دراسات إسلامية
بقلم: د/ عبد الباسط عز الدين الغرابلي (*)
الله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين عباده، وأنعم عليهم بما لايستطيعون عدَّه من النعم، وجعل بعضهم أدنى حالا، وأضعف شأنا، فتمر بهم الأزمات وتعترضهم النكبات في المأكل والمشرب والملبس، وكثير من حاجاتهم الضرورية التي يحتاجون إليها، وهنيئًا لمن يمد لهم يد العون بكلمة طيبة، أومساعدة عينية أو سبيل يعم خيره ونفعه كثيرًا من الناس، وهذا ما يعرف بالعمل التطوعي في الإسلام، مما جعل المسلم العاقل يسأل نفسه ماذا قدمت من خير للناس ينفعني في الآخرة، ولهذا لا بد من وقفات نبين فيها أهمية العمل التطوعي في الإسلام.
الوقفة الأولى: تعريف العمل التطوعي:
هو عمل غير ربحي أي لا يقدم نظير أجر معلوم، وأيضًا: «هو ذلك الجهد أوالوقت أو المال الذي يبذله الإنسان بصفة اختيارية في خدمة مجتمعه دون انتظار عائد مادي، والهدف منه هو تطوير المجتمع بصورة فردية أو جماعية ويقوم بصفة رئيسية على الرغبة والدافع الذاتي»، وإذا كان هذا العمل بدون أجر في الدنيا فإن أجر الآخرة أكبر وأعظم قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7، 8).
الوقفة الثانية: فضل العمل التطوعي في الشريعة الإسلامية:
حفلت شريعة الإسلام بكثير من النصوص القرآنية والنبوية بدعوة الإنسان إلى مزيد من الأعمال النافعة للناس، ومنذ القديم والعمل التطوعي دليل إلى كل خير، ففي زمن الملك والقائد الصالح «ذوالقرنين» بُني أعظم سد لعزل أهل الشر والفساد من ذرية أبينا آدم «يأجوج ومأجوج» قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ (الكهف:٩٤)، قال ابن عباس: «خرجا» أي أجرًا عظيمًا.
لكن الملك الصالح رد عليهم: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ (الكهف:٩٥)، فكان الجواب هَيَّا نتعاون ونتطوع ونبني السد ونرحم البشرية ونأخذ الأجر من الله تعالى.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حينما رأى جبريل عليه السلام في غار حراء وعاد إلى السيدة خديجة وقال لها: «لقد خشيت على نفسي»، فقالت له: «كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (متفق عليه).
وكل هذه الصفات ابتغاء وجه الله تعالى وعن طيب خاطر، فالله (عز وجل) يقول: ﴿وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْـمَسٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ (البقرة:١٧٧).
ومجالات العمل التطوعي كثيرة منها:
أ – الإصلاح بين الناس بالعدل:
قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰﯨﮩُﻢْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء:١١٤)، فالصلح بين الناس عبادة عظيمة والمصلح يتطوع ببذل جهده وماله من أجل أن يقرب بين القلوب ويزيل الهموم ويقضي على القطيعة، وقد كان الرسول الكريم يصلح بنفسه بين المتخاصمين.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» (رواه البخاري2693).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب: ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى. قال: «صل بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا» (صحيح الترغيب 1828). وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوْا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ (الحجرات:10).
ب – كفالة اليتيم:
اعتنى الإسلام باليتيم لضعفه وحاجته إلى من يتطوع بخدمته فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ (الماعون:1-2)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما قليلا» (البخاري 5304)، وقد أوصى الله رسوله صلى الله عليه وسلم باليتيم بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيْمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ (الضحى:9).
ج – إنظار المعسر أو الوضع عنه:
قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:٢٨٠)، فهنا يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء من باب التطوع، عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله (عز وجل): نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه» (رواه مسلم 1561).
د – إماطة الأذى عن الطريق:
عمل محمود وسعي مشكور، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون – أو سبعون – شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن» (رواه مسلم).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس بالطرقات». قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (متفق عليه). وهذه الأحاديث تدل جملة على أهمية نظافة الأماكن العامة عن طريق التطوع.
الوقفة الثالثة: نماذج من حياة الصحابة والتابعين عن العمل التطوعي:
نبدأها بسيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟» قال أبوبكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبوبكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟» قال أبوبكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟» قال أبوبكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (رواه الإمام مسلم). فهذا عمل تطوعي قام به الصديق -رضي الله عنه-: صام في غير الفريضة، وتبع جنازة وأطعم مسكينا وعاد مريضا، ومثل هذه الأعمال تسهل وتيسر حينما تحضر النية.
وأيضا كان سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتعاهد بعض الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال: طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثرات عمر تتبع». نعم هذا تطبيق الإسلام العملي في فعل الخير مع المحتاجين قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ (المزمل:٢٠).
وأيضًا في عهد الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أصاب الناس جفاف وجوع شديدان، فلما ضاق بهم الأمر ذهبوا إلى الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- وقالوا: يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، وقد أدرك الناس الهلاك، فماذا نفعل؟ قال أبو بكر -رضي الله عنه-: انصرفوا واصبروا؛ فإني أرجو ألا يأتي المساء حتى يفرج الله عنكم، وفي آخر النهار جاء الخبر بأن قافلة جمال لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- قد أتت من الشام إلى المدينة، فلما وصلت خرج الناس يستقبلونها، فإذا هي ألف جمل محملة سمنًا وزيتًا ودقيقًا، وتوقفت عند باب عثمان -رضي الله عنه- فلما أنزلت أحمالها في داره جاء التجار فقال لهم عثمان -رضي الله عنه- ماذا تريدون؟ أجاب التجار: إنك تعلم ما نريد، بعنا من هذا الذي وصل إليك، فإنك تعرف حاجة الناس إليه، قال عثمان: كم أربح على الثمن الذي اشتريت به؟ قالوا: الدرهم درهمين، قال: أعطاني غيركم زيادة على هذا، قالوا: أربعة، قال عثمان -رضي الله عنه- أعطاني غيركم أكثر، قال التجار: نربحك خمسة. قال عثمان: أعطاني غيركم أكثر فقالوا: ليس في المدينة تجار غيرنا، ولم يسبقنا أحد إليك فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطيتنا؟ قال عثمان -رضي الله عنه-: إن الله قد أعطاني بكل درهم عشرة، الحسنة بعشر أمثالها، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا، قال عثمان: فإني أشهد الله أني جعلت ما جاءت به هذه الجمال صدقة للمساكين وفقراء المسلمين، ثم أخذ عثمان يزع بضاعته فما بقي من فقراء المدينة واحد إلا أخذ ما يكفيه ويكفي أهله».
وهو الذي اشترى بئر رومة وحفرها وجعلها لله وهي وقف لعثمان حتى الآن. قال عثمان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيكون دلوه كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان رضي الله عنه» (رواه البخاري). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان» (رواه البخاري). وقد كانت البئر ليهودي وكان يبيع الماء ولو كان مقدار كف اليد، ورفض اليهودي أن يبيعها لعثمان، فقال عثمان: بعني نصفها، وكان عثمان يسقي مجانا في يومه والناس لا يشربون في يوم اليهودي، ثم عرضها اليهودي على عثمان فاشترى النصف الآخر بعشرين ألف درهم، وبعد فترة جاء التجار يعرضون على عثمان ضعفي ثمنها إلى تسعة أضعاف فرفض عثمان، والقصة تتحدث عن نفسها في العمل التطوعي.
سُئل الإمام مالك: «أي الأعمال تحب»؟ فقال «إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أفرج كربات المسلمين». وقال الإمام الشافعي -رضي الله عنه-:
الناس بالناس مادام الحياة بهم
والسعد لاشك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تقضي على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف من أحد
ما دمت مقتدرا فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
وقال عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه-: «أمطر المعروف مطرًا، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا، وإن أصاب اللئام كنت له أهلا».
وختاما: فكل عمل تقدمه لخدمة المجتمع هو في حسناتك يوم القيامة وإليك هذا الحديث الجامع عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضى عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (المعجم الكبير).
* * *
(*) مفتش أول دعوة بوزارة الأوقاف.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41