دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ هشام إسماعيل
المتأمل في الكتاب والسنة، وفي التاريخ بشكل عام يعلم يقينًا ما للشائعات من خطر عظيم، وأثر بليغ، فالشائعات تعتبر (من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص، وكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وحطمت عظماء، وهدمت وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من علاقات وصداقات، وكم هزمت من جيوش، وأخرت من سير أقوام؟!.
لخطرها وجدنا الدول تهتم بها، والحكام يرقبونها معتبرين إياها مقياس مشاعر الشعب نحو النظام صعودًا أو هبوطًا، وبانين عليها توقعاتهم لأحداث سواء على المستوى المحلي أو الخارجي.
لسنا مبالغين حين نقول: إن ما واجهه النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث الإفك، هو حدث الأحداث في تاريخه -عليه الصلاة والسلام-، فلم يمكر بالمسلمين مكر أشد من تلك الواقعة، وهي مجرد فرية وإشاعة مختلقة بينت (السماء) كذبها، لكنها لولا عناية الله كانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس، ولا تبقي على نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهرًا كاملًا وهو يصطلي نار تلك الفرية، ويتعذب ضميره وتعصره الإشاعة الهوجاء، حتى تدخل الوحي ليضع حدًا لتلك المأساة الفظيعة. وليكون درسًا تربويًا رائعًا لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة، وصدق الله: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
وللإشاعة قدرة على تفتيت الصف الواحد والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته، فالناس أمامها بين مصدق ومكذب، ومتردد ومتبلبل، فغدا بها المجتمع الواحد والفئة الواحدة فئات عديدة)(1).
وثبت في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(2). ويقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: «اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سمع»(3).
وقد وقع للمسلمين في العهد الأول شائعات كان لها آثار سيئة، منها الشائعة التي انتشرت أن كفار قريش أسلموا، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كان نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فار منه.. فلله الأمر -سبحانه وتعالى-.
وفي معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قتل، فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال؟. وأدت الشائعات الكاذبة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم وأصبحت لهم شوكة، وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه. وحادثة الإفك التي هزت بيت النبوة شهرًا كاملًا، بل هزت المدينة كلها. (هذا الحادث: حادث الإفك، قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله -ﷺ-، وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل … شهرًا كاملًا، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق)(4).
وفي هذا الحديث ربى الله المؤمنين تربية شديدة، ووعظهم موعظة عظيمة، وهو الحكيم الخبير.
يقول الله تعالى: ﴿إنَّ الَذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .. فهم ليسوا فردًا ولا أفرادًا: إنما هم عصبة متجمعة ذات هدف واحد، ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك، إنما هو الذي تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرةً.. وبدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره.. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ .. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله -ﷺ- وأهل بيته، وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم …
أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل واحد منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ و الْـمُؤْمِنٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ﴾. نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحماة.. وامرأة نبيهم الطاهر وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى؛ فإنه مما لا يليق بزوج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرًا..
كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته –رضي الله عنه- … [وهذا يدل] على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة.
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية؛ فهي طلب الدليل الخارجي البرهاني الواقعي: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الْكٰذِبُونَ﴾.. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة، وأن تشيع هكذا دون تثبيت ولا بينة، وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: ﴿لَوْلا جَاءُوْا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن …
وهاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل.. غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك، وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدًا بعد هذا الدرس الأليم: ﴿ولَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ لـمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ …﴾. لقد احتسبها الله للجماعة الناشئة درسًا قاسيًا، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم؛ العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول –صلى الله عليه وسلم- وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرًا … والقرآن يرسم لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام، واختلت المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول: ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾ .. وهي صورة فيها الخفة والاستهتار، وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ .. لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروٍ ولا فحص وإنعام نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! ﴿وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقولكم ولا بقلوبكم.. ﴿وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا﴾ أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم يعتصر قلبه وقلب زوجه وأهله.. ﴿وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾ .. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء … ﴿ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحٰنَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ …
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزًا، وهي تطلعها على ضخامة ما جنت، وبشاعة ما عملت.. عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم: ﴿يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ..
﴿يَعِظُكُمُ﴾ .. في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان: ﴿يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا﴾ ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة ﴿إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(5).
والذي ينبغي للمسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار أن:
1- أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم، وهو طلب الدليل الباطني الوجداني، وأن ينزل أخيه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْـمُؤْمِنٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾.
2- أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾.
3- أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه الشائعات لماتت في مهدها ولم تجد من يحييها إلا من المنافقين: ﴿ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا..﴾.
4- أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبدًا، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، و التي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: ﴿وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطٰنَ إلاَّ قَلِيلًا﴾ [النساء:83]. والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها، ولكن ليس الإشكال في هذا؛ بل الإشكال أن هناك فريقًا من المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات، هذا فضلًا عن فريق من أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث ونشر مثل هذه الأمور، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى: ﴿وفِيكُمْ سَمّٰعُوْنَ لَهُمْ﴾ [التوبة:47] أي للمنافقين المغرضين، وهذا هو الداء الكبير، وهو أن يرضى فريق من الناس الاستماع إلى مثل هذه الشائعات، وإلى كلام المنافقين والمغرضين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- (فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالًا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: (1) إما لظن مخطئ، (2) أو لنوع من الهوى، (3) أو لمجموعهما..)(6).
ولذلك فالنقطة الخامسة:
5- عدم سماع ما يقوله الكذابون، والمنافقون، والمغتابون، وأصحاب القلوب المريضة، وعدم الرضى بذلك، كما هو منهج السلف – رضوان الله عليهم-. والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر – رضي الله عنهم-، عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله)(7).
وفي هذا العصر نجد للشائعات دورًا كبيرًا، بل واستغلت ضد المسلمين استغلالًا كبيرًا، ومثل هذه الشائعات تحدث في الصف ثغرات تخل به، وأحيانًا تكون ثغرات كبيرة يصعب سدها؟!!
وخاصة إذا كانت الشائعات مصدرها من داخل الصف، من أناس جهلة، أو لهم هوى خفي، أو ظن مخطئ.
وأما أعداء الإسلام فهم يستخدمون الشائعات ضد المسلمين وخاصة علمائهم وقادتهم ودعاتهم، وغالبًا ما يستخدمون في شائعاتهم طريقين:
1- إنشاء وتلفيق الأكاذيب والاتهامات بالعلماء والدعاة لزعزعة الثقة بهم، والانصراف عنهم، فكم من العلماء والدعاة قيل فيهم: إنهم عملاء، وأصحاب مناصب ودنيا؟!.
2- تصيد الأخطاء العلمية والعملية، ونشرها بين الناس، وإعطاؤها حجمًا كبيرًا، فيزيدون شائعات مكذوبة على أمر صغير، كالشيطان الذي يلقي على الكاهن كلمة صحيحة، وتسعًا وتسعين كذبة؟!.
* * *
الهوامش:
(1) انظر: الإشاعة لأحمد نوفل ص 127 – 128.
(2) أخرجه مسلم في المقدمة برقم (5) .
(3) انظر سير أعلام النبلاء (8/66) .
(4) انظر في ظلال القرآن (4/2495) .
(5) انظر في ظلال القرآن (4/2500 – 2503) باختصار.
(6) انظر درء تعارض والنقل (2/ 105) .
(7) انظر منهاج السنة النبوية (4 /343) .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40