دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ: محمد أبو صعيليك
ولا يكمل ما نريد إيصاله في موضوع النصيحة إلا بذكر أمثلة حية للنصيحة عند سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم-، إذ هم أقرب إلى عصر النبوة، وأسلم دينًا، وأصفى نفوسًا، وأرق قلوبًا، وأعمق أخوة، وأكثر ألفة، وأقلّ حظًا للشيطان، ولذا فقد اخترت نماذج من نصح هؤلاء، علّ في ذلك ما يدفع الناصح فينا إلى تحريك النصيحة الصحيحة التي يؤجر المرء بها.
النصيحة الأولى
نصيحة جرير بن عبد الله لمن أراد بيع فرسه
أخرج الإمام الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن إبراهيم بن جرير البجلي عن أبيه قال: غدا أبو عبد الله «أي جرير» إلى الكناسة ليبتاع منها دابة، وغدا مولى له فوقف في ناحية السوق، فجعلت الدواب تمر عليه، فمر به فرس فأعجبه، فقال لمولاه، انطلق فاشتر ذلك الفرس، فانطلق مولاه، فأعطى صاحبه به ثلاث مائة درهم، فأبى صاحبه أن يبيعه، فماتحه(89)، فأبى صاحبه أن يبيعه، فقال: هل لك أن تنطلق إلى صاحب لنا ناحية السوق؟
قال: لا أبالي، فانطلقا إليه، فقال له مولاه: إني أعطيت هذا بفرسه ثلاث مائة درهم، فأبى، وذكر أنه خير من ذلك، قال صاحب الفرس: صدق، أصلحك الله، فترى ذلك ثمنًا؟ قال: لا، فرسك خير من ذلك تبيعه خمس مئة حتى بلغ سبع مئة درهم أو ثماني مئة، فلما أن ذهب الرجل أقبل على مولاه فقال له: ويحك انطلقت لتبتاع لي دابة، فأعجبتني دابة رجل، فأرسلتك تشتريها، فجئت برجل من المسلمين تقوده، وهو يقول: ما ترى ما ترى؟ وقد بايعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم(90).
فقه نصيحة جرير بن عبد الله
إذا أجلنا النظر في هذه القصة، وجدنا فيها دلالات عظيمة نذكرها كما يلي:
1- لم يقبل جرير -رضي الله عنه- غبن الرجل بشراء فرسه بأقلّ مما يستحق، وإن كان في ذلك زيادة ثمن يدفعها هو، وهذا جانب من جوانب النصح لعامة المسلمين بعدم الغبن والغش لهم في البيع والشراء.
2- مع زيادة حرصه على غيره أنه أنب مولاه على فعله، ولم يغض طرفه عن الموضوع، ولم يترك القضية لمولاه ليظهر هو بمظهر البريء أمام الناس.
3- يقول ابن حزم: «والخديعة في البيع جملة بلا شك يدري الناس كلهم أن من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوي بغير علم المشتري ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقلّ مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، فقد غشّه، ولم ينصحه، ومن غشّ ولم ينصح فقد أتى حرامًا»(91).
4- وقال ابن حزم أيضًا: «فهؤلاء عمر وابنه، والعباس ، وعبد الله بن جعفر، وأبي، وجرير، ولا مخالف لهم من الصحابة -رضي الله عنهم- يرون رد البيع من الخديعة في نقصان الثمن عن قيمة المبيع»(92).
النصيحة الثانية
نصيحة الحسن والحسين
رأى الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- رجلًا كبيرًا في السن يتوضأ، وكان لا يحسن الوضوء، فأرادا تعليمه، فذهبا إليه، فادعيا أنهما قد اختلفا أيهما حسن الوضوء، أكثر من أخيه؟ وأرادا منه أن يحكم بينهما، فأمر أحدهما بالوضوء، ثم أمر الآخر بالوضوء، ثم قال لهما: أنا الذي لا أعرف الوضوء، فعلماني إياه(93).
فقه نصيحة الحسن والحسين
في هذه القصة دلالات طيبة في موضوع النصيحة نذكرها كما يلي:
1- تحلي الحسن والحسين بلطف الأسلوب في النصيحة حتى إنهما اتخذا وسيلة يمكنهما بها إيصال النصيحة لهذا الرجل، وهي التحاكم إليه في موضوع الوضوء، ولو أتياه بطريقة أخرى لربما تأخرت استجابته لنصيحتهما.
2- لم يشعرا الرجل بشخصيتهما أو نسبهما، ليكون ذلك مدخلًا لقبول النصح منهما.
3- لم يؤنبا الرجل على عدم معرفته بالوضوء رغم كبر سنه، ولم يجعلا من ذلك طريقًا للازدراء بالرجل رغم كبر سنه.
4- لم يعيبا الرجل بالجهل، بل اتجها إلى طريقة يمكنهما بها تعليمه الوضوء دون إحراج له، ودون إساءة له.
5- كانا دقيقين مع الرجل في حوارهما معه، ونصحهما له، مما جعله يقبل نصحهما، ويدرك أنه أحوج إلى تعلم الوضوء بدل أن يقوم بوظيفة الحكم بين هذين الشابين.
6- طبقا سنة جدهما (في احترام الكبير والعطف على الصغير.
النصيحة الثالثة
نصيحة الإمام مالك بن أنس لأحد خلفاء عصره
تكلمنا سابقًا عن النصيحة ومجالاتها، ولقد كان من المجالات الحكام، ولقد حرص علماؤنا على نصح الحكام بما يسدد مسيرة الدولة، ويبرئ ذمة العلماء، وهذا كان منهجًا لعلمائنا -رحمهم الله تعالى-، وقد كان من أولئك الناصحين إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-، فقد كتب إلى الخليفة هارون الرشيد رسالة ينصحه فيها، ويقول:
أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشدًا، ولم أدخر فيه نصحًا، تحميدًا لله وأدبًا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فتدبره بعقلك، وردّد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثم أعقله قلبك، وأحضر فهمك، ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله في الآخرة.
اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه ما هو نازل بك منه، وما أنت بموقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه، ثم الحساب، ثم الخلود بعد الحساب.
وأعدّ لله – عزّ وجلّ– ما يسهل عليك أهوال تلك المشاهد، وكربها؛ فإنك لو رأيت سخط الله تعالى، وما صار إليه الناس من ألوان العذاب، وشدة نقمته عليهم، وسمعت زفيرهم في النار، وشهيقهم مع كلوح(94) وجوههم، وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها(95) على وجوههم، لا يسمعون، ولا يبصرون، ويدعون بالويل، والثبور، وأعظم من حسرة إعراض الله عنهم، وانقطاع رجائهم، وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله: ﴿اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ (المؤمنون: من الآية108).
ثم قال له: لا تأمن على شيء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلغني عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «شاور في أمرك الذين يخافون الله».
احذر بطانة السوء وأهل الردى على نفسك؛ فإنه بلغني عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما من نبيّ ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا)(96).
ثم قال: لا تجرّ ثيابك؛ فإن الله لا يحب ذلك، فقد بلغني عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من جرّ ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)(97).
اطع الله في معصية الناس، ولا تطع الناس في معصية الله، فقد بلغني عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(98).
فقه نصيحة الإمام مالك
تلكم هي فقرات من نصيحة الإمام مالك لهارون الرشيد، والناظر فيها يجد أن ثمة دلالات يمكن أن تلمح في هذه النصيحة، ومن هذه الدلالات نذكر ما يلي:
1- كانت النصيحة المسداة هنا شاملة تحوي كل معاني الإيمان، وفي هذا يقول الأستاذ عبد العزيز البدري -رحمه الله-: «احتوى هذه الرسالة على كل معاني الإيمان، والدعوة إلى التمسك بأحكام الإسلام وحدوده وآدابه»(99).
2- هذه النصيحة خالصة لله صادقة خرجت من قلب صادق، يقول البدري في وصفها:
«وهي موعظة حقًا تجل منها القلوب، ونصيحة صادقة تذرف منها العيون، وتقرب المسلم من ربه لينال رضاه، إن انتصح بها، واستمع إليها، وجعلها موضع التطبيق والتنفيذ»(100).
3- قوبلت هذه النصيحة بالقبول من المنصوح وهو هارون الرشيد، وهذه ثمرة النص المرجوة منه.
4- نصيحة الحاكم أعمق أثرًا، وأشدّ خطرًا من نصيحة أفراد الرعية، وبخاصة إذا صدرت من عالم ورع تقي، وفي هذا يقول الأستاذ البدري: «وكانت النصيحة وانتصاحهم للحاكم في مقدمة المنتصحين؛ لأن نصيحتهم فيها الخير كل الخير لهم، ولمن يتولون أمرهم»(101).
5- جوانب النصح للحاكم عند مالك متعددة، وفي هذا يقول العلامة محمد أبو زهرة -رحمه الله-: «ولم يقتصر في نصائحه على المخاطبة، بل ينصحهم أيضًا بالمكاتبة برسائل يرسلها إليهم»(102).
النصيحة الرابعة
رسالتان متبادلتان بين الإمامين مالك والليث بن سعد
كان مالك عالم أهل الحجاز، وكان الليث بن سعد عالم أهل مصر، وقد كان في درجة مالك في العلم، حتى قال فيه الشافعي: «الليث أفقه من مالك غير أن أصحابه لم يقوموا به»(103).
ولقد تبادل الإمام مالك النصح مع الليث، فكتب مالك إلى الليث رسالة ينصحه فيها، ورد عليه الليث برسالة كذلك، ولذا فمن الأمانة العلمية أن نثبت نص رسالة مالك أولًا على طولها، ثم رسالة الليث كذلك، ثم نعقب بعد ذلك بذكر دلالات هاتين النصيحتين المكتوبتين.
نص رسالة الإمام مالك
بسم الله الرحمن الرحيم
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه.
كتبت إليك وأنا ومن قبلي من الولدان والأهل على ما تحب، والله محمود، أتانا كتابك، تذكر من حالك، ونعمة الله عليك الذي أنا به مسرور، أسأل الله أن يتم عليّ وعليك صالح ما أنعم علينا وعليك، وأن يجعلنا له شاكرين.
وفهمت ما ذكرت في كتب بعثت بها لأعرضها لك، وأبعث بها إليك، وقد فعلت ذلك وغيرت منها ما غيرت حتى صح أمرها على ما يجب، وختمت على كل قنداق(104)، (أو قال يحي: غنداق) منهال بخاتمي ونقشته حسبي الله ونعم الوكيل، وكان حبيبًا إليّ حفظك، وقضاء حاجتك، وأنمت لذلك أهل وجيرة، وصرت لك نفسي في ساعة لم أكن أعرض فيها لأن أنجح ذلك، فتأتيك مع الذي جاء في بها، حتى دفعتها إليه، وبلغت من ذلك الذي رأيت أنه يلزمني لك في حقك وحرمتك، وقد نشطني ما استطلعت مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك، ورجوت أن يكون لها عندك موضع، ولم يكن منعني من ذلك قبل اليوم إلا أن يكون رأيي لم يزل فيك جميلًا، إلا أنك لم تذاكرني شيئًا من هذا الأمر، ولا تكتب فيه لي.
واعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله – عزّ وجلّ – يقول في كتابه ﴿وَالسّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهٰجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهٰرُ خٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:100). وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدٰﯨﻬُﻢْ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:18).
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحلّ الحلال، وحرّم الحرام، إذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيتبعونه، ويسنّ لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولّي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك اجتهادهم، وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ: «غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله، وعمل بغيره».
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به، لم أر خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة، التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم، فانظر -رحمك الله- فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني لأرجو ألا يكون دعاني إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله، والنظر إليك، والضن بك، فأنزل كتابي منك منزله، فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحًا، وفقنا الله وإياك بطاعته، وطاعة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليك ورحمة الله(105).
نص رسالة الليث بن سعد
بسم الله الرحمن الرحيم
«من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، عافانا الله وإياك، وأحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد بلغني كتابك، تذكر فيه من صلاح حالك الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على الشكر له وبه، والزيادة في أحسنه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت إليك بها، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك.
وقد أتتنا فآجرك الله فيما قدمت منها، فإنها كتب انتهت إليّ عنك، فأحببت أن أبلغ تحقيقها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد نشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، وأنك ترجو أن يكون لها عندي موضع، (أو قال يحي: موقع)، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلًا، إلا أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأنه يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلًا، (أو قال: تفصيلًا) لعلم أهل المدينة الذين مضوا، ولا أخذا بفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا تبعًا لهم، فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالسّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهٰجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهٰرُ خٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:100).
فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجنّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، وأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة رسوله، ولم يكتموهم شيئًا علموه، فكان في كل جند منهم طائفة يعملون بكتاب الله، وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- ولم يكتموهم شيئًا علموه ويجتهدون رأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجنادهم ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الخلافة لكتاب الله، وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم-، فلم يتركوا أمرًا فسره القرآن، أو عمل به النبي –صلى الله عليه وسلم- أو ائتمروا فيه، إلا علموه، فإذا جاء أمر عمل به أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، لم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم، حتى ذهب أكثر العلماء، وبقي منهم من لا يشبه من مضى، مع أن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة، لولا أني عرفت أن قد علمتها، كتبت إليك بها.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، حضرناهم بالمدينة، وغيرها، ورأيتهم يومئذ في الفتيا: ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن – رحمة الله عليهما – فكان من خلاف ربيعة – تجاوز الله عنه – لبعض ما مضى، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي السن من أهل المدينة: يحي بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير، وممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما موافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن عمله(106).
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا، فربما كتب في الشيء الواحد – على فضل رأيه وعلمه – بثلاثة أنواع، ينقض بعضها بعضًا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك الأمر، فهو الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت أن مما عبت إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة، بما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، ولم يجمع إمام منهم قط في ليلة المطر، وفيهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ)(107). ويقال: يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة(108)، وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
وقد كان أبو ذر بمصر، والزبير بن عوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ونزلها علي بن أبي طالب سنتين، بمن كان معه من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط(109).
ومن ذلك القضاء بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى به بالمدينة، ولم يقض به أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالشام ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء المهديون الراشدون: أبو بكر، وعمر وعثمان.
ثم ولّي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن، وقطع البدع، والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق بن الحكيم: إنك تقضي بذلك بالمدينة بشهادة الشاهد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر: إنا قد كنا نقضي بذلك في بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين(110). ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط في المطر، والسماء تسكب عليه في منزله الذي كان يكون فيه بخناصره(111) سكبًا.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تكلم في مؤخر صداقها تكلمت، يدفع ذلك إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك. وإن أهل الشام وأهل مصر لم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – ولا من بعـدهم – لا امرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما الموت أو الطلاق، فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولكم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت الأربعة أشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله، وعبد الله الذي كان يروي عنه ذكر التوقف بعد الأربعة أشهر، أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولى، إذا بلغ الأجل، إلا أن يفي كما أمره الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: وإن لبث شهرًا بعد الأربعة أشهر التي سمّى الله، ولم يوقف لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهم قالوا: في الإيلاء إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة بائنة(112)، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وابن هشام، وابن شهاب: إذا مضت الأربعة فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة(113).
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته، فاختارت زوجها، فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثًا فهي تطليقة(114)، وقضى به عبد الملك بن مروان وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: وقد كان الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها، لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين، كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثًا بانت منه، ولم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، فيدخل بها، ثم يموت عنها، أو يطلقها، إلا أن يردعها في مجلسه فيقول: إنما ملكك واحدة، فيستخلف، وخلى بينه وبين امرأته(115).
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيّما رجل تزوج أمة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت الحرة عبدًا، فاشترته فمثل ذلك(116).
وقد بلغتنا عنكم أشياء من الفتيا، فاستنكرناها، وقد كتبت إليك في بعضها، فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون قد استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت، وفيما أردت فيه علم رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي(117)، حين أراد أن يستسقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك؛ لأن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، كهيئة يوم الجمعة، إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة حول وجه إلى الخطبة، فدعا، وحول رداءه ثم نزل فصلى.
وقد استسقى بين ظهرانيكم عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما(118)، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس الذي صنع زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
ومن ذلك أنه ذكر لي أنك تقول: إن الخليطين في المال لا يجب عليهما الزكاة، حتى يكون لكل واحد منهما ما يجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة، ويتزادان بالسوية(119)، وقد كان ذلك الذي يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم، والذي حدثنا به يحي بن سعيد، ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل، وقد باعه رجل سلعة، فتقاضى طائفة من ثمنها شيئًا، أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئًا أو أنفق المشتري منها شيئًا، فليست بعينها(120).
ومن ذلك يذكر أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يعط الزبير إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين، ومنعه سهم الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل أفريقية، وأهل العراق، ولا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي، وإن كنت سمعته من رجل مرضي، أن يخالف الأمة أجمعين(121).
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذه، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف أن يكون من المضيعة، إذا ذهب مثلك، مع استثنائي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، والسلام»(122).
فقه الرسالتين المتبادلتين بين الإمامين
هذه رسالة الإمام الليث إلى الإمام مالك بن أنس، وقد سقنا قبلها رسالة الإمام مالك إلى الإمام الليث، وبعد هذا نعرض لبعض دلالات هاتين الرسالتين فنقول:
1- تجلت في الرسالتين مظاهر الأخوة الصادقة والمحبة العظيمة المتبادلة، التي تبدو في السؤال عن حال الأهل والولد، والاستعداد لبذل المعونة، وتمني دوام السلامة، والثناء الطيب المتبادل بما يشعر القارئ بأنها أقرب إلى رسائل الإخوة المتحابين المتصافين من كونها نصيحة علمية متبادلة بين إمامين عظيمين، لهما المكانة الكبيرة عند أهل بلديهما.
2- في الرسالتين نفحة صادقة من فقه النصح عند السلف الصالح – رضوان الله عليهم-، فالمحبة للطرف الآخر من كل منهما أساس، والتواضع، والثناء الطيب، وإنزال الناس منازلهم، طريق ميسر موصل إلى القلوب.
وترك الشدة والغلظة والمخاصمة والمجادلة معالم أخوة، وحسن الظن. وعدم اتهام النوايا، والتماس الأعذار الحسنة، وعدم التشهير، ضوابط عظيمة تضبط النصيحة، وتوقعها الموقع الصحيح. كل هذه الأمور وسواها معالم بارزة في النصح، تساق في هاتين الرسالتين لتكونا نموذجًا يحتذى في نصح المتناصحين، وأدب العلماء المختلفين في المسائل العلمية.
3- يصف العلامة محمد أبو زهرة هاتين الرسالتين وصفًا جامعًا، فيقول: «والرسالتان فوق ذلك أدب جمّ، وبحث قيم، ومودة صادقة، ومخالفة في طلب الحق هادية، لا لجاج فيها ولا خصام، بل محبة وولاء ووئام»(123).
4- الرسالتان تحملان في ثناياهما توجيهًا نبيلًا لأولئك الناصحين في زماننا، الذي يعوزهم فقه السلف في النصح للآخرين، ولأولئك الصغار الذين يقحمون أنفسهم في خلافات أكبر منهم؛ ليعلم أولئك كيف يكون خلاف الأكابر في العلم، ولأولئك المدعين للأخوة والصفاء كيف يكون الود والصفاء بين الرجال على تباعد الأقطار، ونأي الأمصار «ولأولئك المتعلمين كيف يكون التعلم والتعليم والمعرفة على أصولها».
* * *
الهوامش:
(89) ماتحه: هو من المماسكة: وهي المكالمة في النقص من الثمن. انظر تهذيب الأسمار: (3/141).
(90) المعجم الكبير برقم: (2395)، والمحلي: (8/440 – 441).
(91) المحلي: (8/44).
(92) المحلي: (8/441).
(93) لم يسند المؤلف رعاه الله هذه الحكاية، ولم نعثر لها على سند، ومعناها صحيح والله أعلم. [المجلة].
(94) الكلوح: تكشر في عبوس. انظر مختار الصحاح: (ص576).
(95) دركاتها: أي منازل أهلها. انظر مختار الصحاح: (ص203). الدركات عكس الدرجات، فالدركات هو التدرج إلى الأسفل، والدرجات هو التدرج إلى الأعلى لذا فالجنة درجات والنار دركات. [المجلة].
(96) رواه البخاري: برقم: (7198)، والترمذي برقم: 2369. والخبال: الفساد، انظر مختار الصحاح: (ص168).
(97) رواه البخاري برقم: (5784)، وأبو داود برقم: 40845).
(98) رواه أحمد في مسنده: (1/409)، والحديث صحيح [المجلة].
(99) الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري رحمه الله (ص106 – 107).
(100) نفسه: (ص107).
(101) نفسه: (ص104).
(102) مالك: (ص66).
(103) تهذيب التهذيب: (8/415).
(104) القنداق: صحيفة الحساب. انظر تاج العروس: (7/51).
(105) تاريخ ابن معين: (4/498، 501)، وترتيب المدارك: (1/64)، والمعرفة والتاريخ للبسوي.
(106) انظر إلى خلاف الأكابر وتعلم منه، فلم يمنع خلاف الليث لربيعة من ذكره بالخير بما يحسن، وحفظ عرضه، والثناء عليه، ماذا يقال لأولئك الذين يقعون في عرض غيرهم، إذا خالفوهم.
(107) رواه الترمذي برقم: (3790)، وقال حسن غريب.
(108) الرتوة: مسافة بعيدة قدر مد البصر، انظر أساس البلاغة: (ص220). أخرجه ابن أبي شيبة في تاريخه، وابن عساكر، كما في الإصابة : (3/437)، والأثر في فضل معاذ ثابت صحيح [المجلة].
(109) يرى مالك وأهل المدينة الجمع بين المغرب والعشاء بعذر المطر، وقد وافقهم على ذلك سواهم، فهو قول الفقهاء السبعة، والأوزاعي، وأحمد، ومنع الليث من الجمع بين الصلاتين لأجل المطر، وهو مذهب أصحاب الرأي، انظر في هذه المسألة المغني: (2/116)، والزرقاني على الموطأ: (1/12631). وبداية المجتهد.
(110) اختلف العلماء في القضاء بالشاهد واليمين، فيرى الجمهور جوازه، ويرى أهل الرأي ومعهم الليث منعه، ولهم تفصيلات وأدلة تنظر في مظانها. وانظر ما يلي: المغني: (12/11). أعلام الموقعين: (3/185). سنن البيهقي: (10/175).
(111) خناصرة: بليدة بالشام من أعمال حلب. انظر معجم البلدان: (3/467).
(112) المحلي: (10/45، 46)، والمغني مع الشرح: (8/467).
(113) المحلي: (10/46)، المغني: (8/528)، وبداية المجتهد: (82).
(114) انظر شرح الزرقاني على الموطأ: (3/36).
(115) انظر المصادر السابقة.
(116) المغني: (7/402).
(117) ولاه المهدي على المدينة سنة 106هـ، روى عنه مسالك، وروايته عن عمر بن عبد العزيز منقطعة. انظر التاريخ الكبير: (3/430)، والجرح: (3/607).
(118) الفتح: (2/499)، والمغني: (2/287).
(119) بداية المجتهد: (1/258).
(120) المغني: (4/456).
(121) المغني: (10/443)، والمحلي: 7/231.
(122) تاريخ ابن معين: (4/487 – 497)، وأعلام الموقعين: (3/83 – 88).
(123) مالك: (ص111).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41