دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
مذهب دارالعلوم:
تشرح كتابات دارالعلوم مذهبها بما يلي:
«إن مذهب دارالعلوم هو مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب الأحناف، و ما ينسجم مع بُنَاتها العظماء أمثال الشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي رحمهما الله تعالى.
ويجب على كافة أعضاء دارالعلوم والمنتمين إليها الحفاظ على مذهب دارالعلوم، ولن يسمح لموظف أو طالب فيها بأن يشارك في نادٍ أو مؤسسة أو احتفال، تنال مشاركته من مذهب دارالعلوم أو مصالحها»(1).
وأما اتجاه دارالعلوم الديني فقد شرحه الشيخ محمد طيب – رئيس الجامعة – في رسالته «مسلك علماء ديوبند» بأسلوب بليغ جامع شامل. ويتلخص ذلك فيما يلي:
«هذه الجماعة الولي اللاهية من أهل السنة والجماعة بصفة علمية، تقوم على الكتاب والسنة والإجماع و القياس، ترى أن الأصل الأصيل في كافة القضايا هو النقل والرواية وآثار السلف، مما يقوم عليه صرح الدين كله، وترى هذه الجماعة أن مرادات الكتاب والسنة لايمكن تحديدها وتعيينها بمجردة قوة المطالعة؛ بل يجب التقيد في ذلك بأقوال السلف وما توارثوا عنهم من المذاق، بالإضافة إلى ضرورة ملازمة المشايخ والأساتذة والتعليم والتربية.
أضف إلى ذلك أن العقل والدراية والتفقه في الدين مما يشكل جزءًا هامًّا في فهم الكتاب والسنة، فهو يجعل ما يستشف من مجموعة ماروي عن الشارع عليه السلام من الأهداف والأغراض، بين عينيه ثم يرجع الروايات كلها إليه، ويضع كل واحدة منها في مكانه حسب درجاتها، بحيث يتراءى ذلك حلقات سلسلة واحدة. وعليه يشكل الجمعُ بين الروايات والتطبيق بين الأحاديث عند التعارض أهم المبادئ عنده. ويرجع ذلك إلى أنه لايرضى رد أضعف الأحاديث، ما دام محتجا به. وعليه ترى هذه الجماعة أن النصوص الشرعية لاتتعارض بعضها مع بعض، ولاتختلف بعضها عن بعض؛ بل يبدو الدين بحذافيره – بعيدا عن التعارض والاختلاف- طاقة أزهار تتراءى فيها ألوان من أزهار العلم والعمل كلها متفتحة في مكانها اللائق، كما أن هذا المذهب بريء من الرسميات والعادات والأحوال والأقوال التي يتظاهر بها أهل السلوك، ثم إنه يرى حتمًا العناية بتزكية النفس وإصلاح الباطن. وإن هذا المذهب رفع المنتمين إليه علما، كما أنه زودهم بالقيم الإنسانية من العبودية والتواضع وهضم الذات. ومعتنقو هذا المذهب قد بلغوا ذروة الوقار العلمي والاستغناء- بالحيثية العلمية- وغناء النفس–بالحيثية الخلقية- في جانب، وفي جانب آخر نالوا حظا وافرا من التواضع وهضم الذات والإيثار والزهد، فلم يكونوا فريسة للرعونة والكبر والعنجهية، ولاتَعَرَّضُوا للمذلة والمسكنة. وحيث تراهم فوق الناس جميعا بالنظر إلى ذروة العلم والأخلاق التي وصلوا إليها، إذ تجدهم قد تحلوا بمعاني التواضع والانكسار وهضم الذات واللا امتياز، فخالطوا الناس وأصبحوا «كأحد من الناس». وفي حين تراهم منعزلين لمجاهدة النفس والمراقبة لله تعالى تراهم معمورين بروح الغزو والجهاد و الخدمة القومية. وحاصل القول أن الوسطية والاعتدال في كافة شؤون الدين مِيزةٌ يمتاز بها مذهبهم من أجل المزيج من عواطف ودواعي الخلوة والجلوة ومجاهدة النفس والجهاد، مما يشكل ثمرة طبعية لجامعية العلوم و الاعتدال في الأخلاق. فلايعني عندهم كون الرجل محدثا أن يعادي الفقيه، أو كونه فقهيا أن يكره المحدث، أو الاتصاف بالنسبة الإحسانية (التصوف) معاداةَ المتكلم، أو الحذق في علم الكلام كراهيةَ التصوف؛ بل ثبت أن المتخرج على هذا المذهب الجامع يجمع – في وقت واحد- بين التحديث والفقه والتفسير و الإفتاء والكلام والتصوف (الإحسان) والحكمة والتربية. ويتصف بالزهد والقناعة بجانب عدم التقشف، وبالحياء وهضم الذات بجانب عدم المداهنة في الدين، وبالرأفة والرحمة بجانب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وبالانصراف القلبي بجانب الخدمة القومية، ويرسخ فيه عواطف الخلوة وهو مع الناس يخالطهم، كما رسخت عواطف الاعتدال في العلوم والفنون وأصحابها، ومعرفة الحقوق وأدائها فيه كأنها من جوهر نفسه. وعليه يرى أصحاب هذا المذهب أن أصحاب الفضل والكمال في جميع شعب الدين و الراسخين في العلم، سواء كانوا محدثين أو فقهاء أو صوفية أو عرفاء أو متكلمين أو أصوليين أو أمراء الإسلام أو الخلفاء؛ كلهم يستحقون الاحترام والحب. وليس من مذهب هذه الجماعة رفع طبقة من هذه الطبقات أو إنزالها من مرتبتها أو الخروج عن الحدود الشرعية في الثناء أو الذم جريا وراء العواطف والميول النفسانية. وانطلاقا من هذا المذهب الجامع نشرت دارالعلوم – بما قامت من الخدمات – نور العلوم النبوية في «سائبيريا» شمالا إلى «سومطرا» و«جاوا» جنوبا، وفي «بورما» شرقا إلى بلاد العرب و«إفريقيا» غربا، فظهرت سبل الأخلاق الزاكية جلية واضحة.
وفي جانب آخر لم يتخَلَّ خريجوها عن الخدمات السياسية والإقليمية حينا من الدهر، حتى قدّم أصحاب هذه الجماعة أكبر التضحيات بألوانهم الخاصة منذ عام 1803م إلى عام 1947م، مما تحتفظ به صفحات التاريخ. ولايسع أن يسدل الستار على خدمات هؤلاء العظماء السياسية والجهادية أبدا، وخاصة في النصف الأخير من القرن الثالث عشر الهجري، إذ كانت الحكومة المغولية تلفظ نفسها الأخير. وما قام به كل من الشيخ محمد قاسم النانوتوي والشيخ رشيد أحمد الكنوهي بإشراف شيخهما: شيخ المشايخ الحاج إمداد الله – قدس الله سره- وكذلك أصحابهما ومنتسبوهما من مساعي الثورة، والخطوات الجهادية، والجهود الفدائية لتحرير البلاد واستقلالها، وما صدر من أوامر ضبطهما وإحضارهما ثم تعرضهما للحبس والسجن ونحو ذلك من الحقائق التي لاتنكر ولاتنسى أبد الدهر. والذين يحاولون إسدال الستار على هذه الأوضاع؛ إذ لم يكتب لهم المشاركة في سبيل النضال هذه، فإنهم لايزيدون إلا خمولا وضياعًا لأنفسهم. والكتابات التي تنفي خدمات هؤلاء العظماء الجهادية – سواء صدرت ممن ينتمي إلى الديوبندية أو إلى غيرها من الجماعات-لايعبأ به أصلا عند خبراء تاريخ الهند وأصحاب التحقيق في ذلك. وأقصى ما يمكن أن نؤوِّل به هذه الكتابات – إذا أحسنَّا الظن بها- أن نقول: إن هذه الكتابات تشكل تظاهرا للحزم والحيطة لحد نفسه نتيجةَ العوامل الهائلة، وإلا فإن الشواهد التاريخية والوقائع لا تولي لها أهمية أصلا، وليست هي مما يعبأ به. كما استمرت هذه الخدمات في الأجيال اللاحقة. فبرز أخلاف هؤلاء الأسلاف – بما ورثوه من العواطف- للخدمات الدينية والوطنية بصورة نضالية، فشاركوا في الخطوات الثورية في وقتها بما يمليه عليهم واجبهم ومنصبهم، سواء كانت حركة الخلافة أو حركة تحرير البلاد.
والحاصل أن الجمع بين العلم والأخلاق مما تفتخر به هذه الجماعة. وخدمة الدين والدولة مع سعة النظر واستنارة الضمير والتسامح تعد شعارهم الخاص، غير أن قضية تعليم علوم النبوة من بين شعب الحياة كلها تحتل الأهمية القصوى في منظور هذه الجماعة. في حين أن هذه الشعب لايمكن ممارسة شيء منها على الوجه الصحيح إلا في ضوء العلم. فأبرزت هذه الجماعة هذا الجانب من شعب الحياة. وعليه تتلخص جامعية هذه المذهب في أنه يجمع بين العلم والمعرفة، وبين العقل والعشق، وبين العمل والأخلاق، وبين المجاهدة والجهاد، وبين الديانة والسياسة، وبين الرواية والدراية، وبين الخلوة والجلوة، وبين العبادة والمدنية، وبين الحكم والحكمة، وبين الظاهر والباطن، وبين القال والحال. وهذا المذهب الذي تم استقاؤه من النسبة إلى السلف والخلف إذا أخضعناه للكلمة الاصطلاحية فإنه يتلخص في أن دارالعلوم مسلمة دينا، وأهل سنة وجماعة فرقةً، وحنفية مذهبًا، وصوفية مشربًا، وماتريدية وأشعرية كلامًا، وجشتية سلوكا؛ بل جامعة بين السلاسل، وولي اللاهية فكرًا، وقاسمية أصولاً، ورشيدية فروعًا، وديوبندية نسبتًا.
وحيث تم إعداد رسالة مستقلة باسم «مسلك دارالعلوم» فنحن في غنى عن سرد مزيد من التفاصيل في ذلك، وإنما اقتبسنا في هذه المقالة جملا جامعة، وللاستزادة منه يرجع إلى هذه الرسالة(2).
وسبب آخر يغنينا عن مزيد من التفصيل هو أن الشيخ – محمد طيب- أوضح ملامح هذا المذهب في مقدمة التاريخ، نعم كانت هذه المادة المنثورة في حاجة إلى التلخيص، فهي بقلم الشيخ محمد طيب نفسه بطلب مني فيما يلي:
وملخص هذه المقالة أن مذهب أهل الاعتدال هذا يقوم على سبعة أسس، نوردها مع توضيح مختصر فيما يلي:
1. علم الشريعة:
ويضم كافة أنواع الاعتقادات والعبادات والمعاملات وغيرها. وحاصلها الإيمان والإسلام، شريطة أن يكون هذا العلم – علاوة على التقيد بأقوال السلف وتعاملهم- مستقى من تعليم وتربية العلماء الثقات والمربين للقلوب، وملازمتهم ومصاحبتهم، الذين يتصل إسناد ظاهرهم وباطنهم وعلمهم وعملهم وفهمهم وذوقهم بصاحب الشريعة عليه أفضل الصلوات والتحيات. ولايكون رياء أو مجرد نتاج قراءة الكتب و قوة المطالعة أو السعي العقلي، والجهد الذهني، وإن كان حافلا بأسلوب البيان العقلي والبرهان الاستدلالي؛ فإنه لايمكن التمييز بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمباح وغيره، والسنة والبدعة والمكروه والمندوب بدون هذا العلم. كما تتعذر الوقاية من التخييلات الطفيلية والنظريات الفلسفية والتوهمات غير البصيرة بدونه.
2. اتباع الطريقة:
أي استكمال تهذيب الأخلاق وتزكية النفس وسلوك الباطن في ضوء سلاسل الصوفية وأصولهم المجربة المستقاة من الكتاب والسنة النبوية؛ إذ لا يتأتى الاعتدال في الأخلاق والاستقامة في الذوق والوجدان، و البصيرة الباطنية والطهارة العقلية ومشاهدة الحقيقة بدون ذلك. ولاشك أن هذه الشعبة على صلة بالإحسان بجانب علاقتها بالإسلام والإيمان.
3. اتباع السنة:
أي اتباع السنة في جميع شعب الحياة، والإبقاء على أدب الشريعة في كل حال ومقال وفي كل كيفية من ظاهرة وباطنة، وتغليب السنة النبوية المستمرة؛ فإنه لايمكن النجاة من تقاليد الجاهلية والبدعات والمنكرات السائدة ومن حكاية الشطحيات الوجدية وكلماتها بصورة رسمية فحسب مما يوجد عند أصحاب الحال وإن كانوا فاقدين لأحوال الباطن، أو من إعطائها صفة قانون عام بإزاء الشريعة الإسلامية.
4. الحنفية الفقهية:
الفقه عبارة عن الفروع والاجتهادات الإسلامية، وبما أن عظماء ومشايخ دارالعلوم أحناف، فمعنى «الحنفية الفقهية» اتباع الفقه الحنفي في الفروع الاجتهادية والخضوع لأصوله الفقهية في تخريج المسائل و الفتاوى وترجيح بعضها على بعض؛ إذ لايمكن الوقاية من هوى النفس، ولا التجنب من الحذف والشطب في المسائل عن طريق التلفيق بين مختلف المذاهب الفقهية بما يرضي عامة الناس، ومن الاختراعات و التصرفات الجاهلة في المسائل عن طريق القياس الذهني تحت ضغوط الأوضاع الطارئة. ولاشك أن هذه الشعبة على صلة بالإسلام.
5. الماتريدية الكلامية:
أي في الاعتقادات مع الفكر الصحيح على طريق أهل السنة والجماعة والمفهومات التي نقحها الأشاعرة والماتريدية والاستحكام واستقرار القوة اليقينية على الأصول والقواعد الحقة التي رتبوها؛ إذ لايتيسر الوقاية- بدونه- من تشكيكات الزائغين واختراعات الفرق الباطلة القياسية وأوهامها وشبهاتها. ولايخفى أنه شعبة من الإيمان.
6. مكافحة الزيغ والضلال:
أي مكافحة الفتن التي أثارها الجماعات المتعصبة وأصحاب الزيغ، بأسلوب العصر وبيانه، بالإضافة إلى إدراك نفسيات البيئة، وبالوسائل المألوفة، بما يتم به الحجة، مع بذل المساعي لاستئصالها بروح المجاهدة؛ إذ لايمكن إزالة المنكرات وصيانة الشريعة من التدخل الجائر من المعاندين فيها، ويشمل ذلك رد الشرك والبدعة ورد الإلحاد والدهرية، وإصلاح تقاليد الجاهلية، والمناظرات الشفوية والكتابية على قدر الحاجة إليها، وتغيير المنكرات. ولايخفى أن هذه الشعبة على صلة بإعلاء كلمة – كما يقتضيه قوله: ﴿لِتَكُوْنَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا﴾، وبإظهار الدين كما يقتضيه قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ﴾، بالإضافة إلى صلتها بتنظيم الملة بصفة عامة.
7. مذاق القاسمية والرشيدية:
ثم إن هذا المذهب من حيث مجموعه حين مَرَّ بأرواح وقلوب أصحاب التربية الأولين والخبراء بأحوال الأمة من دارالعلوم/ديوبند أمثال الشيخ النانوتوي والشيخ الكنكوهي رحمهما الله تعالى، وبرز للعيان، فإنه استوعى متطلبات الزمان، وتَشَكَّل صورةَ مذاق خاص ولون بعينه، مما عُبِّرَ عنه بكلمة «مشرب»، فقد شرح الدستور الأساسي لدارالعلوم الموافق عليه في شعبان عام 1368هـ بما يلي: «مذهب دارالعلوم/ديوبند هو مذهب أهل السنة والجماعة، يتبع في الفقه المذهبَ الحنفي، وينسجم مع مشرب الشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي قدس سرهما». (دستور اساسي ص6).
وعليه كان هذا الجزء أهم عنصر في المقومات الأساسية لمذهب دارالعلوم/ديوبند، يقوم عملية التعليم والتربية فيها. وهو مما يدخل في الإحسان، في حين أنه على صلة بالتربية الروحانية، فعلم الشريعة واتباع الطريقة واتباع السنة، والحنفية الفقهية، والماتريدية الكلامية، ومكافحة الضلال، ومذاق القاسمية والرشيدية تشكل مقومات لمذهب الاعتدال هذا. وهوما صدق «سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ». وإذا ذهبنا نعبر عن سبع سنابل هذه قلنا: إنها: الإيمان والإسلام والإحسان وإظهار الدين. كما أشرنا إليها في كل واحدٍ منها. فمجموع هذه البنود السبعة مضافًا إليه التفاصيل السابقة هو مذهب دارالعلوم/ديوبند، وإذا أمعنت النظر تبينتَ أنه خلاصة ما جاء في حديث جبرئيل عليه السلام بعينه؛ حيث شرح الرسول عليه السلام – بطلب من جبرئيل عليه السلام- تفاصيل الإسلام والإيمان والإحسان ومكافحة الفتن. واعتبر مجموعها «تعليم الدين»، فلانعدو الحق لو قلنا: إن مذهب علماء ديوبند هو حديث جبرئيل عليه السلام. ونصُّ حديث جبرئيل عليه السلام ما يلي: «عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْـمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ»؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». رواه مسلم ورواه أبوهريرة مع اختلاف وفيه: وإذا رأيت الحفارة العراة الصم البكم ملوك الأرض في خمس لايعلمهن إلا الله ثم قرأ ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ الآية.
ثم إن هذه المقومات الأساسية تقوم على كتاب الله وسنة رسول الله وإجماع الأمة وقياس المجتهد. و الحجتان الأوليان تشريعيتان، تتكون منهما الشريعة، والحجتان الأخيرتان تفريعيتان، تنفتح منهما الشريعة. والحجتان الأوليان خزانة المنصوصات، وهي منقولة، تتطلب الإسناد والرواية، والحجتان الأخيرتان تندرجان في خانة الدراية، مما يتطلب عقلا وفهما حظيا بالتربية، وذهنا وذوقا يتصفان بتقوى الله تعالى. فمذهب الاعتدال هذا عقلي ونقلي أيضا، يتصف بالرواية والدراية معًا، ولكن من حيث لايخرج عن العقل ولايقوم عليه؛ بل هو مزيج من العقل والنقل بصورة متوازنة، وذلك بأن النقل والوحي أصل هذا المذهب، وأما العقل فهو خادم له ومعاون في كل حين.
فمذهب علماء ديوبند هذا لايوافق مذهب المعتزلة العقلي، الذي يعتبر العقل حاكما على النقل، و متصرفا فيه، حيث اعتبروا العقل أصلا، وأما الوحي أو ما يدل عليه فأخضعوه للعقل، فيعود الدين فلسفة محضة، ويتمهد لعامة الناس الطريق إلى الزندقة، ثم لايعود أتباعه السذج على صلة بالدين. كما أن مذهبهم ليس مذهب الظاهرية الذي يجمد على ألفاظ الوحي، ويُعَطِّل العقلَ والدرايةَ، ويودِّع علل الدين وأسراره الباطنة، وحكمه ومصالحه الداخلية، ويسد أبواب الاجتهاد والاستنباط كلها. فأصبح الدين لاحقيقة له؛ بل لامعنى له، وغير منطقي وشيئا جامدًا، وتنقطع صلة أهل العلم والحكمة بها كليا. فيبقى العقل المحض في بعض المذاهب، ويتعطل العقل في البعض الآخر، ولاشك أن ذلك إفراط وتفريط ويصدق عليه «كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا»، والدين الوسط الجامع الشامل براء منه. فالمذهب الجامع بين العقل والنقل للدين هو أن يكون – و لايمكن أن يكون سواه- العقل السليم مقارنا للنقل الصحيح في كافة الأصول والفروع وفي كل حين، غير أنه يجب أن يوفر للدين – بصفته خادما خاضعا وتابعا له – البراهين العقلية والأدلة المنطقية والنظائر الحسية في جميع كليات الدين وجزئياته. فيثبت أن الدين يتقبله كافة أطياف الأمة، وهو دستور شامل عام. وتبدو هذه الأمة خير ماصدق لـ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. وهذا المذهب هو مذهب أهل السنة والجماعة. وعلماء ديوبند ممثلون وحملةٌ لهذا المذهب نفسه. وعليه فهم – انطلاقًا من هذا المذهب الجامع، وتجمع كافة العلوم الدينية في وقت واحدٍ- مفسرون، ومحدثون، وفقهاء ومتكلمون، والصوفية ومجاهدون ومفكرون أيضا في آن واحدٍ. ثم إن امتزاج هذه العلوم من شأنه أن جعلهم يحملون مزاجا معتدلا ووسطا. وعليه يخلو مزاجهم الجماعي من الغلو والمبالغة. وبسبب سعة نظرهم وعمقه لايبادرون إلى التكفير أو شتم وسب أحد من الناس، أو إساءة القول والعناد والحسد والطيش، ولا غلبة الجاه والمال أو التوسع في الملذات والترفيه، وإنما المهم بيان الحكم الشرعي، وإصلاح الأمة أو إحقاق الحق وإبطال الباطل. ولايتسرب إليه النيل من الشخصيات أو بسط الألسنة إليها، أو الطعن والتكبر أو الاستهزاء. وهذه الأوصاف والأحوال بمجموعها عبارة عن مذهب دارالعلوم/ديوبند، ونظرًا إلى هذا الشمول العلمي والعملي امتدت دائرة نفوذها إلى دول العالم كله.
* * *
الهوامش:
(1) دستور أساسي دارالعلوم /ديوبند البند رقم 4-6.
(2) دارالعلوم كي سو ساله زندكي(مئة سنة من حياة دارالعلوم) ص 23-27.
(*) أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر 1439 هـ = ديسمبر2017م – يناير2017م ، العدد : 4 ، السنة : 42