دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ عبد الهادي بن حسن وهبي
أهمّ ما ينبغي أن تبذل له الأوقات وتنفق له الجهود والمجهودات هو علاج القلوب والسعي لصحتها و سلامتها من الأمراض والآفات وسائر الذنوب، وذلك لما للقلب من مكانة في الإسلام عظيمة ومنزلة عالية رفيعة. ولما كان الناس في هذه الأيام في غفلة عن قلوبهم، أذكر خمسة أصول مقنعة في إصلاح القلوب.
الأصل الأول: القلب موضع نظر الله عزوجل
فالقلب إذن موضع نظر ربّ العالمين، فيا عجبًا ممن يهتمّ بوجهه الذي هو موضع نظر الخلق، فيغسله وينظّفه من الأقذار والأدناس، ويزيّنه بما أمكنه، لئلا يطلع مخلوق فيه على عيب، ولايهتم بقلبه الذي هو موضع نظر ربّ العالمين، فيطهّره ويزيّنه ويطيبه، كي لا يطلع الرب – جلّ وعلا- على دنس فيه وشين وآفة وعيب؛ بل يهمله بفضائح وأقذار وقبائح، لواطلع الخلق على واحد منها، لهجروه وتبرؤوا منه وطردوه. والله المستعان.
الأصل الثاني: القلب ملك مطاع ورئيس متبع
إن الأعضاء كلها تبع للقلب،فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية.
عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «… ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(1).
وعن أنس – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»(2).
والمراد باستقامة إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئًا من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته.
عن أبي أمامة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»(3).
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم(4).
إذا علمت ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنّبها(5).
الأصل الثالث: القلب كثير التقلب
عن المقداد بن الأسود – رضي الله عنه- قال: لا أقول في رجل خيرًا ولاشرًّا، حتى أنظر ما يختم له – يعني- بعد شيء سمعته من النبي-صلى الله عليه وسلم-، فقيل: وما سمعت؟ قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: لقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمعت غليانًا(6).
ومعلوم سرعة حركة القدر(7).
وقال القائل:
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ما سمي القلب إلا من تقلبــــه(8)
وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن(9).
فهنا يصور لنا الرسول –صلى الله عليه وسلم- القلب وكأنه ريشة لخفته ولتأثير الفتن عليه، صغيرها وكبيرها تمامًا مثل الريشة التي تؤثر فيها أقل النسمات فتغير اتجاهها؛ ولاستيقان الرسول-صلى الله عليه وسلم- بهذه الحقيقة كان يحلف: لا ومقلب القلوب(10).
فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون؛ يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدا؛ أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية(11).
الأصل الرابع: القلب عرضة للفتن
عن حذيفة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؛ إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض(12).
فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا؛ كعرض عيدان الحصير شيئا فشيئا.
وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين:
قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها ؛ كما يشرب السفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء.
وفي حديث الإفك: قالت عائشة لأبويها: – والله يشهد إني صادقة- ما ذاك بنافعي لكم، لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم»(13) أي: حلّ فيها محل الشرب وقبلوه(14).
فلا تأمل لــه عنــه انصرافـًـا
إذا ما القلب أشرب حب شيء
فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: «كالكوز مجخيا» أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطيران متراميان به إلى الهلاك.
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلًا والباطل حقًا.
الثاني: تحكيمـه هــواه على ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته….
الأصل الخامس: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب
إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا، و بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل على الله –عزّوجلّ-، والآخر ساهٍ غافل، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه، وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه.
وكل قول وفعل رتب الشارع ما رتب عليه من الثـواب، فإنما هو القول التام والفعل التام، كقـوله –صلى الله عليه وسلم-: «من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»(15).
وليس هذا مرتبًا على مجرد قول اللسان، نعم من قالها بلسانه، غافلًا عن معناها، معرضًا عن تدبّرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيًا مع ذلك ثوابها، حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه… فالعمل الذي يكفر الذنوب تكفيرًا كاملًا هو العمل الكامل، وأما عمل شملته الغفلة، أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يقدره حق قدره ؛ فأي شيء يكفر هذا؟!
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان. وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. ومن لم يكن له فقه نفس في هذين الأمرين و معرفة بهما، فإنه يفوته ربح كبير وهو لايشعر. وتأمل هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك، وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له.
* * *
الهوامش:
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري ( 1/153 ) ومسلم (5/50 ).
(2) أخرجه أحمد ( 3 /198) بسند حسن.
(3) صحيح سنن أبي داود ( ).
(4) جامع العلوم والحكم (1/213 ).
(5) المفهم ( 4/496 ).
(6) أخرجه أحمد(4/4) وصححه الألباني في «الصحيحة»(1772).
(7) فوائد الفوائد (ص194).
(8) تفسير القرطبي (1/187).
(9) أخرجه أحمد (4/408و419) وابن أبي عاصم في «السنة»(227) وصححه الألباني.
(10) أخرجه البخاري (11/521).
(11) فوائد الفوائد (ص 42).
(12) رواه مسلم ( 144).
(13) صحيح البخاري حديث رقم (4757 ).
(14) هدي الساري ( ص137) مقدمة فتح الباري.
(15) قال ابن القيم -رحمه الله- في «مفتاح دار السعادة» (1/443): وقال لي شيخ الإسلام -رحمه الله- وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: «لا تجعلْ قلبكَ للإيراداتِ والشبهاتِ مثلَ السِّفِنْجة فيتشرَّبَها، فلا ينضحَ إلا بها، ولكن اجعله كالزُّجاجة المصْمَتَةِ تمرُّ الشبهاتُ بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشْربْتَ قلبكَ كلَّ شبهة تمرُّ عليه صار مقرًّا للشهبات»، أو كما قال. فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.
(16) مفتاح دار السعادة (1/368 ) تحقيق علي حسن عبد الحميد.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1438 هـ = أبريل 2017م ، العدد : 7 ، السنة : 41