دراسات إسلامية

بقلم:  الشيخ عبد الرؤوف خان الغزنوي الأفغاني(*)

إن الحسد من المعاصي الخطِرة المنتشرة التي تتسرّب إلى قلوب الخاصّة والعامّة، وقلّما ينجو منه قلبٌ إلاّ بتوفيق الله تعالى والرجوعِ إليه والتفكّرِ في ما يترتّب عليه من المخاطر الدينيّة والدنيويّة، وهي رذيلة باطنيّة لاتُشَاهَد، فيُبتلى بها الإنسانُ دون أن يشعر بخَجَلٍ أو عارٍ أو فَظَعٍ، ودون أن ينهاه عن ارتكاب هذه المعصية ناهٍ عن المنكر؛ حيث لادليل لدى الناهي عن المنكر على ارتكاب ذاك الرجل معصيةَ الحسد. وهكذا ينتشر هذا المرض الباطني بين أفراد المجتمَع فلايشعر به كثيرون ولايقوم بمعالَجَته أحد، ولذا سُمّي بداءِ الأُمَمِ. وأوّل من ارتكب هذه المعصيةَ هو إبليس؛ حيث حسد أبانا آدمَ عليه السلام، فأوقعه الحسدُ في معصية الله، والحسد هو الذي حَمَل قابيلَ على قتل أخيه هابيلَ، فقتله فأصبح من الخاسرين، وهو الذي حَمَل إخوةَ يوسف -عليه السلام- على قتله أو طرحه أرضًا بعيدة قائلين: ﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ (يوسف:9)، وهذا الحسد هو الذي حَمَل اليهودَ – لعنةُ الله عليهم- على جحد نبّوة محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعلى سعيهم في نشر الفساد في مجتمع المسلمين، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة:109)، وقد حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- أمّتَه من وقوعها في هذه المعصية، وأخبرهابسِرايتها فيها، فعن الزبير بن العوّام – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «دبّ إليكم داءُ الأمَم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (رواه أحمد والترمذي).

مفهوم الحسد وحقيقته

       الحسد هو تمنّي زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمةً دينيّةً أو دنيويّةً، وله ثلاثة أقسام، فأوّلها وهو أقبحها: أن يتمنّى الرجل بقلبه زوالَ نعمة عن صاحبها، ويجتهد في إزالتها عنه، ويسعى في إيذائه بلسانه أو بجوارحه حسب ما يتيسر له، فهذا محظور وحرام. وثانيها: أن يتمنى الرجل زوالَ تلك النعمة عن صاحبها ولاتكون في قلبه كراهةٌ لِهذا التمني؛ بل يكون راضيًا به إلاّ أنه يكفّ لسانَه وجوارحَه عن إيذاء صاحبها والوقوع في عِرضه، فهذا أيضًا يُعدّ معصيةً إلاّ أنه أخفّ من القسم الأول. وثالثها: أن يجد الرجل في قلبه تمني زوالِ نعمةٍ عن صاحبها ولكنه يكره هذا التمني ويستعيذ بالله منه، ويحبّ أن يتخلّص منه، ويكفّ لسانَه وجوارحَه عن إيذاء ذاك الإنسان، فمجّرد هذا التمني بطبعه مع كراهته له بعقله لايضرّه إن شاء الله؛ بل هو معفوّ عنه؛ لأن وجود مجرّد هذا التمني ليس تحت الاختيار ولا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسعها.

       وأمّا إذا شاهد الإنسان نعمةً دينيّةً أو دنيويّةً عند غيره، فاشتهاها لِنفسه أيضًا دون أن يتمنّى زوالَها عن ذلك الغير فهذا يسمّى غِبطةً أو منافسةً، وهي ليست بمحظورة؛ بل هي إمّا واجبةٌ إذا كانت تلك النعمة التي يتمنّاها لِنفسه نعمةً دينيّةً واجبةً كالاهتمام بأداء الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة وغيرها، أو مندوبةٌ إذا كانت تلك النعمة من الفضائل كالاهتمام بأداء الصلوات النافلة وصيام التطوّع وإنفاق الأموال في وجوه الخير تطوّعًا وما إلى ذلك، وقد أمر الله تعالى بالمنافسة في أمور الخير والمسابقة إلى الخيرات في كتابه الكريم إمّا على سبيل الوجوب في الأمور الواجبة أو على سبيل الندب في الأمور المندوبة، فيقول: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنٰفِسُونَ﴾ (المطففين:26)، ويقول: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ (الحديد:21)، وقد تكون الغبطة مباحةً إذا كانت تلك النعمة من النعم التي يتنعّم بها الإنسان على وجه مباح كالبيت المريح والسيّارة الجيّدة وغيرهما. ولايخفى أن الحسد قد يُطلَق على الغبطة على سبيل المجاز كما ورد في الحديث المتفق عليه برواية عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «لاحسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هَلَكَته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلّمها».

أضرار الحسد الدينيّة

       للحسد أضرار دينيّة متنوّعة أهمّها ما يلي:

       أوّلاً: إنه معصية صريحة لله سبحانه وتعالى ولرسوله –صلى الله عليه وسلم- فإن الله تعالى يقول: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (النساء:32)، ويقول: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءاتٰهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النساء:54)، ويقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ولاتحاسدوا ولاتباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا» (متفق عليه)، والذي يعصي اللهَ ورسولَه يضل ضلالا مبينا.

       ثانيًا: إنه يضيع حسنات الإنسان ويُتلِفها، فإذا ضاعت حسنات الإنسان وما بَقَت عنده إلا السيّئات فكيف ينجو يوم القيامـة مـن العذاب؟، وقد روى أبو هـريــرة – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»(رواه أبو داؤد).

       ثالثًا: إن الحسد سبب لسخط الله تعالى، فلايغفر الله تعالى للحاسد ذنوبَه حتى يترك الحسدَ والشحناءَ، فإذا كان الله ساخطًا عليه فمن ذا الذي ينجّيه من النار؟ عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «تُعرَض أعمالُ الناس في كل جمعة مرّتين فَيُغفَر لِكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا» (رواه مسلم).

أضرار الحسد الدنيويّة

       وللحسد أضرار دنيوية مختلفة أهمّها ما يلي:

       أوّلًا: كثيرا ما يتعرّض الحاسدُ لِمشكلات نفسيّة وأمراض جسديّة لأجل نار الحسد التي تفور في قلبه وذهنه، يقول الشاعر:

إني لَأَرحم حاسِدِيَّ لِـحَـرِّما

ضمَّت صدورُهُم من الأوغار

نظروا صنيعَ الله بي فعيونُهم

في جنّة وقلـوبُهـم في نـــار!

       وقديمًا قالوا: «لِـلّه دَرُّ الحسد ما أعد له، بدأ بصاحبه فقتله»!، وقد أثبتت الأبحاثُ الجديدة والاكتشافاتُ العصريّة أن من أهمّ أسباب أمراض القلب الفاشية ومرض السكّر المنتشر هو الحزن والتوتر النفسيّ، ولاشك أن الحسد يؤدي بالإنسان إلى الحزن الدائم والتوتر النفسي المستمرّ، ولكن ليس معنى ذلك أن يُقال أو يُظَنَّ بكل من ابتلي بهذه الأمراض أنه حاسد (والعياذ بالله) فإن لِلأمراض أسبابًا كثيرةً أخرى أيضًا، والظنُّ أكذَبُ الحديث.

       ثانيًا: الحاسد يسقط من أعين الناس؛ فإنه يُعرَف بسلوكه وعاداته وأسلوب حديثه، فيكرهه الناس ويستنكفون منه، فلايُساعَد عند تعرضه لِلمشكلات، ولايناصَرعند ما تواجهه الصعوباتُ، ولاترِقّ له القلوبُ عند تورطّه في المتاعب، فيبقى متحيِّرًا مندهشًا لايجد صديقًا ولانصيرًا.

       ثالثًا: من عادة الحاسد أنه يدبّر المَكايِدَ لِلمحسود، فكثيرًا ما يقع هو نفسُه فريسةً لِـمَكايده، ويقدّر اللهُ العافيةَ للمحسود من شرّه، وقد روى الإمام أبو حامد الغزالي (المتوفّى عام 505هـ) –رحمه الله- في ذلك حكايةً مدهِشةً تاليةً:

       «كان رجل يغشى بعضَ الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: «أحسِن إلى المحسِن بإحسانه! فإن المسيء سيكفيكه إساءَته»، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول: زعم أن الملك أبخر! فقال الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلايشمّ ريح البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجلَ إلى منزله فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادته فقال: «أحسِن إلى المحسِن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته»، فقال له الملك: اُدنُ مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه مخافةَ أن يشمّ الملك منه رائحةَ الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانًا إلا قد صدق! قال: وكان الملك لايكتب بخطّه إلا بجائزة أوصِلة، فكتب له كتابًا بخطّه إلى عامل من عمّاله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلدَه تبنًا وابعث به إليَّ، فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خطّ الملك لي بصِلَة، فقال: هَبه لي! فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك! قال: إن الكتاب ليس هو لي، فاللهَ اللهَ في أمري حتى تراجع الملكَ، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحَشَا جلدَه تبنًا وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال له مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقينى فلان فاستوهبه مني فوهبتُه له، قال له الملك: إنه ذكرلي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلتُ ذلك: قال: فلم وضعتَ يدَك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعامًا فيه ثوم فكرهتُ أن تشمَّه، قال: صدقتَ ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته» (إحياء علوم الدين: 3/188-189، ط:بيروت).

صُوَر من معالَجَة الحسد

       نذكر فيما يلي صورًا من معالَجَة الحسد بتوفيق الله تعالى؛ لينتفع بها القارئ الكريم:

       أوّلًا: على الذي يجد في قلبه نوعًا من الحسد المذموم أن يستحضر دائما الآياتِ القرانيّةَ والأحاديثَ النبويّةَ التي وردت في ذمّ الحسد والحاسدين، فيستغفر اللهَ ويتوب إليه، وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث من قبل.

       ثانيًا: على الحاسد أن يُمعِن النظرَ في أنه إذا حَسَد أحدًا على نعمة أنعم الله بها عليه كأنه يعترض على حكم الله – والعياذ بالله- وهذا أمر خطير جدًّا، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف:31-32).

       وقد أجاد الشيخ مصلح الدين «سعدي» الشيرازي – رحمه الله- في كتابه «كلستان» باللغة الفارسية؛ حيث أنشد شعرًا هكذا:

باخـــدا داده كان ستيـزه مكن

كه خدا داده را خدا داده است

يعني «لاتنازِعْ – حسدًا – الذين منّ الله عليهم بِنِعَمه؛ لأن اللهَ هو الذي أنعم عليهم».

       ثالثًا: على الحاسد أن يفكّر في أضرار الحسد الدينيّة والدنيويّة؛ حتى يتبيّن له أن الحسد يعود بالضرر عليه لا على المحسود، وأنه بحسده يُغلِق على نفسه أبوابَ التقدّم والتطوّر؛ لأنه يُضيع أهليّتَه وجَدارتَه وفرصَتَه في إيذاء المحسود وإساءته وفي تدبير الخُطَط ضدَّه، ولايجد فرصةً للتقدّم والازدهار وممارسة الأعمال المجيدة.

ما هو السلوك الأحسن الذي يختاره المحسود تجاهَ حَسَدِ الحسّاد؟

       على المحسود أن يستحضر دائما ما أنعم الله سبحانه وتعالى به عليه من نِعَمه العامّة والخاصّة، ويشكره عليها؛ فإن الحسّاد لايحسدون إلاّ من سَبَقهم وفاقَهم في المواهب والكفاءات الدينية أو الدنيوية، وأُعطِي من المؤهّلات والإمكانيات مالم يُعطَوا، وصدق الشاعر الحكيم إذ قال:

حَسَدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالكلّ أعداء لــه وخصــــوم

كضرائر الحسناء قلن لوجههـا

حَسَـدًا وبغـيًا إنـــــه لَدَميـم

وتـرى اللَّبيبَ محسَّدًا لم يجترم

شَتْمَ الرجال وعِرضُه مشتوم

وقال آخر:

وإذا أتَتك مَذَمّتي من ناقصٍ

فهي الشهـادة لي بأني كامـل

       فإذا استحضر المحسود نِعَم الله سبحانه وتعالى المتنوّعة وشكر الله عليها، ولم يلتفت إلى حسد الحساد وصبر على أذاهم، ودعالهم بالهداية والبركة والنجاة من معصية الحسد، زاده الله نِعَمًا ودافَعَ عنه وكفاه شرَّهم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم:7) ويقول: ﴿إِنَّ اللهَ يُدٰفِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحج:38)، ودعا شاعرٌ للحاسدين وشَكَرهم على نوعٍ من عطفهم على المحسودين فأجاد وأحسن إذ قال:

جزى اللهُ عنا الحاسدين فإنهم

قد استوجبوا منا على فعلهم شُكرًا

أرادوا لنا ذمًّا فأفشوا مكارمًا

وقد قصدوا عيبًا لنا فكان لنا فخرًا

       ولـمّا كنت أعمل مدرّسًا في الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند -الهند- وإمامًا وخطيبًا في مسجدها سألتُ ذات مرّة شيخي سعيد أحمد البالن بوري – أستاذ الحديث النبوي بالجامعة آنذاك ورئيس هيئة التدريس وشيخ الحديث بها حاليًّا- عن الموقف الأحسن الذي ينبغي للمحسود أن يتخذه تجاهَ حَسَد الحاسدين ومخاصمتهم؛ فقال: «لاموقف أحسن من السكوتِ والصبرِ وعَدَمِ الالتفات إلى حسد الحسّاد، فعلى المحسود أن يستمرَّ في القيام بأعماله المجيدة، ويترك الحسّاد إلى حسدهم، ولايفكّر فيما يفعلون أو يكيدون؛ لِئلاّ يأخذ هذا التفكيرُ بمجامع قلبه أو يستولي على مشاعره فيتخلّف عن أعماله، وهو الذي يريده الحاسدون».

       وقد نفعني الله في حياتي كثيرًا بنصيحة شيخي البالن بوري – بارك الله في عمره وصحته وجهوده العلمية التي يقوم بها- وأتذكّر في ضوء نصيحته ما قاله الشاعر:

اصبر على كيد الحسو دِ فإن صبرك قاتله

النـــار تأكل بعضَها   إن لم تجد ماتأكلــه

       وها أنا أبلِّغ نصيحةَ شيخي عن طريق هذه الكلمة المتواضعة إلى قارئها الكريم، نفعه الله بها. وأضيف إلى ذلك أنّ على المحسود أن يجتنب كل الاجتناب الردَّ على سِباب الحاسد بالسِّباب، وإيذاءَه بالإيذاء؛ فإنه قد ينضمّ بذلك إلى قائمة الحاسدين، وينتهي الفرق بين المحسِن والمسيء، وقد أحسن الشاعر إذ قال:

ومـا شـيء أسرَّ إلى لئيـــم

إذا سبَّ الكرامَ من السِّباب

متاركــةُ اللئيم بلاسِبــاب

أشدُّ على اللئيم من السِّباب

وصيتي الأخيرة

       في آخر هذه الكلمة المتواضعة أوصي نفسي أوّلًا ثم ألتمس من كل قارئ كريم أن يجتهد في أن يكون قلبه صافيًا من الحِقد والحَسَد والبغضاء؛ فإن الله تعالى يحبّ القلوبَ الصّافيةَ، ويحفظ أصحابَها من الذلّ والهوان والعذاب في هذه الدنيا ويوم القيامة، كما ألتمس منه أن يستذكر دائمًا الحديثَ الصحيحَ الآتيَ ويبلِّغَه من لم يبلغه:

       «عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: «يطلع عليكم الآن من هذا الفجّ رجل من أهل الجنة»، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطِف لحيتُه من وَضوئه قد علَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغــد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرّة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي –صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي –صلى الله عليه وسلم- تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيتُ أبي فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثًا فإن رأيتَ أن تؤوِيَني إليك حتى تمضي فعلتَ، قال نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدِّث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعارَّ وتقلّب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ وكبّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلاّ خيرًا، فلما مضت الثلاث وكدتُ أحتقر عملَه، قلت يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجــرة؛ ولكني سمعت رسـول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول لك ثلاث مرار «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعتَ أنتَ ثلاث مرات، فأردتُ أن آوِيَ إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال: فلما ولّيتُ دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيتَ غير أني لاأجد في نفسي لأحد من المسلمين غشٍّا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال: عبد الله! هذه التي بلغت بك، وهي التي لانطيق» (مسند أحمد رقم:12633، والمصنَّف لعبد الرزاق رقم:20559).

       يقول كاتب السطور: ماقاله عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه-: «لاحَيتُ أبي فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثا»، يبدو أنه قد استخدم في كلامه نوعًا من التورية، فلا يختلجْ في قلب القارئ الكريم نوعٌ من الشك والتردّد في كلام الصحابي الكريم.


(*)  أستاذ سابقًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند، الهند، وأستاذ حاليًّا بجامعة العلوم الإسلامية/ كراتشي، باكستان.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان  1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41

Related Posts