دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

اختيار الشيخ محمد طيب لرئاسة «دارالعلوم»:

       في أخريات عام 1339هـ اقترح على المجلس الاستشاري للجامعة أحد أعضائه وهو الشيخ سعيد الدين الرامفوري أن رئيس «دارالعلوم» قد أصابه الضعف بحكم كبر سنه، وهو وإن لم يدع التقصيرَ يتسرب إلى شيء من شؤون «دارالعلوم» إلا أن الواجب على المجلس الاستشاري أن يستشعر بذلك، ويتخذ خطوات تخفف من وطأة الأعمال عليه وعلى نائبه، ونصُّ الاقتراح كما يلي:

       «إن ما يقوم به رئيس «دارالعلوم» ونائبه من الخدمات أظهر وأجلى من الشمس في رائعة النهار، وإنهما قد أصابهما الضعف بحكم كبر سنهما، وبسبب الأمراض المتنوعة التي يتعرضان لها، ولم يدعا شيئا من التقصير يتطرق إلى أعمال «دارالعلوم»، إلا أن من واجب المجلس الاستشاري أن يستشعر بذلك، ويتخذ خطوات تخفف من وطأة الأعمال عليهما فيجب اختراع منصب «النائب الثاني». ولشَغل هذا المنصب  يجب اختيار شخص من ذوي العلم والعائلة الكريمة والنفوذ الواسع، بجانب نصحه لدارالعلوم كما يتصف به رئيس «دارالعلوم» ونائبه هذان، وأنا أرى اقتراح اسم الشيخ المقرئ محمد طيب – سلمه الله- لذلك؛ فإنه من العلماء الشباب الصالحين، ومن عائلة كريمة، وَرِثَ النصح والخير لدارالعلوم/ديوبند أبًا عن جدٍ.

       والرئيس الحالي أكبر أنجال الشيخ الإمام محمد قاسم النانوتوي – رحمه الله-، والشيخ محمد طيب من أحفاده. وما لقيته الجامعة من توسع موارده المالية، وما قطعته من أشواط التقدم في المجال التعليمي، وما شهدته من تضاعف عدد الطلاب وما كسبته من السمعة الطيبة في قلوب الناس في الهند وفي الأقاليم البعيدة وهي في ازدياد مستمر، وخير ما يشهد بذلك «دارالعلوم» نفسُها. فعلى المسلمين الناصحين لها عمومًا، وعلى المجلس الاستشاري خاصةً أن يكلوا أمر «دارالعلوم» إلى واحد من هذه العائلة الكريمة – شريطة أن يكون مؤهلا لإدارتها – وذلك ليستمر الإشراقات والنفحات الروحانية التي تشكل عونًا معنويًا في تطوير«دارالعلوم» ورقيها وازدهارها»(1).

       وبناءً على قرار المجلس هذا تم تعيين الشيخ المقرئ محمد طيب نائبًا لرئيس «دارالعلوم»، إلا أن هذا المنصب لم يوافق طبعه وميوله، فقد كان يؤثر اعتزال الشؤون الإدارية لينصرف إلى الشؤون العلمية والتدريس، فلم تمض مدة طويلة حتى تم تحويله إلى قسم شؤون التعليم بناءً على رغبةٍ منه وإصرار، إلا أن القائمين على «دارالعلوم» لم يدعوه في شؤون التعليم حتى عاد إلى نيابة الرئيس مرةً ثانيةً، فشغله حتى فاتحة شهر رجب عام 1348هـ. وتوفي الشيخ العثماني – رحمه الله – فرشحه المجلس – كتجربة أولية- لمنصب القائم بأعمال رئيس «دارالعلوم»، فلما علم– المجلسُ- علمًا يقينًا أنه يحمل كفاءةً كافية لشغل هذا المنصب والقيام به على أحسن ما يرام، رشحه لرئاسة «دارالعلوم» بصفة استقلالية بقراره الآتي، ونصه ما يلي:

       «نحن – أعضاء المجلس الاستشاري لدارالعلوم – أمضينا المدة التي تتراوح بين 18/شوال عام 1348هـ وبين 21/شوال عام 1348هـ في متابعةٍ ونظرٍ في أقسام «دارالعلوم» وشعبها كلها، وتم تصفية الشوؤن التي عرضها رئيس «دارالعلوم» والتي تحتاج إلى نقاش – دون مجاملة أو مخافة لومة لائم. ونحن -أعضاء المجلس الاستشاري – نشهد بأن تصرفات الشيخ المقرئ محمد طيب – منذ أن قام بأعباء إدارة «دارالعلوم» – تفيض صدقًا وإخلاصًا، وحبًا في الله تعالى وبغضًا فيه، وحرصًا على أداء الحقوق وعزمًا قويًا، وثباتا ومثابرةً في الشعور بالواجب المنوط به على أحسن مايكون. ولله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركاً فيه. ونأمل –بفضل من الله تعالى وكرمه – أملًا مؤكدًا أن الكفاءة التي ظهرت من رئيس «دارالعلوم» في هذه المدة القليلة سيزداد ظهورها أضعافًا مضاعفةً في المستقبل بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز. وهذه كلمات عفوية نابعة من أعماق القلوب، لايشوبها الرياء والمجاملة، ولا الرغبة في إطراء جهود رئيس «دارالعلوم»(2).

توسعة المسجد، واستكمال بناء «دار الحديث»:

       تضاعف عدد الطلاب يومًا فيومًا في رحاب «دارالعلوم»، فضاق المسجد عليهم بما رحب، وكانت المعاناة تزداد في الصيف والمطر بصورةٍ خاصةً. فكان أول اقتراح كتبه الشيخ المقرئ محمد طيب بخط يده بناء الدور الثاني من المسجد، كما تم توسعة فناءِ المسجد كذلك من الجانب الشرقي، وأصبح حوض المسجد –الذي كان في أخريات المسجد – يتوسط المسجد. وكل ذلك على نفقة سيد زين العابدين الحيدرآبادي. واكتمل بناء «دارالحديث» العملاق الرائع الذي كان يجري العمل فيه منذ مدة غير قليلة.

عام 51-1350هـ وتدشين قسم التفسير:

       كانت «دارالعلوم» تدرس- من زمن طويل- اقتراحَ ضرورة تدشين «دورة التفسير» لتبصير الطلاب بذلك وتمكينهم منه على المستوى الراقي، كدأب «دورة الحديث الشريف». وكانت المناهج الدراسية المتبعة في «دارالعلوم» تتضمن دراسة «الجلالين»، وتفسير «البيضاوي» – سورة البقرة فقط-. ودراسة هذه الكتب كان من شأنها أن يؤرث الطلاب قدرًا من المناسبة والكفاءة ما يعينهم على فهم القرآن الكريم، ولهم أن يزدادوا بصيرةً في هذا العلم بمطالعة ودراسة ذاتية بالإضافة إلى التمكن من الاستفادة من الآيات القرآنية في الجملة بعد ما يتخرجون من «دارالعلوم»، غير أن جميعهم قد لايتوفر لهم فرص الاستمرار في مزاولة العلوم – بعد التخرج – وتنمية علومهم ومعارفهم فمسَّت الحاجة إلى تزويد الطلاب – زمن التحصيل الدراسي – برصيد من المعلومات التفسيرية المفصلة، لتكون المعلومات المحفوظة لديهم عونا على تدارك ما يفوتهم من مطالعة الكتب إذا ما عجزوا عنها بعد التخرج.

       واستمرت  المدارس الإسلامية الهندية فيما قبل عهد الشاه ولي الله الدهلوي – رحمه الله – في دراسة علم الحديث على الاكتفاء بدراسة «مشكاة المصابيح»، أو «مشارق الأنوار» والاستغناء بهما عن غيرهما من الكتب الحديثية. فكان الشاه ولي الله الدهلوي أول من غيَّر هذا المسار الدائب في دراسة علم الحديث، ورفع من مستواها. وقامت «دارالعلوم» بتعميم وتوسعة نطاق هذا المستوى الدراسي الحديثي الذي اخترعه الشاه ولي الله الدهلوي خير قيام. واحتلت «دورة الحديث» مكانةً رفيعةً في دراسة الحديث الشريف بشكلٍ مستمرٍ.

       وضمنوا المناهج الدارسية – مع تدشين دورة التفسير- كتابين آخرين هما: «البيضاوي» – كاملا-و «تفسير ابن كثير»؛ فإن هذين المصدرين من مصادر التفسير لهما أهمية بالغة قاصية. وألزموا دراسة «الجلالين» في التفسير، و «الفوزالكبير» في أصول التفسيرقبل «دورة الحديث الشريف». ورفع تدشين قسم التفسير – كثيرًا – مستوى دراسة علم التفسير شأنَ دراسة علم الحديث بتدشين «دورة الحديث الشريف».

وجوب دراسة علم تجويد القرآن الكريم:

       بدأت «دارالعلوم» تعليم تجويد القرآن الكريم منذ عام 1321هـ إلا أن الطلاب كان لهم الخيرة في دراسته، وغيرواجب عليهم، فألزموا دراسة التجويد اعتبارًا من هذا العام، وقرروا عدم منح المتخرج شهادة التخرج ما لم يستكمل تجويد الجزء الأخير من القرآن الكريم على أقل تقدير.

عام 1352هـ وبناء الدورالثاني من «دارالحديث»:

       كانوا ينوون بناء «دارالحديث» فوق مبنى «نودره» في أول ما كانوا يدرسون بناءه، وفعلاً وضعوا له حجر الأساس عام 1329هـ ثم جاءت قرارات أخرى قضت ببناء «دارالحديث» عام 1333هـ وراء مبنى «نودره» بدلًا من بنائه فوقه، وبرزت للوجود بنايةٌ عملاقة رائعة خلال عدة سنوات بمساعٍ وجهود بذلها فاعلو الخير من المسلمين، وتتضمن هذه البناية – بجانب قاعةٍ واسعة الأرجاء – غرفًا واسعةً عدةً. وتعتبر هذه البناية فريدةً من نوعها في المدارس الإسلامية الهندية. ثم لم يمض على تأسيس «دارالحديث» هذه إلا عشرون عامًا حتى مست الحاجة – نظرًا إلى العدد المتزايد من الطلاب- إلى تجسيد الخطة المرسومة عام 1329هـ وإنشاء قاعة حديث جديدة فوق «نودره»، فبدأوا العمل في بنائها. وتم بناء قاعة رائعة خلال أعوام عدة.

تعديلات في لوائح الترشيح للدراسة في «دارالعلوم»:

       وكانت آلية ترشيح الطلاب للدراسة فيها مستعصية للغاية ذلك الحين، فقد كانوا يكتبون الطلبات بخط أيديهم لتتم إجراءات ترشيحهم للدراسة. وكان التقديم والتأخير في ذلك نتيجةَ عدم التنسيق والتنظيم مما يسبب مشاكلَ ومتاعب للطلاب. فتفادوا ذلك هذا العام فطبعوا استمارات تخص الطلاب القدماء واستمارات تخص الطلاب المستجدين. ووضعوا لهذه الاستمارات آلية تعين على تمريرها وعرضها على الأقسام المختصة خلال أسبوع واحدٍ، ولتتحقق متطلبات الترشيح والدروس المتعلقة، وتحديد المواعيد، وتوزيع المقررات الدراسية، وإجراء المنح، وإجراءت السكن لكل واحدٍ من الطلاب.

تذاكر الوجبات الغذائية:

       كما تم إجراء التعديلات المناسبة في تذاكر الوجبات الغذائية – شأن التعديلات في إجراءت الترشيح للدراسة- فقد جرى العمل آنذاك على أن يوافي الطلاب المطعمَ على الميعاد، ويحصلوا على الوجبات الغذائية دون نظام وتنسيق مسبق. وكان يسبب ذلك زحمةً شديدةً بجانب صعوبة التعرف على من حصل على وجبته الخاصة ومن لم يحصل عليها، ومن عاد إليه مرة ثانية. وكان مرجع ذلك إلى ذاكرة المسؤول المختص بتوزيع الوجبات فحسب. وتفاديًا من هذه المشكلة وتنسيقا لذلك اصطنعوا تذاكر من ألمونيوم مدورة الشكل، تذكرةً خاصة بالغداء وتذكرةً خاصةً بالعشاء، كما خالفوا بين ألوان التذاكر للتمييز بين ما يخص الغداء و العشاء، وكل تذكرة يحمل رقمًا خاصًا. وعلى كل تذكرتين – الغداء والعشاء- رقم واحد. وكانوا يسجلون أسماء الطلبة في سجل خاص بالمطعم بالأرقام التسلسلية، كل رقم منها يخص طالبًا من الطلاب، وهو رقم تذكرته. ويقدم الطالب – حين الحصول على وجبة من الوجبات – تذكرةً ويسلم له الموظف المختص تذكرةً أخرى موجودة عنده، ويزوده بالوجبة المختصة. وهذه الآلية أفادت تسهيلا وراحةً للطلاب بجانب التنظيم والتنسيق المطلوبين في توزيع الوجبات الغذائية، كما قضت هذه الآلية على ظاهرة عودة الطلاب إلى تناول الوجبات مرتين مما قد يحدث أحيانًا. كما أعانت هذه الآلية على معرفة الغائب من الطلاب عن الوجبات الغذائية. وأعظم من ذلك كله أنهم كانوا يخلِّصون توزيع الوجبات الغذائية على ألف طالب أويزيدون خلال ساعةٍ واحدةٍ.

عام 1353هـ، وتبرع مبارك:

       زار الشيخ المقرئ محمد طيب عام 1353هـ مكة المكرمة يريد الحج، فتقدم  السيد شاه نياز أحمد – من أصحاب ومسترشدي الحاج / إمداد الله المهاجر المكي – بتبرع قدره ستة آلاف روبية  لصالح دارالعلوم/ ديوبند. ولا نعدوالحق لوقلنا: إن هذا المبلغ الكبير من التبرعات لصالح «دارالعلوم» يعتبر «تبرعًا مباركًا» من عبدٍ من عباد الله الصالحين بجانب «موهبة عظيمة» من أرض بيت الله الحرام. ولعل ذلك أول مساعدة تنطلق من أرض بيت الله الحرام لمؤسسة تعليمية بعيدة شاسعة.

*  *  *

الهوامش:

(1)       سجل قرارات صادرة عن المجلس الاستشاري عام1340هـ .

(2)       التقارير الدورية عام 49-1348هـ .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1436 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2015م ، العدد : 12 ، السنة : 39


(*)     أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

Related Posts