دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ عبد الرزاق الأمروهوي القاسمي(*)
للسنة النبوية مكانة عظيمة في التشريع الإسلامي، فهي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، والتطبيق العملي لما جاء فيه، وهي الكاشفة لغوامضه، المجلية لمعانيه، الشارحة لألفاظه ومبانيه، وإذا كان القرآن قد وضع القواعد والأسس العامة للتشريع والأحكام، فإن السنة قد عنيت بتفصيل هذه القواعد، وبيان تلك الأسس، وتفريع الجزئيات على الكليات؛ ولذا فإنه لا يمكن للدين أن يكتمل ولا للشريعة أن تتم إلا بأخذ السنة جنبًا إلى جنب مع القرآن. فإليكم معنى السنة من حيث اللغة و الشرع، ثم الأدلة القاطعة على كونها حجة شرعية من الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة الآمرة بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والاحتجاج بسنته والعمل بها، إضافة إلى ما ورد من إجماع الأمة وأقوال الأئمة في إثبات حجيتها ووجوب الأخذ بها.
السنة في اللغة:
السنة في اللغة: هي السيرة والطريقة سواء أكانت حسنة أم سيئة، محمودة أم مذمومة، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (رواه مسلم (2674) في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة)
السنة في الشرع:
وأما في الشرع: فتطلق على ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهى عنه وندب إليه قولًا وفعلًا، وقد تطلق السنة على ما كان عليه عمل الصحابة – رضي الله عنهم-، واجتهدوا فيه، وأجمعوا عليه، وذلك كجمع المصحف، وتدوين الدواوين، قال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» (رواه الترمذي في العلم رقم (2678): باب 16، وإسناده صحيح).
كما تطلق السنة على ما يقابل البدعة، وذلك فيما يحدثه الناس في الدين من قول أو عمل مما لم يؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه، فيقال: فلان على سنة إذا عمل وفق عمل النبي-صلى الله عليه وسلم-، ويقال: فلان على بدعة إذا عمل خلاف ذلك، وقد تطلق السنة على غير الفرائض من نوافل العبادات التي جاءت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وندب إليها. وللعلماء – رحمهم الله- اصطلاحاتهم الخاصة في تعريف السنة بحسب الأغراض التي عُنِيَتْ بها كل طائفة منهم:
السنة عند المحدثين:
فعلماء الحديث – مثلًا- بحثوا في أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتباره القدوة والأسوة في كل شيء، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق وشمائل وأخبار وأقوال وأفعال؛ ولذا فالسنة عندهم: هي ما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها.
السنة عند الأصوليين:
وأما علماء الأصول فقد بحثوا في أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتباره المشرِّع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويؤصل الأصول التي يستدل بها على الأحكام، فعنوا بما يتعلق بذلك وهي أقواله وأفعاله وتقريراته، فالسنة عندهم: هي ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي.
السنة عند الفقهاء:
وأما الفقهاء فإنهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبًا أو حرمةً أو استحبابًا أو كراهةً أو إباحةً، ولذلك فإن السنة عندهم هي ما يقابل الفرض والواجب.
ومما سبق من تعريفات يتبين أن اصطلاح المحدثين هو أوسع الاصطلاحات لتعريف السنّة، فهو يشمل أقواله -صلى الله عليه وسلم- وهي كل ما صدر عنه من لفظه، كحديث «إنما الأعمال بالنيات» (رواه البخاري 1/7-15 في بدء الوحي. وفي الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى)، وحديث «الدين النصيحة» (أبوداود رقم (4918) في الأدب، باب في النصيحة والحياطة، وإسناده حسن)، وحديث «بني الإسلام على خمس» (البخاري في الإيمان: باب قول النبي بني الإسلام على خمس 1/47). ويشمل أفعاله التي نقلها إلينا الصحابة في جميع أحواله كأداء الصلوات، ومناسك الحج، وغير ذلك، ويشمل كذلك تقريراته وهي ما أقره عليه الصلاة والسلام من أفعال صدرت من بعض أصحابه إما بسكوته مع دلالة الرضى، أو بإظهار الاستحسان وتأييد الفعل، كإقراره لأكل الضب حين أكل منه بعض الصحابة مع أنه لم يأكل منه. وتشمل السنة في اصطلاح المحدثين صفاته الخَلْقية، وهي هيئته التي خلقه الله عليها، وأوصافه الجسمية والبدنية، وصفاته الخُلُقية وهي ما جبله الله عليه من الأخلاق والشمائل، وتشمل كذلك سيرته -صلى الله عليه وسلم- وغزواته وأخباره قبل البعثة وبعدها.
وقد دوّن المحدثون هذه السنة جميعها وتلك الأقسام، وحفظوها في أمهات كتب السنة ومصادر السيرة النبوية الشريفة، التي تشهد جهدهم وجهادهم في حفظ هذا الدين.
حجية السنة
الأدلة من الكتاب:
دلت عدة آيات من القرآن الكريم على حجية السنة، ووجوب متابعة النبي-صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك:
الآيات التي تصرح بوجوب طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – واتباعه، والتحذير من مخالفته وتبديل سنته، وأن طاعته طاعة لله، كقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:33)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء:80)، وقوله: ﴿وَمَا آتٰكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهٰكُم عَنْهُ فَانْتَهُوْا وَاتَّقُوْا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر:7).
والآيات التي رتبت الإيمان على طاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والرضا بحكمه، والتسليم لأمره ونهيه كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب:36)، وقوله سبحانه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوْا فِيْ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65)، وقوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ﴾ (النور:51).
والآيات التي تبين أن السنة في مجملها وحي من الله – عز وجل-، وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يأتي بشيء من عنده فيما يتعلق بالتشريع، وأن ما حرم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسنته مثل ما حرم الله في كتابه، كقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:44-47)، وقوله – جل وعلا-: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰبَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29)، وقوله – جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِيْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰﯨﺔِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهٰهُمْ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف:157).
الآيات الدالة على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – مبين للكتاب وشارح له، وأنه يعلم أمته الحكمة كما يعلمهم الكتاب، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44)، وقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتٰبَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل:64)، وقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُوْلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰلٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران:164)، وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام الشافعي – رحمه الله-: «فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت مَن أرضى- مِن أهل العلم بالقرآن – يقول: الحكمة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يشبه ما قال – والله أعلم – لأن القرآن ذُكر، وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه: بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة هنا إلا سنّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذلك أنها مقرونة بالكتاب، وأن الله افترض طاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ. إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله: لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونًا بالإيمان به…» اهـ.
الأدلة من السنة:
وأما السنة فقد ورد فيها ما يفوق الحصر، ويدل – دلالةً قاطعةً – على حجية السنة ولزوم العمل بها، ومن ذلك:
الأحاديث التي يبين فيها – صلى الله عليه وسلم – أنه قد أوحي إليه القرآن وغيره، وأن ما بينه وشرعه من الأحكام فإنما هو بتشريع الله تعالى له، وأن العمل بالسنة عمل بالقرآن، وأن طاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله – جل وعلا-، كقوله – صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ» (رواه ابن ماجه)، وفي رواية أبي داود: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» (أبو داود رقم (4604) في السنة: باب لزوم السنة، وسنده صحيح)، وقوله: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ» (رواه البخاري (9/93/7283)، وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله» (صحيح البخاري (4/50/2957)، وفي حديث آخر: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» (رواه البخاري/7280).
والأحاديث التي يأمر فيها عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته وأخذ الشعائر والمناسك عنه، واستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه، وينهى عن الكذب عليه، ويتوعد من فعل ذلك بأشد الوعيد، كقوله: «تَرَكْتُ فيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُما: كِتابَ الله وسُنَّتي وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ» (الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير(2/25)، وقوله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (رواه أبو داود في «السنة» رقم (4607): باب لزوم السنة، وقوله: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (رواه البخاري 10/71 في الأشربة، باب الشرب قائمًا)، وقوله: «خذوا عني مناسككم» (رواه أبو داود رقم (1970) في المناسك، باب في رمي الجمار)، وقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» (رواه الترمذي رقم 2659)، وقوله: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري (1291).
الأدلة من عمل الصحابة:
وعلى ذلك كان عمل الصحابة – رضي الله عنهم- من الاحتجاج بسنته – صلى الله عليه وسلم – والاقتداء بهديه، وامتثال أوامره، والرجوع إليه في الدقيق والجليل، فكانوا أحرص الخلق على ملاحظة أقواله وأفعاله وحفظها والعمل بها، وبلغ من اقتدائهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك، من دون أن يعلموا لذلك أي سبب أو حكمة كما روى البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: «اتَّخَذَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ» فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: «إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ» (رواه البخاري/7298).
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صَلَاتَهُ، قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ»، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ جِبْرِيلَ –عليه السلام- أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» (رواه أبوداود/650).
الأدلة من إجماع الأمة:
ولو تتبعنا آثار السلف ومن بعدهم من الأئمة، لم نجد أحدًا – في قلبه ذرة من الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص – ينكر التمسك بالسنة والاحتجاج بها والعمل بمقتضاها، بل على العكس من ذلك لا نجدهم إلا متمسكين بها، مهتدين بهديها، حريصين على العمل بها، محذرين من مخالفتها، وما ذاك إلا لأنها أصلٌ من أصول الإسلام وعليها مدار فهم الكتاب، وثبوت أغلب الأحكام، فعلى حجية السنة انعقد إجماعهم، واتفقت كلمتهم، وتوطأت أفئدتهم، قال الإمام الشافعي – رحمه الله-: «لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَهُ النَّاسُ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ- اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ بِأَنَّ الله – عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا بِكِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُـمَا وَأَنَّ فَرْضَ الله – تَعَالَى- عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ قَبُولُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -[الأم للشافعي7/287]، وقال الإمام ابن حزم عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (النساء:59): «الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يُخْلَق ويُرَكَّب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكل من أتى بعده عليه السلام ولا فرق» اهـ. [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم1/97].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يتعمد مخالفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شيء من سنته دقيق ولا جليل. فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله».[رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص:5]
تعذر العمل بالقرآن وحده
ومما يدل على حجية السنة – من حيث النظر – أنه لا يمكن الاستقلال بفهم الشريعة وتفاصيلها وأحكامها من القرآن وحده، لاشتماله على نصوص مجملة تحتاج إلى بيان، وأخرى مشكلة تحتاج إلى توضيح وتفسير، فكان لا بد من بيان آخر لفهم مراد الله، واستنباط تفاصيل أحكام القرآن، ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق السنة، ولولاها لتعطلت أحكام القرآن، وبطلت التكاليف. قال الإمام ابن حزم – رحمه الله-: «في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا والأقضية والتداعي، والأيمان والأحباس والعمرى، والصدقات وسائر أنواع الفقه؟ وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة… فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرًا بإجماع الأمة» اهـ. [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/80].
ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير: «لا تحدثونا إلا بالقرآن. قال: «والله ما نبغي بالقرآن بدلًا ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن، وكذلك عمران بن حصين – رضي الله عنه- لما قال له رجل: «إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلًا في القرآن» فغضب عمران وقال: «إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرًا، إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك».
على أن الأحكام المستمدة من السنة مأخوذة في الحقيقة من القرآن، ومستقاة من أصوله؛ وذلك لأن الله أحال عليها في كتابه، فالأخذ بها في الواقع أخذ بالقرآن، والترك لها ترك للقرآن، وهو ما فهمه الصحابة والسلف – رضي الله عنهم-، ولهذا لما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ، لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ الله» فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ الله، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: ﴿وَمَا آتٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهٰكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7]؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ» (رواه البخاري/4886).
فتبين مما سبق وجوب الاحتجاج بالسنة والعمل بها، وأنها كالقرآن في وجوب الطاعة والاتباع، وأن المستغني عنها هو مستغنٍ في الحقيقة عن القرآن، وأن طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – طاعة لله، وعصيانه عصيان لله تعالى، وأن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو بالتمسك بالقرآن والسنة جميعا.
(*) أستاذ بجامعة جامع «أمروهه» الهند
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1437 هـ = مارس – أبريل 2016م ، العدد : 6 ، السنة : 40