إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
لقد كان واجبًا على كاتب السطـور أن يكتب هذه السطور عن عالم اللغة والأدب والدين الشيخ عميد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – إثر وفاته جريًا على عادته المتمثلة في الكتابة عن حياة أيّ علم من أعلام الهند وخارجها إثر وفاته يتأثـر من علمه وصلاحه وعمله؛ وكان قد بدأ يكتب هذه السطور إثر وفاة الشيخ الكيرانوي؛ ولكنه بعد كتابة صفحة أو صفحتين حال دونه ودون الكتابة عوائق كثيرة، وطالت الفتـرة فجمدت القريحــة، ولم تطاوعــه الطبيعــة، وسنحت له الفرصة للكتابة حول الفقيد بعد خمس سنوات، فشعر كأنه سدّد الدين و وضع عن كاهله أعباءه. رحم الله الفقيد وأجزل مثوبته لديه. [رئيس التحرير]
في نحو الساعة 10،30 (العاشرة والنصف) من صباح يوم الجمعة: 14/شوال 1431هـ الموافق 24/سبتمبر 2010م استأثرت رحمةُ الله تعالى بالعالم الهندي المعروف الشيخ عميد الزمان الكيرانوي – رحمه الله – (شقيق معلم اللغة العربية العبقري في شبه القارة الهندية فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي 1349-1415هـ = 1930-1995م) في 70 من عمره بالقياس إلى التقويم الميلاديّ و 72 من عمره بالنسبة إلى التقويم الهجري؛ حيث كان من مواليد 19/مارس 1940م (8/ربيع الأول 1359هـ) وذلك بحيّ «ذاكرنكر» (Zakirnagar) بقطاع «أوكهلا» (Okhla) بدهلي الجديدة؛ حيث كان يسكن منزلَه الشخصيّ الذي بناه منذ نحو 25 سنة أو أكثر. وقد صُلِّيَ عليه بمحيط «مَوْلْسَرِي» بجامعة دارالعلوم/ديوبند بعد صلاة العشاء في الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت: 14-15/شوال 1431هـ = 24-25/سبتمبر 2010م ووُرِّيَ جثمانُه بالمقبرة القاسميّة التي تضمّ قبورَ علماء ومشايخ دارالعلوم/ ديوبند. وشهد الصلاة عليه وتورية جثمانه حشد كبير من العلماء والطلاب و وجهاء مدينة ديوبند وعامّة سكانها إلى جانب عدد وجيه من معارفه وذوي قرابته ومحبيّه والمُعْجَبِين به.
خَلَّف – رحمه الله – وراءه أسرةً آهلة بأعضاء مؤهلين بمن فيهم حرمه وبنتاه وشقيقاه الشيخ الطبيب معيد الزمان القاسمي الكيرانوي والأستاذ فريد الزمان الكيرانويّ، وأولادهما وأولاد شقيقه الأكبر معلم العربية العبقري الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي القاسمي رحمه الله.
عاش – رحمه الله – صراعًا مريرًا مع المرض طَوَالَ نحو ستة شهور؛ حيث شَخَّصَ الأطباء في مستشفى «جِيَوانْ نرسينغ هوم» (Jeevan Nursing Home) بدهلي الجديدة أنه مصاب بفساد المعدة؛ حيث كان يشكو قلّةَ الجوع وعدمَ اشتهاء الطعام، وظلّ يُعَالَج شهورًا بصفته مصابًا بهذا الداء، ثم اكتشف الأطباءُ في المستشفى المذكور أنّه مصاب بنوع من الخَبَل يُسَبِّب شدّة النسيان والاضطرابَ في الحديث يُعْرَف بالإنجليزيّة ب”ـ”Dementia وخلالَ ذلك نُقِل إلى مستشفى «ميكس» (Max) بدهلي الجديدة، حيث أُجْرِي عليه الفحصُ الطبيُّ الكامل، وبعده نُقِل إلى مستشفى «ويمهانس» (Vimhans) بالمدينة بعد ما اكتشف الأطباء من خلال الفحص أنه مصاب بـ«السرطان الورمي بالدماغ» (Brain Tumor Censer) وأكّدوا أنه داء من النوع الأوّل في الهند، وأنه قد اكتُشِفَت 20 حاله فقط من هذا النوع في الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا قَرَّرَ أهلوه أن يعودوا به إلى المنزل، حيث ظلّ يتلقى العلاجَ ويتناول ما وَصَفَه الأطباء من الأدوية والوقاية.
في أواخر مايو 2010م (أواسط جمادى الأولى 1431هـ) كنتُ على جناح السفر إلى مسقط رأسي «مظفربور» بولاية «بيهار» بالهند، ورأيتُ من المناسب أن أتصل به تلفونيًّا حسب عادتي في الاتصال به من حين لآخر، فلما استخبرتُه قال لي: إنّه يعاني وعكةً صحيّةً شديدة؛ حيث لا يطيب له طعام ولا شراب، وإنما يكتفي بأكلات خفيفة مائعة يتجرّعها على غَصَص. وبعد نحو عشرين يومًا أو أكثر، أي في أواسط يونيو 2010م (أوائل جمادى الثانية 1431هـ) عُدْتُ من الوطن إلى ديوبند، فسألتُ بعض ذوي قرباه عن حالته الصحيّة، فأفادوا أنه قد ساءت حالته من ذي قبل، وأنه أُدْخِل المستشفى أكثر من مرة. وذات يوم باشرتُ الاتصال التلفونيّ به، فتكلّم – رحمه الله – بصوت مُتَهدِّج ضعيف جعلني أندم على إجراء الاتصال به وإحواجه إلى التكلم معي. وكان ذلك آخر اتصال بيني وبينه، وكنتُ على يقين بأنّه سيُعَافَى، وأنّه يُمدُّ في عمره، وأنه سيعود ليؤدي دوره في الحياة، وظِلْتُ أسأل ذويه بنحو متصل عن أحواله طَوَالَ الأيّام التي عاشها في المُسْتَشْفيات وفي بيته يتلقى العلاج، والتي كانت معظمها شهر رمضان، الذي أعمالُه الرتيبة مَنَعَتْنِي عن مُزَايَلة مستقري بديوبند، وعزمتُ أن أعوده في منزله في دهلي في يوم من أيام شوال، لأني كنتُ واثقا – ولا أدري السببَ في هذه الثقة – بأنّ الموتَ لن يُدَاهِم بهذه السرعة هذا العالم المُؤَهَّل النشيط هذا النشاطَ الواسعَ في مجالات خدمة الدين والعلم والأمّة. وأنا كذلك إذ نعاه إليّ أحدُ ذويه بديوبند في نحو الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة: 14/شوال 1431هـ = 24/سبتمبر 2010م، قائلاً: إن فضيلة الشيخ عميد الزمان الكيرانوي قد لَفَظَ أنفاسَه الأخيرة منذ قليل وأنّ جثمانُه سيُتَوَجَّهَ به إلى ديوبند فور تجهيز سيّارة إسعاف (Ambulance) .
في نحو الساعة الرابعة والنصف مساءً وَصَلَ جثمانُه إلى ديوبند، وتمّ غسلُه وتكفينُه في منزل شقيقه الأكبر فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي – رحمه الله – وكان الزحام شديدًا؛ لأن الناس من شتى شرائح المجتمع قد توافدوا إلى المنزل، يعزون أعضاء أسرته، ويشاطرونهم الأحزان، ويرغبون في إلقاء نظرة على جثمان هذا العالم الفريد قبل أن يُدْفَن.
إنه قَطَعَ مراحل مرضه وموته بسرعة غريبة تركت جميع ذوي قرباه ومعارفه حياري؛ لأنّه منذ شهور كان صحيحًا كلَّ الصحة سوى ألم في ركبتيه منذ سنوات كان يُحْرِجه لدى القيام بعد الجلوس، ولم يَشْكُ قطُّ قلةَ شهية الطعام أو النسيان أو ضعف الذاكرة؛ لأنه كان معروفًا بذكائه وقوّة ذاكرته وتنسيقه للحديث لدى النطق به.
* * *
ينحدر الشيخ عميد الزمان الكيرانوي ( الشقيق الأوسط للشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي معلم اللغة العربية العبقري المعروف بعبقريته التدريسية التربوية في شبه القارة الهندية ومؤلف كتب وقواميس نافعة للغاية في موضوع تعليم اللغة العربية ) من أسرة كريمة ببلدة «كَيْرَانَهْ» (Kairana) الشهيرة بإنجاب الرجال وهي التي أنجبت العالم الهندي الكبير المعروف في العالم الشيخ رحمة الله الكيرانوي – رحمه الله – (1233-1308هـ = 1818-1891م) الذي ألّف الكتاب الفريد «إظهار الحق» وغيره من الكتب في الردّ على المسيحية وناظر القس «فندر» في مدينة «أكبر آباد» الهندية عام 1854م (1270هـ) وفي عام 1857م (1273هـ) هاجر إلى مكة المكرمة بعد ما حاولت الحكومة الاستعمارية الإنجليزية بالهند اعتقاله والتشفي منه لقاء مقاومته المسيحية والقسسين وعاش بمكة المكرمة خمسين عامًا وأسس بها مدرسة معروفة باسم «المدرسة الصولتية» لا تزال تؤدي دورها. وبمكة المكرمة توفي ودفن.
تقع مدينة «كيرانه» بمديرية «مظفرنجار» (Muzaffarnagar) سابقًا ومديرية «شاملي» (Shamli) حاليًّا. ينتهي نسب هذه الأسرة الأبوي إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – ونسبها من جانب الأم إلى سيدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وُلِدَ بها يوم 19/مارس 1940م (8/ربيع الأول 1359هـ) فكان أصغر من شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي بعشر سنوات إذ كان الأخير من مواليد 17/فبراير 1930م (27/شوال 1349).
تلقى مبادئ القراءة ببلدته «كَيْرَانَهْ» وحفظ بها القرآن الكريم كاملاً، ثم انتقل إلى دهلي – عاصمة الهند السياسيّة والثقافية – حيث كان شقيقه الأكبر مقيمًا بعد تخرجه من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند يقوم بأعمال شبه سياسية وشبه اجتماعية يكتسب بها الخبرة بالحياة وبالناس في جانب، ويكسب بها في جانب آخر المعاش الذي كان يتكفّل به حاجاته وحاجات أسرته التي كانت تشكو الضائقة المعاشية بعد أن نزعت الحكومة منها بعد الاستقلال الضِّيَاع والأراضي الزراعية الواسعة التي كانت تمتلكها.
وكان الشيخ عميد الزمان عندها في النصف الأول من العقد الثاني من عمره، فالتحق بمدرسة عريقة بالعاصمة معروفة بـ«المدرسة العالية العربية فتح بوري» حيث مكث بها سنتين متتاليتين في الفترة ما بين 1956-1958م (1375-1377هـ) يتلقى التعليم الابتدائي والمتوسط، ثم تَوَجَّهَ إلى أكبر وأعرق جامعة إسلاميّة أهليّة في شبه القارة الهندية: الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند، وانتسب إليها ليتلقّى بها التعليم المتبقي ويتخرج منها حاملاً لشهادة الفضيلة في العلوم الدينية والشريعة الإسلامية. وذلك في الفترة ما بين 1958-1963م (1377-1382هـ). وكان من أساتذته بجامعة دارالعلوم/ديوبند رئيس الجامعة سابقًا العالم الهندي الكبير الشهير فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب (1315-1403هـ = 1897-1983م) رئيس الجامعة الأسبق ابن الشيخ أحمد (1279-1347هـ = 1862-1928م) بن الشيخ الإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ = 1832-1880م) مؤسس الجامعة، وشيخ الحديث بالجامعة الشيخ فخر الدين الهابوري المراد آبادي (1307-1392هـ =1889-1972م) والشيخ العلامة محمد إبراهيم البلياوي (1304-1387هـ = 1886-1967م) وغيرهم من كبار المشايخ بالجامعة. وكان من زملائه في الدراسة بالجامعة رئيس جمعية علماء الهند فضيلة الشيخ السيد أرشد المدني – حفظه الله – أستاذ الحديث اليوم بالجامعة والعضو التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ونجل العالم العامل المجاهد الشيخ السيد حسين أحمد المدني – رحمه الله – (1295-1377هـ = 1879-1957م) كما كان من زملائه في الدراسة بها أستاذ الحديث بالجامعة اليوم: الشيخ المفتي سعيد أحمد البالنبوري – حفظه الله – شيخ الحديث ورئيس هيئة التدريس بالجامعة والشيخ الذكي العبقري رياسة علي البجنوري – حفظه الله – أحد أساتذة الحديث بالجامعة.
استغلّ الشيخ عميد الزمان فترة تحصيله بالجامعة، وأنفقها كلهافي الاجتهاد في الدراسة، فنجح في الامتحانات بعلامات ممتازة، وكسب إتقانًا وأهليّة جديرة بالذكر في العلوم التي درسها بالجامعة إلى جانب إتقانه للغة العربيّة – التي كان شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان الذي تولّى تربيته وتوجيهه الدراسي من البارعين فيها والداعين المتحمسين إلى تعلمها وإتقانها، ومعلميها الأفذاذ الذين ينقطع نظيرهم – ومن حسن حظه كان عندها في جامعة دارالعلوم/ ديوبند الشيخ محمود عبد الوهاب محمود الذي كان مبعوثًا من الأزهر الشريف إلى الجامعة، فاغتنم الفرصة، وأكثر الاستفادة منه في تعلم اللغة العربيّة التي أتقنها لحدّ أنه أصدر في الجامعة أول مجلة عربية شهرية مطبوعة باسم «اليقظة» كانت تصدر بانتظام.
الجدير بالذكر أنه أتقن العربية لهذا المستوى الرفيع في بيئة لم تكن تعرفها لغةَ خطابة وكتابة ولغةً حيّةً حافلةً بالقوة والنشاط تلبي حاجات الحياة المتجددة المتزايدة مع الأيّام. وذلك لسببين أساسيين يتلخصان في أن مربيه الثقافي شقيقه الأكبر كان قد نبغ فيها وامتلك ناصيتها لرغبته الشخصية فيها واجتهاده المثالي في كسبها؛ وفي أنه هو الآخر كان مدفوعًا بمثل هذه الرغبة فيها التي شحنه بها شقيقه المربي وأذكاها فيه بأسلوبه التوجيهي التربوي الذي كان يُعْرَف به دون غيره من الأساتذة والمدرسين في المدارس والجامعات في شبه القارة الهندية.
فتَوَفَّر على البراعة فيها في العصر الذي كانت لا تتوفر فيه لتعلم العربية وإتقانها تلك الوسائل الكثيرة المتنوعة التي يجدها اليوم أي طالب راغب في تعلمها في المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية والرسميّة معًا، من الجرائد والمجلات والكتب العربية المطبوعة في البلاد العربية التي سهل اليوم اقتناؤها في داخل الهند وفي بلاد القارة الهندية وفي العالم كله، إلى الوسائل الحديثة المتطورة من التلفاز والإنترنت والـ«سيدي» والكمبيوتر والكمبيوتر المحمول، إلى عدد وفير من الأساتذة المتقنين لها على مستوى الخطابة والكتابة في كل من معاهد التعليم التقليدية والعصريّة، إلى التواصل الذي تكثّف واستمرّ بين بلاد العالم بصفة عامّة وبلاد العرب وبلاد شبه القارة الهندية بصة خاصة بمقتضى العلاقات الدبلوماسيّة والثقافية والسياسية والعسكرية والتجارية والدينية والدعوية، حتى صارت الدنيا كلها قرية أو دارًا وفناءها يتلاقى سكانها كل وقت ويتبادلون شؤونها اليومية؛ إلى الحاجة الداعية الملحة إلى تعلمها من أجل اتخاذها وسيلة قوية لكسب الرزق والتوظّف في بلاد العالم العربي وفي داخل الهند كذلك.
ولم يكن أيُّ داع من هذه الدواعي والوسائل موجودًا في ذلك الزمان الذي رغب فيه الشيخ عميد الزمان ومن قبله شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمهما الله – بل لم يكن أي منها متوفرًا في أيام تعلمنا، فضلاً عن أيام تعلم الشيخ عميد الزمان وشقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان. ونذكر أننا عندما كنا نجد أيام تعلمنا بدارالعلوم/ديوبند من حسن الصدفة أي صفحة من صفحات جريدة أو مجلة أو كتاب مطبوع في العالم العربي، كنا نلذّ حروفها وورقها وحسن تنضيدها وجمال إخراجها، ونُعْجَبُ بها إعجابًا لاحدّ له، وكنا نعدّها نعمة غالية فُزْنَا بها بفضل الله وحده، فكنا نُقَبِّلها، ونضعها على عيوننا، ونضمها إلى صدورنا، ونَقَرُّ بها عينًا، ونثلج بها صدرًا، ونحمد الله تعالى حمدًا كثيرًا على أن حظينا بها بمنه وكرمه وحده.
أمّا اليوم فكثر كل نوع من الوسائل فصار شيئًا عاديًّا لا ينتبه له أحد، ولا يُسَرُّ بالتمتع به تلك المسرة التي كانت نصيبنا في تلك الأيام البريئة التي تعلمنا فيها العربية على أستاذنا وأستاذ الجيل الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي – رحمه الله –.
ويمكن أن يقاس بذلك ندرةُ وسائل تعلم العربية أيام تعلم الشيخ عميد الزمان – رحمه الله – فإتقانُه لها لهذا المستوى في تلك الأيام الخالية من الوسائل والدواعي إنما يُعْتَبَرُ حقًّا توفيقًا من الله حالفه هو ومن قبله شقيقه الأكبر ورجالاً معدودين على الأصابع من أقرانه ومعاصريه. وقد حكى علينا ذات مرة أحد زملائه في الدراسة في «المدرسة العالية العربية فتح بوري» بمدينة دهلي وهو الكاتب والخطيب باللغتين العربية والأردية الشيخ فصيح الدين الدهلوي – رحمه الله – (1360-1423هـ = 1941-2002م) أنه عندما اشتدت رغبتنا وصحّ عزمنا على تعلم اللغة العربية خلال تعلمنا بـ«المدرسة العالية العربية فتح بوري» كنا نطوف على السفارات العربية بدهلي لنحصل على أي جريدة عربية، ولا سيما السفارة المصرية التي نذكر أنه ربما وقفنا ببابها ساعات طويلة في أيام الصيف ذات السموم اللافحة نرسل الطلب شفويًّا أو كتابيًّا إلى داخلها عن طريق حارس الباب، وعندما كنا نفوز منها أحيانًا بصفحات مضطربة من «الأهرام» أو غيرها من الجرائد والمجلاّت يغمرنا سرورٌ لا يوصف، وكنا نتخذها عمدة لتعلم العربية، و كنا نخط خطًّا أحمر على كل كلمة منها يصعب علينا إساغتها، ثم نراجعها في قواميس عربية قديمة كان لايُوجد لدينا غيرها، ونستهدي بها إلى مدلولاتها الحديثة، ونتمرن على استخدامها في معانيها المستحدثة في جمل كنا نُكَوِّنها متنوعة الصيغ مختلفة الأفعال.
* * *
إثر تخرجه من جامعة دارالعلوم/ ديوبند عام 1383هـ/1963م تقلب فيها بين مسؤوليات عديدة خلال سنة أو أكثر، فانضمّ أوّلاً إلى قسم الدعوة والتبليغ، ثم انضمّ في يناير 1964م (شوال 1383هـ) إلى مجمع القرآن العظيم الذي كان قد أُسِّسَ خصيصًا للدراسات القرآنية والذي كان يُقْبَل فيه الطلابُ الممتازون المتخرجون من الجامعة في الفضيلة في الشريعة الإسلامية. وعمل به لمارس 1965م (ذوالحجة 1384هـ) وقام في المجمع بأعمال الدراسة والترجمة حول عدد من إنتاجات مشايخ دارالعلوم/ ديوبند العلمية، وخلال عمله بالمجمع نقل رسالة من رسائل الإمام محمد قاسم النانوتوي تتضمن تفسير المُعَوَّذَتَيْن باللغة الفارسية، نقلها إلى اللغة العربية وكتب في ذيلها حواشي نافعة تدلّ على علو كعبه في العربية والعلوم الشرعية في أيام شرخ الشباب. والرسالةُ أصدرها المجمع مطبوعة، كما نقل إلى العربية كتاب «حجة الإسلام» للإمام النانوتوي إلى العربية في حلقات نشرتها مجلة «دعوة الحق» التي كانت تصدر بالعربية لسان حال للجامعة أربع مرات في السنة وكان رئيس تحريرها شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي. وذلك في الفترة ما بين 1964-1965م (1383-1384هـ).
ثم وقع عليه نظر الشيخ السيد أسعد حسين أحمد المدني – رحمه الله – (1346-1427هـ = 1928-2006م) الذي كان ينوي إصدار جريدة عربية ناطقة بلسان الجمعية حتى يتعرف العرب على إنجازاتها وخدماتها، فانتقل إلى دهلي وعمل بمقر الجمعية نحو سنتين منذ أبريل 1965م حتى يوليو 1967م (محرم 1385- ربيع الآخر 1387هـ)، وقام بالأعمال التي كانت تحتاج إليها الجمعية فيما يتعلق باللغة العربية للتواصل مع العرب ومع السفارات العربية، منضمًّا إلى قسم العلاقات مع العالم العربي. ثم اتصل حبله بالشيخ منة الله الرحماني – رحمه الله – (1332-1411هـ = 1913-1991م) وكان من كبار علماء الهند والداعي الأول إلى تأسيس هيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند ومن مؤسسيها، فاستعان به الشيخ في التواصل مع السفراء العرب، وعمل مترجمًا له وشارحًا لأفكاره، لدى السفراء العرب الذين كانوا يكونون أيّامئذ أولي غيرة إسلامية ونخوة عربية؛ لأن الحضارة الغربية والمؤامرة العالمية ولاسيّما الصهيونية الصليبية لم تفعل في العرب الأفاعيل التي فعلتها في الأزمنة الأخيرة والتي جرفت معها الشيء الكثير من الموجود لديهم من التقاليد والثقافة العربية الإسلامية والإرث الحضاري الإسلامي.
ثم انضمّ إلى مهمة جامعة الدول العربية بدهلي في أكتوبر 1967م (شعبان 1387هـ) حيث عمل في نشرتها الأخبارية التي كانت تصدر أسبوعيًّا باللغة الأردية باسم «أخبار العرب». وبعد ذلك انتقل في أكتوبر 1971م (شوال 1391هـ) إلى وظيفة المذيع والمترجم بقسم اللغة العربية بإذاعة عموم الهند بدهلي الجديدة وعمل به في الفترة ما بين 1971-1972م (1391-1392هـ) ثم تولى مسؤولية قسم الصحافة والعلاقات العامة بسفارة المملكة العربية بدهلي الجديدة، حيث عمل به باستمرار في الفترة ما بين ربيع الأول 1392هـ الموافق أبريل 1972م = 26/جمادى الأولى 1419هـ الموافق 18/سبتمبر 1998م، واستقال من هذه الوظيفة بنفسه للاشتغال بأعمال علمية أدبية فكرية اجتماعية كان يهواها. وذلك يوم الجمعة 26/جمادى الأولى 1419هـ الموافق 18/سبتمبر 1998م الذي كان آخر عهده بالسفارة، رغم أن سفير خادم الحرمين الشريفين عندها سعادة الأستاذ عبد الرحمن ناصر العوهلي أصرَّ عليه أن يظلّ في عمله؛ لأنه – كما صَرَّحَ له – قد لا يجد بديلاً له. وفعلاً لم يجده هو ولا السفراء السعوديون الذين لحقوه.
وخلال ركضه الدؤوب في مجال التحرك والعمل ظل يجتهد أن يتقن إلى اللغة العربية واللغة الأردية، اللغةَ الإنجيزيّةَ، فنال فيها الشهادة الثانوية عام 1387هـ/1967م، وشهادة الليسانس عام 1394هـ /1974م في اللغتين العربية والإنجليزية، ونال فيهما شهادة الماجستير من جامعة دهلي عام 1396هـ/ 1976م.
* * *
خلال تحصيلي بجامعة دارالعلوم/ديوبند رغم حبّي الشديد لأستاذنا وأستاذ الجيل المعلم العبقري والمربي المثالي الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي – رحمه الله- الذي كان – كما أسلفت أكثر من مرة – الشقيق الأكبر للشيخ عميد الزمان الكيرانوي ومعلمه ومربيه، ورغم إعجابي به الإعجابَ كلَّه، ظلتُ هائبًا إيّاه لرزانته البالغة و وقاره الزائد، فظلتُ بعيدًا عنه رغم قربي منه، ولم أتعرف على أسرته ولم أجترئ يومًا على أن أسأله عنها، ولم أر حاجة إلى ذلك؛ وإنما ظلتُ أسمع عن بعد أن له أشقاء ويماثله من بينهم الشيخ عميد الزمان الذي ربّاه على عينه وثقّفه حسب هواه، ولم أسمع عن شقيق له آخر، ولا عن أي من أعضاء أسرته. وظِلْتُ على هذا «الجهل» خلال تدريسي بدارالعلوم ندوة العلماء بلكناؤ الذي امتد على نحو عشر سنوات حتى استدعاني هو – الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي – إلى الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند في شوال 1402هـ الموافق أغسطس 1982م أستاذًا للأدب العربي ورئيس تحرير لمجلة «الداعي» العربية الشهرية – التي كانت تصدر آنذاك جريدةً نصفَ شهرية – فعرفتُ شيئًا فشيئًا بأشقّائه وآخرين من أفراد أسرته. وتوفّرتْ فرصُ الاحتكاك بهم والمعرفة بما لديهم من الصفات الكريمة والأخلاق الحميدة والمزايا التي يمتازون بها عن غيرهم.
و أوّل فرصة سنحت لي للتعرف على الشيخ عميد الزمان الكيرانوي – رحمه الله – هي مناسبة زواج النجل الأكبر لأستاذنا المربي الشيخ وحيد الزمان – رحمه الله – في مدينة دهلي في أسرة كان يلاصق مسكنها آنذاك مسكن أشقاء الشيخ وحيد الزمان بدهلي القديمة بقطاع «بليماران». وقد انعقدت المناسبة في مستهل الأسبوع الثالث من أكتوبر 1982م (أواخر محرم 1403هـ) وتلك هي الأيام التي شهدت فيها مدينة ميروت ولاسيما قريتا «ماليانه» و«هاشم بوره» المجاورتان للمدينـة اضطرابات طائفية عنيفة من أول نوع لها، حيث حشدت الشرطة نحو أربعين فتى مسلمًا في شاحنتها وقتلتهم بالرصاص وقذفت بهم في نهر جار، فكانت الطريق بين ديوبند و دهلي محفوفة بالأخطار والمخـاوف، فاختار أستاذنا للذهاب من ديوبند إلى دهلي الطـريق الـذي يمـرّ ببلـدة «نانوته» وبلدة «شاملي» وهيّأ حافلتين للضيوف المشاركين في موكب الزواج.
وركبتُ إحداهما التي ركبها مُعْظَمُ أعضاء أسرة أستاذنا بمن فيهم الشيخ عميد الزمان – رحمه الله – الذي آثر أن يجلس على مقعد بجنبي في الناحية التي كانت ذات مقعدين مزدوجين فقط. وعلى طول الطريق من ديوبند إلى دهلي ظلنا نتناقش ونتبادل الآراء حول كثير من قضايا الحياة العامة واللغة العربية والآداب اللغوية الخاصة. وكانت فرصة ذهبيّة تذكارية تَعَرَّفَ فيها أحدنا على الآخر، ولاسيما بالنسبة إلى كاتب السطور الذي أتيح له فيها أن يطّلع على طبيعة الشيخ عميد الزمان وهواياته العلمية والأدبية ونشاطاته الكتابية واللغويّة وطبيعة أعماله التي كان يزاولها بصفته موظفًا مسؤولاً في السفارة السعودية بدهلي.
ثم كثر احتكاكنا وتلاقينا خلال قدماته إلى ديوبند و رحلاتي إلى دهلي التي كثرت من أجل الضرورات التي كانت تدعوني للإكثار من الذهاب إلى دهلي من أجل طبع وإصدار جريدة – ثم مجلة – «الداعي» التي كنتُ أحب طبيعيًّا أن تصدر على المستوى الذي ظلتُ أحبه من الروعة والجمال والأناقة؛ ومن أجل حاجات ثقافية أخرى كانت تمسّني من وقت لآخر، فصار تلاقينا تلاقي أعضاء أسرة واحدة، يتمّ بصورة عفويّة لازمة، وصرتُ كأني عضو غير منفك من «الأسرة الكيرانويّة» الساكنة في كل من ديوبند ودهلي، وصرتُ أقاسم الأسرة المسرات والأحزان، والقضايا والهموم. وذلك من أجل مشاعر الحبّ والعطف واللطف التي غمرتني بها الأسرة كلها بصفة عامة وأستاذنا الشيخ الكيرانوي وشقيقه الأوسط الشيخ عميد الزمان الكيرانوي بصفة خاصّة – جزاهم الله جميعًا أحياء وأمواتًا الجزاء الأوفى الذي يُكْرِم به عباده الصالحين .
* * *
لقد كان الشيخ عميد الزمان كثيرًا ما يتحدث إلى كاتب السطور منذ ماقبل 1419هـ/1998م بسنوات عندما عاد يشعر بتناغم الآراء والأفكار فيما بيننا أنّه بدأ يتضايق بعمله الوظيفي الرتيب في السفارة – رغم أن جميع السفراء السعوديين الذين عمل معهم ظلوا يحبونه ويقدرون أداءه واجتهاده البالغ في عمله وإتقانه لعمله الوظيفي لحد لايتصور فوقه – لأن هذا العمل قد أضاع عليه جميع فرص الأعمال العلميّة والتأليفية التي كان يقدر عليها وكانت لتكون صدقة جارية له وضامنة له حسن الذكر في الحياة وبعد الممات. إن أعماله كلها مغمورة مطمورة في الملفات في آلاف الصفحات في صورة تقارير صحفية تحليلية كتبها باللغتين العربية والإنجليزية أو ترجمها من إحدى منهما إلى الأخرى، وهي كلها متينة لغويًّا وأسلوبيًّا؛ ولكن لم ولن يطّلع عليها أحد إلاّ السفراء الذين عمل في عهودهم أو القسم المعني في وزارة الخارجية السعودية التي تتبعها السفارات السعودية في خارج المملكة السعودية. ولو كانت هذه كلها كتبًا ومُؤَلَّفَات يتداولها الناس لكانت مئات من الكتب، ولكانت قد استخرجت أدعية من ألسنة الناس وضمنت لكاتبها جزاء موفورًا لدى الله تعالى. ولذلك أَحَبَّ – والقول للشيخ عميد – أن يستقيل من وظيفة السفارة ذات الراتب المغبوط الذي تتحلّب له أفواه الشباب الطامح إلى الوظائف السامية التي قلما يظفر بها من أجل سباق وتنافس محموم بين المُؤَهَّلِين في كل مجال من مجالات الحياة، و أن يمضي الفرصة الباقية من الحياة في أعمال الكتابة والدراسة والتأليف.
وربما كان يقول: إن المكاتب والسفارات تُلْقِي على المُؤَهَّلِين من المُوَظَّفِين الأعباءَ كلَّها، والمُهْمِلُون لا تنتبه لهم وتُعْرِض عنهم، علمًا منها بأنهم لا يُحْسِنون صنعًا ولا يُتْقِنون عملاً؛ ولكنها تساوي في الراتب بين المؤهلين والمهملين، ولا تخص المؤهلين بمكافآت وعلاوات مُشَجِّعة، حتى يتأكدوا أن اجتهادهم قد قوبل بالتقدير والإكرام. فمثلاً يعمل معي – والقول للشيخ عميد – في السفارة السعودية رجل قد وُظِّفَ ليساعدني في المسؤوليات الموكولة إليّ، ويتقاسم أعباء العمل، حتى يتم العمل في وقت قياسي بسهولة ودونما عناء كبير؛ ولكنه بما أنّه غير مُؤَهَّل تأهيلاً مطلوبًا، فطوي عنه سعادة السفير كشحه، وظلّ يُحَمِّلني أعباء العمل كالسابق؛ لأنه كان لا يرتاح فيما يتعلق بالعمل المعني إلاّ إليّ؛ ولكنه كان لايخصّني بأي امتياز أو علاوة سوى الثناء الشفوي الذي ظلّ يذهب هباءً منثورًا. أما الرجل فكان يحضر مكانَه في المكتب ويُمْضِي الوقت كلَّه جالسًا على كرسيّ مريح، يتناول الشأي والقهوة والمرطبات المنعشة، لا يتعرض لعبء سوى أعمال خفيفة كانت توكل إليه من وقت لآخر.
وقد يحدث أن المُهْمِل يجد من أوقات الفراغ مالايجده المُؤَهَّل؛ لأنه – المؤهل – يظل مُثْقَلاً بالأعمال ويتأذّى بالشعور البالغ بالمسؤولية. أما المهمل فإنه ينفق أوقاته الفارغة – وأوقاته كلها تكون فارغة – في تعزيز العلاقات مع كثير من المسؤولين رفيعي المستوى الذين قد لا يهمهم العمل الوظيفي من المُوَظَّف المهمل، بقدر ما يهمّهم التملّق والتزلّف والتودّد إليه بأساليب ماكرة يُوَظِّفُها المُوَظَّف المهمل لذلك.
إن هذا الجانب من العمل الوظيفي المكتبي كان يتأذى به الشيخ عميد المُرْهَف الحسّ كثيرًا، كما كان يبوح بذلك إليّ من وقت لآخر في مهاتفته معي؛ ليُفَرِّج عن نفسه أثقال الأذى النفسي الذي كان يشتدّ لديه من وقت لآخر. فكنتُ أقول له لأُخَفِّف عنه شدة الشعور بالأذى النفسي: إن ذلك شيء يحدث في كل وظيفة جماعيّة في المكاتب والسفارات، والمؤسسات والجماعات والمعاهد والجمعيات، والمدارس والجامعات. وفعلاً أشعر الشعورَ نفسه الذي تشعرونه، فذلك شيء لا فكاك منه في كل عمل جماعي مكتبي.
ولكنه ظلّ يصبر على ذلك يتحيّن الفرصة المناسبة. وعندما تُوَفِّيَ مربيه شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي – رحمه الله – عام 1415هـ /1995م سنحت له هذه الفرصة؛ حيث ارتأى أنه يجب عليه أن يُخْرِج إلى النور عاجلاً ذلك القاموسَ العربيَّ الأرديَّ الضخم الذي خلّفه شقيقه مُسَوَّدَة تحتاج إلى المراجعة والتدقيق. وذلك أمر يتطلب منه أن يتفرغ له وينصرف إليه؛ لأنه عمل ضخم صعب دقيق. كما كان ينتظره أعمال أدبية كتابية ونشاطات اجتماعيّة مليّة شبه سياسية كان يهواها وكان جديرًا بممارستها، فاستقال من وظيفته بالسفارة، التي كانت مصدر دخله الوحيد. وذلك لأنّه كان يبذل من ذي قبل في مراجعة القاموس فرصًا متقطعة كان يجدها بصعوبة خلال أدائه الوظيفي الرتيب الذي كان يغطي معظم أوقاته خارج أوقات الدوام كذلك؛ لأن مراجعته – القاموس – لم تكن بالمعنى الذي يتبادر إليه الأذهان من تصحيح الأخطاء الكتابية والإملائية أو ملء الفراغات المتروكة في كثير من الأمكنة؛ بل كان أشمل من ذلك بكثير. يقول الشيخ عميد الزمان الكيرانوي – رحمه الله – في مقدمته للقاموس:
«لا يغيبنّ عن البال أن «المراجعة» لا تعني ههنا مجرد تحديد الأخطاء الكتابية أو أخطاء تصفيف الحروف، على الرغم من أن هذا العمل هو الآخر يقتضي اجتهادًا بالغًا في مثل هذا القاموس الضخم. إن هذه المراجعة شملت مقابلة المسودة والصفحات المكتوبة التي تبلغ 1828 صفحة – باستثناء هذه المقدمة بقلم كاتب السطور – كلمة كلمة مع أساسه الأول «المعجم الوسيط» ومع المصادر المذكورة أعلاه كلها، كما شملت ملء الفراغات التي تركها المؤلف – رحمه الله – وتم الرجوع إلى عدد لا يُحْصَىٰ من الكتب من أجل التأكد من الكلمات التي لم يكن المؤلف بدوره مرتاحًا إلى معانيها وشرحها، فأجّلها للقادم من الفرصة للمزيد من البحث والتدقيق، فحددنا معانيها المرادة بعد اقتناع كامل، وإلى ذلك عالجنا هفوات غير متعمدة اطّلعنا عليها خلال المراجعة» (مقدمة القاموس الوحيد، ص:97، ط:1، ديوبند، السبت: 4/2/1422هـ الموافق 28/4/2001م).
أمضى الشيخ عميد سنوات في مراجعة هذا القاموس الذي صدر أول مرة عام 1422هـ/2001م، وصار عمدة للعلماء والمدرسين، والطلاب والدارسين، والكُتَّاب والمُؤَلِّفِين في شبه القارة الهندية، وعمل للقاموس مقدمة في مئة صفحة دلّت على غزارة علمه وسعة اطلاعه فيما يتعلق بالقواميس وطبيعتها والمزايا التي تُمَيِّز بعضَها عن بعض، كما تحدّث فيها عن تفصيل عن أهمية اللغة والمعنى الاصطلاحي للغة والمصدر الذي اشتقت منه الكلمة وعن اللغة العربية وخصائصها وما تمتاز به اللغات السامية، وأنواع اللهجات العربية، وسيطرة لغة قريش على اللغات واللهجات العربية كلها لأسباب ذكرها بإيجاز وإشباع، كما عَرَّفَ بالقواميس العربية الأساسية في اللغة العربية مثل «كتاب العين» للخليل بن أحمد و«التهذيب» لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي، و«البارع» لأبي علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي، و«المحكم» لأبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بـ«ابن سيده» و«الجمهرة» لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، و«تاج اللغة وصحاح العربية» لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، و«لسان العرب» لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري الأنصاري الخزرجي، و«القاموس المحيط» لمجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب بن إبراهيم الفيروزآبادي، و«تاج العروس» لمحب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي، و«أساس البلاغة» لأبي القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، و «مختار الصحاح» لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، و«المصباح المنير» لأبي العباس أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، و«محيط المحيط» لبطرس بن بولس بن عبد الله البستاني، و«أقرب الموارد في فصيح العربية والشوارد» لسعيد الشرتوتي، و«المنجد» للأب لويس معلوف اليسوعي، و«المعجم الوسيط» للأساتذة: إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيات وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار.
كما عَرَّف في المقدمة مؤلف «القاموس الوحيد» الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – وما أدّاه من دور ريادي في نشر اللغة العربية في شبه القارة الهندية وما قام به من إنجازات في مجالات الخدمات اللغوية والمعجمية، والدينية والدعوية، والثقافية والأدبية، والاجتماعية والسياسيّة، والملية والوطنية. كما ذكر في تفصيل مزايا «القاموس الوحيد» التي يتفرد بها عن غيرها من القواميس التي وُضِعَت من قبل بالعربية والأردية.
* * *
كان الشيخ عميد ينوي التفرغ بعد استقالته من وظيفته في السفارة لأعمال علمية وتأليفية وكتابية؛ ولكن كثيرًا ما يحدث أن الإنسان يريد ويقدر ويدبر والقدر يريد ويقدر ويدبر على عكس ما يُدَبِّر ويريد ويقدر الإنسان، فلم يُتَحْ له أن يصنع شيئًا في مجال الكتابة والتأليف الذي كا مُؤَهَّلاً له سوى أنه أصدر لتعليم اللغة العربية للنشء الإسلامي ونشرها في هذه البلاد مجلة باللغة العربية باسم «اقرأ» نالت قبولاً واستحسانًا من الأوساط العلمية في شبه القارة الهندية ولاسيّما أوساط المدارس والجامعات الإسلامية والمدارس والجامعات الرسمية، واستفاد منها الراغبون في تعلم اللغة العربية استفادة كبيرة؛ ولكنها لم تطل حياتها، واحتجبت – بعد أن صدرت سنوات معدودة – للضائقة الماليّة؛ لأن فاعلي الخير عندنا لايساهمون في تقديم المساعدة لاستمرارية الأعمال العلمية، والمجلةُ لم تقدر – رغم مزاياها المتفردة – في استقطاب اهتمام المشتركين بعدد مطلوب للاستمرار في الصدور بانتظام. وقد اجتهد الشيخ في استرعاء لفتة القراء إلى المبادرة إلى الاشتراك في المجلة لتبقى صادرة تنفع وتؤدي الدور الذي لأدائه أُصْدِرَتْ؛ ولكن الأوساط العلمية – ولاسيما الإسلامية – عندنا عُجِنَتْ طينتُها بالبخل وعدم الإنفاق في مجال العلم والدراسة وإنما تودّ أن تحظى بكل شيء مجانًا ودون بذل أيّ رصيد من المال. وأدّى هذا الموقف غير المُشَجِّع إلى احتجاب المجلة التي كانت قد طلعت مشرقة المُحَيَّا وأثنت عليها الأوساط العلمية بما لم تُثْنِ به على مجلة عربية أخرى في هذه الديار الهندية؛ والثناءُ اللسانيُّ لا يُقَدِّم شيئًا ولا يؤخره فيما يتعلق بقضية من القضايا؛ وإنما التشجيع العملي هو الذي يضمن علاجها.
وسوى أنه كتب باللغة الأردية بأسلوب عذب كان نصيبه هو مقالات أعجبت القراءَ ولاسيّما المتذوقين للغة وأساليبها كان من بينهم كاتب هذه السطور، الذي ظلّ يُلِحُّ عليه أن يواصل الكتابة باللغتين العربية والأردية، ويُسَجِّل بصفة خاصّة باللغة الأرديّة ذكرياته ومواقفه في الحياة حتى يكون مددًا لكل قارئ وكاتب ومؤرخ، وظلّ يَعِدُ له بذلك؛ ولكنّه لم يتمكن من الوفاء بوعده لسبب أو آخر. وقد كان يمتلك أسلوبًا عذبًا رائعًا باللغة الأردية كان يتفرد به وكان يُعْجَبُ به القراء ويَلَذُّونه كثيرًا.
وسوى أنه بذل مزيدًا من الاهتمام على تطوير المدرسة النموذحية الإسلامية التي كان قد أسسها هو وحرمه من ذي قبل لتعليم النشء الإسلامي التعليم العصري في بيئة إسلامية.
وعلى تحسين أداء منظمة أبناء دارالعلوم/ديوبند القدامى التي كان قد ساهم في تأسيسها يوم 4/يونيو 1990م (9/ذوالقعدة 1410هـ) والتي عمل فيها عضوًا في مجلسها التنفيذي منذ تأسيسها حتى وفاته، ونائب رئيس لها منذ 2003م/1423هـ حتى 2004م/1424هـ ورئيسًا قائمًا بأعمالها منذ 2004م/ 1424هـ حتى وفاته.
وعلى تطوير مجلة «ترجمان دارالعلوم» الشهرية الأردية التي بدأت تصدر عن المنظمة منذ عام 2003م/1423هـ.
وعلى تحسين أداء «معهد التخصص في اللغة العربية» الذي كان قد أقامه تابعًا للمنظمة في عام 2003م/1423هـ، وأشرف عليه وقام بإدارته منذ تأسيسه حتى وفاته.
لو أنه انصرف – كما كان يحب – إلى العمل العلمي الدراسي الكتابي والتأليفي، لكان خيرًا له وللكثير الكثير من القراء والمستفيدين من علمه وكتاباته؛ ولكنه لأسباب مجهولة صار مدفوعًا إلى الأعمال المنظمية والتحركات الاجتماعية شبه السياسيّة التي أهمت – ولا تزال – الشعب المسلم الهندي في هذه الديار، الذي ظل مضطرًّا أن يعيش اضطربات طائفية وعداءات هندوسيّة وانحيازات حكوميّة رغم كون الدولة علمانية بحكم الدستور، فكان عليها أن لا تنحاز لأبناء ديانة دون أبناء ديانة أخرى. فـ«تَوَرَّطَ» الشيخ عميد في أنشطة شبه سياسيّة استقطبت اهتماماته كلّها واعتصرت قواه الجسمية والفكرية واستوعبت جميع لحظات حياته الباقية، خدمت مصالح الشعب المسلم الهندي، وعالجت قضايا تهمه كانت تنتظر العلاج، أوأوجدت أسبابًا كان من شأنها أن تؤدي إلى علاجها؛ ولكن محبي الشيخ عميد ظلّوا يأسفون على «ضياعه» مرة أخرى بين ملفات أعمال منظميّة ونشاطات شبه سياسيّة بعد ما «ضاع» أول مرة بين الكتابات الصحفية والتقريرية التي امتدت على آلاف صفحات، كتبها باللغتين العربية والإنجليزية بأسلوبه المتقن خلال عمله الوظيفي بالسفارة السعودية طَوَالَ نحو ثلاثة عقود، لم تر النور، ولم يطلع عليها قارئ مُقَدِّر ولا محبّ مُسْتَحْسِن.
* * *
عاش الشيخ الفترة فيما بعد الحياة الوظيفية الصامتة بين تحركات مُكَثَّفَة صاخبة توزّعت بين المؤتمرات والندوات، والحفلات والاجتماعات، والتظاهرات والاحتجاجات، والمسيرات والاعتصامات، والخطابات والمحاضرات في المدارس والجامعات في طول البلاد وعرضها. فالحياة الثانية كانت اجتماعية مفتوحة، بينما كانت الحياة الأولى شخصية منعزلة لم يحتكّ فيها بالناس وما يعيشونه من قضايا وهموم ومشكلات، فاكتشفوا فيه شخصية قيادية اجتماعية، بعد ما سمعوا عنه عن بعد أنه رجل يملك أهلية كتابية فائقة أتقن العلوم الشرعية في أكبر جامعة إسلامية أهلية في شبه القارة الهندية معروفة بـ«دارالعلوم/ ديوبند» ويُعَدُّ من الكُتَّاب المعدودين على الأصابع والعلماء المشار إليهم بالبنان بالعربية في شبه القارة الهندية.
في هذه الفترة عُيِّن عضوًا لفترة محددة في هيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند وهي فترة 2003-2005م (1424-1426هـ) ثم عُيِّنَ فيها عضوًا تأسيسيًّا وعمل بها لحياته. كما عمل أمينًا عامًّا مساعدًا لمجلس التشاور الإسلامي في الفترة ما بين 2003-2005م (1424-1426هـ) وأمينًا عامًّا له منذ 2005م/1426هـ لحين وفاته. وكان هذا المجلس صار جثة هامدة مع مرور الأيّام فنفخ فيه روحًا جديدة، فانتعش يؤدي ما قُدِّرَ له من الدور في خدمة قضايا الشعب المسلم الهندي، وأقام له أمانة مستقلة، وفروعًا شتى لتنسيق العمل وتفعيل الدور وتحسين الأداء. كما قام من على منبره بتنظيم احتجاج فاعل لمقاومة مُنَظَّمة لما طلعت به الحكومة المركزية من اقتراح إقامة هيئة مركزية للمدارس الإسلامية في البلاد تمهيدًا للطريق إلى القضاء على روحها وسلبها فاعليتها وتحويلها مؤسسة خادمة للمصالح الحكومية. وعقد يوم 24/أكتوبر 2009م = السبت: 4/ذوالقعدة 1430هـ بمدرسة «نيوهورائزن» العصرية بدهلي اجتماعًا مُوَسَّعًا ساهم فيه شتى المنظمات والمؤسسات الإسلامية إلى جانب اجتماع جماعي وشخصي بالوزراء وأعضاء البرلمان الهندي، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في تجميد الحكومة اقتراحها بإقامة الهيئة المذكورة، إلى جانب احتجاجات أخرى فعّالة قام بها الجامعة الإسلامية دارالعلوم /ديوبند وجمعية علماء الهند. كما دأب الفقيد – رحمه الله – على إصدار تصريحات صحفية مُوَجِّهَة للشعب المسلم حول كل قضية هامّة.
وإلى هذه النشاطات المتصلة أقام الشيخ – رحمه الله – من قبل منظمة أبناء دارالعلوم/ديوبند القدامى عدة ندوات تاريخية كان على رأسها الندوة التي عقدها حول حياة الإمام محمد قاسم النانوتوي في ملعب «تال كتورا» بدهلي في الفترة ما بين السبت – الاثنين: 20-22/مايو 2000م (14-16/صفر 1421هـ) حضرها كبار العلماء والمثقفين ورجال الفكر والدعوة والصحافة من أنحاء البلاد، ولحقتها الندوة التي عقدها بدهلي من قبل المنظمة حول حياة العالم الهندي الكبير سماحة الشيخ منة الله الرحماني – رحمه الله – الذي كان الداعي الأول إلى تأسيس هيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند.
كما أصدر لمجلة «ترجمان دارالعلوم» الأردية الشهرية الناطقة بلسان المنظمة أعدادًا ممتازة ضخمة كان على رأسها العدد الممتاز حول حياة معلم العربية العبقري في شبه القارة الهندية والمتفاني في خدمتها فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – وتلاه العدد الممتاز حول حياة الإمام محمد قاسم النانوتوي – رحمه الله – والعدد الممتاز حول حياة القاضي مجاهد الإسلام القاسمي – رحمه الله – (1355-1423هـ = 1936-2002م).
في هذه الفترة من حياته إلى هذه الخدمات الغُرَّىٰ التي قام بها لصالح أمته ودينه قام – رحمه الله – برحلات دينية ثقافية إلى خارج الهند، وعلى رأسها رحلته للحج والزيارة، التي قام بها عام 2005م/1425هـ والرحلة الثانية للحج التي قام بها على دعوة من الحكومة السعودية عام 2006م/1426هـ والرحلة التي قام بها إلى الرياض لحضور فعّاليّات «معرض الجنادرية» الثقافي التراثي عام 2006م/1426هـ.
* * *
ولم يكن الشيخ كاتبًا بارعًا باللغتين العربية والأردية فحسب؛ بل كان كذلك خطيبًا مُحَبَّبًا؛ لأن خطاباته ومحاضراته كانت تكون مُنَسَّقَة، قليلة المباني كثيرة المعاني، مجردة من التكرار والحشو، مُنَضَّذَة كاللآلي، ثَرَّةً بالمعلومات، فائضة بأفكار طريفة، مزدانة بعرض لبق سلس، أشبه ما تكون بحديث المجالس والدروس التي يلقيها المدرس الخبير في الفصول الدراسيّة؛ فكان المستمعون يُصْغُون لها الآذان، ويَتَلَقَّفُون ما فيها من الأفكار والرؤى بحيث كان لا يضيع عليهم أيٌّ من حلقاتها، لحرصهم الشديد عليها، ورغبتهم البالغة فيها، واستعدادهم النفسيّ المسبق لتلقّيها. لم يكن خطيبًا محترفًا؛ ولكنه كان خطيبًا مُجْدِيًا بكل من معلوماته الغزيرة وخبراته الواسعة في مجال العلم والعمل والكتابة والدراسة، ينثر الدرر، ويُفَرِّق الأزهار والرياحين، ويُتْحِف المستمعين باللذة و الطرافة والانتعاش والانبساط.
ولم يكن يتّصف بهذه المزايا الغنية وحدها – التي ذكرناها في الصفحات السابقة – بل كان يتحلّى إلى جانبها بمزايا وخصائص كانت تُغْلِي الخصائص السابقة الذكر؛ بل كانت تُكْسِبها المصداقيةَ، فكان جريئًا جاهرًا بالحق – ولو كان مُرًّا – وكان وقورًا في عذوبة الخلق، أبيًّا في الشعور المُرْهَف، متواضعًا في القناعة، محبًّا للنظافة والنظام، متقيدًا بآداب الحياة، مبالغًا في التزامها عن طبع لاعن تطبّع، يؤذيه الفوضوية في كل شيء، ويسرّه النظام والترتيب والانضباط في كل مناحي الحياة.
وكان مضيافًا، جوادًا سخيًّا، يتفقد حاجات المحتاجين، وينفق على الفقراء والمساكين، ويتأدب مع الكبير، ويتوقع من الصغير أن يتأدب مثله مع كبيره، فإذا وجده يُخِلُّ بهذا الأدب بادر إلى تنبيهه إلى ذلك، و وجهه به ولم يصبر أن يسكت عليه كشيطان أخرس.
وكان يحتاط في كل من الكتابة والحديث و النقل عن الناس أو الكتب والحكاية عن أحد. وكان ضابطاً للسانه وقلمه لم يكن يترك حبلهما على غاربهما مثل أغلب الكُتَّاب والمتحدثين. وكان يحب من يحبه عن صدق وإخلاص، ويرجو منه مثل ذلك. وكان سمح النفس، سليم دواعـي الصـدر، غـير مَحْنِيّ الضلـوع على البغض، وكان إذا كره عن أحد أي سلوك منه أفصح له عن ذلك مع دلالته على سبب كرهه لسلوكه. وكان يعترف بمحاسن غيره دونما تردّد ولو كان معارضًا له.
وكان يتمتع بالغيرة الإسلامية والحمية الدينية لحد بعيد، كنا نشاهد ذلك في كثير من المواقف التي مسّت الإسلام أو المسلمين. ومنها ما حكى لنا أنه عندما زار الهند الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر (1336-1390هـ = 1918-1970م) بعد ما كان قد أعدم شنقًا الأديب المصري الإسلامي الكبير سيد قطب – رحمه الله – (1324-1387هـ = 1906-1966م) وبمناسبة زيارته للهند أرادت جمعية علماء الهند إقامة حفلة استقبال له، وكان عندها أمينها العامّ فضيلة الشيخ السيد أسعد المدني – رحمه الله – الذي دخل عليه – الشيخ عميد – في غرفته بالجمعية التي كان مسؤولاً عن قسم العلاقات العربية الخارجية فيها وتلطّف معه أن يكتب كلمة التحية والترحيب بجمال عبد الناصر، وكان يكرهه الكراهية كلها من أجل فعلته الشنعاء المتمثلة في إعدام سيد قطب مثلما كان قد كرهه لذلك العالم الإسلامي كله من شرق الأرض إلى غربها، فسأل الشيخ عميد الشيخَ أسعد المدني هل تأمرني بذلك أو تلتمس مني إيّاه، فأمسك بيمينه ذقنَه وقال له إني ألتمس ذلك من أخي الصغير، فردّ عليه بصوت جهوري غاضب شفّ عن مكنونات صدره نحو جمال عبد الناصر: إني لن أكتب كلمة ترحيبيّة لذلك القاتل.
وكذلك شهدنا منه هذا الموقف النابع من الغيرة الإسلامية عندما هاجمت أمريكا على العراق عام 2003م؛ حيث عارض الهجوم الأمريكي الغشوم بشدة لامزيد عليها؛ لأنه كان يؤمن أن أمريكا إنما تشفي بذلك روحها الصليبية التي أذكتها الصهيونية العالمية التي صارت أمريكا عبدًا ذلولاً لها.
على كل فقد كان ذا شخصية فريدة منسوجة على غير منوال مطروق، وذامروءة وشهامة لا يُعْهَدَان إلاّ في شخصيات كبيرة فذّة، يُفَكِّرَ تفكيرًا مُبْتَكَرًا، ويضع دائمًا مشاريع عملاقة وتصاميم بديعة في كل مجال يطرقه.
وأحسنُ ناحية في شخصيته أنه سَدَّ مسدَّ شقيقه الأكبر ومربيه الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي، وملأ لحد كبير الفراغ الذي شعر به تلاميذه بعد وفاته، ملأه بشخصيته العلمية وبكثير من صفاته التي توارثها من والده الشيخ مسيح الزمان (المتوفى 7/جمادى الآخرة 1402هـ الموافق 5/مارس 1982م) الذي كان من خريجي الجامعة الإسلامية الأهلية الأم في شبه القارة الهندية دارالعلوم الكائنة بمدينة «ديوبند» بالهند ومن تلاميذ العلامة محمد أنور شاه الكشميري (1292-1352هـ = 1875-1933م) شيخ الحديث الأسبق بالجامعة، والتي صقلتها تربية شقيقه الأكبر الشيخ وحيد الزمان – رحمه الله وجعل جنة الفردوس مثواه.
(تحريرًا في الساعة العاشرة من صباح يوم السبت: 22/شوال 1436هـ الموافق 8/أغسطس 2015م).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40