه لم ينجح في ذلك، ومات على دين آبائه وقومه.
الذنبُ في ضلال أو فساد الأبناء أو الآباء أو الأقرباء لايرجع أبدًا إلى الصالحين والمصلحين والمربين، وإنما يرجع أولًا وأخيرًا إلى الضالين والفاسدين من الأولاد والآباء والأقرباء؛ لأنهم يسلكون كلَّ سبيل يكون بوسعهم إلى إصلاحهم وتربيتهم، ولا يتهاونون أبدًا – كما يظن الناس – في اتخاذ كل تدبير من شأنه أن يصلحهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويُحَوِّلهم جديرين بالثناء والتقدير، فيصيرون سببًا إلى إحسان الظنّ بوالدهم وبمربيهم أو قريبهم الذي كان ذريعة إلى صلاحهم.
إن الأولاد الصلحاء نعمة كبيرة؛ بل نعمة لا تُقَدَّر بثمن، على الوالدين وعلى جميع أعضاء الأسرة؛ لأنهم يجلبون الثناء عليهم، ويجعلون أبناء المجتمع يُحْسِنون الظنّ بهم، ويُرْجِعُون الفضلَ في صلاحهم وأهليتهم إليهم، فيُقَدِّرُون ويُحَبِّذُون ويُقَرِّظُون ما فيهم من القدرة على التربية والتأهيل، ويغطبونهم على ما رزقهم الله من النعمة الغالية السامية المُتَمَثِّلَة في الأولاد الصالحين الـمُؤَهَّلِين القادرين على العمل والإنتاج.
وبالعكس من ذلك إن الأولاد الفاسدين، نقمة كبيرة على الوالدين ومن يتصل بهم بالقرابة والنسب؛ لأن الناس يظنون أن الآباء ومن إليهم من الأقارب هم الذين تَسَبَّبُوا في فسادهم وكونهم يسلكون طريق الضياع والبطالة فاقدين القدرةَ على العمل والعطاء.
قد يكون الإنسان متصلًا بالنسب بالسادة الأشراف من أولاد فاطمة – رضي الله عنها- أو بأولاد سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – ولكنه لاينزل على مستوى هذا النسب الشريف الزكي؛ بل يخالفه بقوله وفعله وسلوكه وسيرته، فيكون سُبَّة عار عليه، فيكون حجة بأيدي من يعادون هؤلاء العظام من الرعيل الأول من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الشيعة والخوارج والروافض الذين ينتقدونهم انتقادًا عنيفًا ويَتَّهِمُونهم بالكفر والزندقة وملازمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أجل أن يتسلّموا السلطة بعده.
وقد صدق الشاعر العربي العباسي الشهير المتنبئ (أحمد بن الحسين الجعفي الكندي:303-354هـ = 916-965م) إذ قال يمدح أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي الفاطمي:
إذَا لَـمْ تَكُنْ نَفْسُ النَّسِيبِ كَأَصْلِهِ
فَمَاذَا الَّذِي تُغْنِي كِرَامُ الْـمنَاصِبِ
إِذَا عَلَوِيٌّ لـم يَكُنْ مِثْلَ طَاهِـــرٍ
فَـمَا هُوَ إِلَّا حُجَّـــةٌ لِلنَّــوَاصِبِ
أَمَّا إذا كان أحد نازلًا على مستوى علوّ نسبه بحسن الخلق، وجميل الصفات، وكريم العادات، من السماحة والمروءة، والكرم والندى، والشجاعة وبعد الهمة، فيكون ناصرًا لأصالة نسبه، ومُؤَيِّدًا لها، وباترًا لألسنة المنتقدين المتطاولين. وقد أبان المتنبئ هذا المعنى في بيت آخر في القصيدة التي مدح بها أبا القاسم المذكور:
نَصَرْتَ عَلِيًّا يَا ابْنَـــهُ بِبَــوَاتِــرٍ
مِنَ الْفِعْلِ لَا فَلٌّ لَهَا فِي المضارب
أمَّا إذا كان أولاد الصالحين صالحين مثلَهم في المحافظة على العبادات، والتقيد بأحكام الشرع، والتزام مكارم الأخلاق، والإكثار من الحسنات وفعل الخيرات، واجتناب المنكرات، فإنهم يُقِرُّون بذلك عيون آبائهم، ويثلجون صدورهم في حياتهم، ويستحقون دعاءهم، فتزيد حسناتهم، وتزول سيئاتهم، وترتفع مكانتهم عند الله وعند الناس، ويضمنون لآبائهم ولأنفسهم حسن الذكر، وجميل السمعة بعد الممات.
إن كون الأولاد صلحاء متقيدين بأوامر ونواهي الله أكبر نعمة بعد الإيمان؛ لأنهم يخدمون آباءهم خدمة لائقة، ويؤدون حقوقهم وحقوق جميع أقربائهم، في حياتهم وبعد مماتهم، ويدعون لهم في الحياة وبعد الممات، فيكون صدقة جارية لهم يصل إليهم أجرهم بعد ما تنقطع صلتهم بالحياة. وقد حثّ النبي -ﷺ- على ترك الرجل بعده أولاده صلحاء يدعون له فقال:
«أو ولد صالح يدعو له»
والحديث بكامله كما يلي:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله، إلّا من ثلاثة: إلّا من صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له» (صحيح مسلم:1631).
وحَبَّذَ النبي –صلى الله عليه وسلم- العملَ مقابلَ مجرد النسب الذي لم يُزَيِّنْه العملُ، مما أَكَّدَ أن ارتفاع النسب لا يُغْنِي إذا لم يرفع الإنسانَ عملُه، وأن مدار النجاة يوم القيامة هو العمل الصالح، وليس مجر النسب. وذلك قوله –صلى الله عليه وسلم-:
ومن بطأ به عملُه لم يُسْرِع به نسبه»
والحديث بتمامه كما يلي:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
«من نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا، نَفَّسَ الله عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القيامة؛ ومن يَسَّرَ على مُعْسِر يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة؛ ومن ستر مسلمًا ستره اللهُ في الدنيا والآخرة؛ واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّلَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة؛ وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحَفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده؛ ومن بطأ به عملُه لم يُسْرِع به نسبه» (صحيح مسلم: 3643).
على كل فإن كون الأولاد صلحاء من نعم الله الجليلة، وعطاياه العظيمة على الوالدين وعلى أعضاء الأسرة وعلى الأولاد أنفسهم؛ لأن الناس يُثْنُون على هؤلاء الأولاد كما يكيلون المدح وافيًا للوالدين وأفراد الأسرة، والأكبر من ذلك أن الأولاد الصالحين يُتَاحُ لهم أن يستحقوا الأجر الجزيل عند ربّهم وترتفع درجاتهم بخدمة الوالدين وإطاعتهما والدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، كما يكسبون حسن الذكر وجميلَ الصيت على ألسنة الناس أثناء حياتهم وبعد مماتهم.
ولكن هذا الصلاح الذي يتحلى به الأولاد لايكون من نصيبهم إلّا إذا أراد الله تعالى، وليس بوسع الوالدين، أو المربين، أو المصلحين، مهما تضافرت جهودهم، أن يصلحوا من أراد الله أن يفسدهم. ولكن هذا لا يعني أن يقعد الوالدان أو المربون عن الجهود التي هي بوسعهم؛ لأن الإنسان مُكَلَّف بذلَ الجهد والسعي للحد الذي يقدر عليه. أما النتائج فهي بيد الله تعالى، وهو أعلم بأحوال عباده فإذا علم أن الصلاح يكون خيرًا لفلان قدّره له، ويَسَّرَه عليه ومَهَّدَ السبيلَ إليه، وإذا علم أن الصلاح يكون شرًّا عليه، لم يكتبه له، ولم يُيسِّره له عليه، وزرع في طريقه إليه العوائق التي لا يستطيع بنحو إزالتها، وسَهَّلَ عَليه الفسادَ والضياعَ.
الأقدار بيد الله وحده؛ والعمل بيد الإنسان، فعليه أن يعمل مُوَاصِلًا جهدَه، ويَدَعَ الأقدار تفعل ماتشاء؛ لأن البشر كلهم لو اجتمعوا على أن يُغَيِّروا ما كتبه الله لما قدروا عليه.
يقول الشاعر:
يُرِيدُ المرأُ أَنْ يُعْطَىٰ مُنَاهُ
ويَأْبَىٰ اللهُ إِلَّا مَا يَشَــاءُ
(تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الأربعاء: 11/صفر 1439هـ الموافق 1/نوفمبر 2017م).
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1439 هـ = يناير – فبراير 2018م ، العدد : 5 ، السنة : 42