دراسات إسلامية

بقلم : سماحة الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي رحمه اللّه (*)

تعريب : الأستاذ نور الحق الرحماني (*)

7 – المعاملة المبحوث عنها ربا :

       ففي ضوء التفاصيل السابقة عندي القول الراجح ، الذي تؤيّده الدلائل والنصوص الشرعية. ويطمئن به القلب ، هو أن المعاملات الربوية والقروض الإنمائية التي تجري حاليًا بين الحكومة ومواطنيها يجب أن ندخلها في قسم الربا المحرم في الشرع الإسلامي . ثم نتفكر في هذه المسئلة من ناحية أخرى ، أنه هل هناك صعوبات ومشقات ، تجلب التيسير والسهولة في الحكم في ضوء القواعد الشرعية؟ وهل هناك فرق في مدارج الحرمة بين أخذ الربا ودفعه ، بالرغم من كونهما محرمين ؟ فإن كان الأمر كذلك فكيف يظهر أثره على الأحكام؟

شناعةُ الربا :

       8 – إن أخذ الربا حرام ؛ لأنه فيه يأخذ شخص مال غيره من غير عوض ؛ فأكلُ الربا أكلُ مال الغير بالباطل ، وهو حرام لعينه . أما إعطاء الربا فهو حرام لكونه وسيلة لذلك الحرام ، وإلاّ فليست حقيقته سوى أن أحدًا يعطي ماله غيره من غير عوض ، ولا يخفى أن ذلك ليست معصية في أصله ، ولكن هذا العمل الساذج يتسبّب في أمر قبيح وهو إثارة القساوة والغلظة والأثرة والاستغلال الاقتصادي في المجتمع الإنساني . أعني أنه يفضي إلى أكل الربا الذي حرّمه الله ، وأوعد عليه وعيدًا شديدًا . فأخذ الربا ودفعه كلاهما محرم ؛ ولكن الأوّل قبيح وحرام لعينه والثاني حرام لغيره .

من المشقة إلى اليسر :

       9 – «المشقة تجلب التيسير» قاعدة من القواعد الكلية التي ضبطها الفقهاء ، وهذه القاعدة تتعلق بالرخصة والتخفيف ولها سبعة أسباب ، والسبب السادس هو العسر وعموم البلوى ، وهذا العسر وهذه المشقة بعضها عمومي لابد من مواجهته ، وبعضها خصوصي يواجهه الإنسان في بعض الأحيان، وهذا النوع الثاني من المشقة قد يكون خطيرًا كالخشية على النفس ، وقد يكون ساذجًا وبسيطاً كوجع إصبع ، وقد يكون بين الشدة والسذاجة كخشية ازدياد المرض بالصوم ، فالنوع الأول والثالث من المشقة يكون وسيلة للتخفيف والتيسير ؛ ولكن لاعبرة بالحرج والمشقة إلاّ في المواضع التي لايوجد فيها حكم منصوص ، ولا عبرة شرعًا لعموم البلوى في موضع النص ، يقول العلامة ابن نجيم الحنفي : الفائدة الثالثة : المشقة والحرج إنما يُعتَبر في موضع لانص فيه (الأشباه والنظائر، القاعدة الرابعة الفائدة الثالثة، ص:138 ، الهند) وبناءً على ذلك لا يجوز استخدام هذه القاعدة في المسئلة المبحوث عنها .

إزالة الضرر :

       10- «الضرر يُزال» قاعدة هامة من القواعد الفقهية ، وهي مأخوذة من الحديث النبوي : «لاضرر ولاضرار في الإسلام» وتتعلق بهذه القاعدة الكلية قواعدُ ضمنية عديدة ، منها القاعدة الأولى : الضرورات تبيح المحظورات» ، وصرّح «الحموي» أن للضرورة خمسة مدارج : الأول الضرورة ، والثاني الحاجة ، والثالث المنفعة ، والرابع الزينة ، والخامس الفضول .

       فالمراد من الضرورة : بلوغ احتياج الإنسان حَدًّا لولم يتناول الحرام هلك أو قارب ، فذلك يبيح تناول المحظور .

       ولو لم تبلغ الحاجة هذا الحد ؛ ولكن كانت بحيث لولم يتناول المحظور وقع في ضرر ومشقة فهي الحاجة ، وهذا لايُبيح الحرام ؛ ولكنه يكون سببًا للتخفيف في العبادات ، مثلاً إنه يُبيح الفطر في الصوم. والمراد من المنفعة : اشتهاء المرء المستوى الأعلى من قدر الضرورة في الأكل والشرب والحوائج الأخرى مثلاً الخبز واللحم طعام ؛ ولكن النفس تشتهي أن تأكل خبز البُرّ ولحم الغنم .

       والمراد من الزينة : التنوع والتجدد في المأكل والمشرب ، والملبس والمسكن ، وهذه الدرجة أعلى من المنفعة .

       والمراد من الفضول : الميل إلى التنعم والتعيش، بحيث لايميّز بين الحلال والحرام والمشتبهات .

درجات الأحكام :

       قال الحموي : ههنا خمس مراتب : ضرورة ، وحاجة ، ومنفعة ، وزينة ، وفضول . فالضرورة : بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب ، وهذا يبيح تناول الحرام . والحاجة : كالجائع الذي لولم يجد ما يأكله لم يهلك ، غير أنه يكون في جهد ومشقــة ، وهــذا لايبيح الحــرام ويبيح الفطر في الصوم . والمنفعــة : كالذي يشتهى خبز البر ولحم الغنم والطعام الدسم . والزينة : كالمشتهي بحلوة السكر. والفضــــول: التــوسع بأكل الحـرام والشبهة. (حاشية الحموي على الأشباه والنظائر / 108 ط نول كشور)

       ولايخفى أن الإسلام لايسمح بالفضول بحال من الأحوال ، ولايبيح التنعّم والتلذذ في الحياة ، بحيث يتجاوز حدود الحلال والحرام والمشتبهات ، وكذلك ليست المنفعة والزينة في الشرع الإسلامي مما يبيح الحرام ؛ ولكن الضرورة والاضطرار يبيحان الحرام .

       والحاجة لا تبيح الحرام في عامة الأحوال ، غير أن الحاجة – عامة كانت أو خاصة – قد تتنزّل منزلة الضرورة ؛ ولذلك أباح الفقهاء الاستقراض بالربح لمن لايجد سبيلاً لسدّ حوائجه ، وكانت مما يوقع صاحبها في حرج ومشقة شديدة .

       القاعدة السادسة من الخامسة : الحاجة تتنزل منزلة الضرورة عامة كانت أوخاصة ، ولهذا جُوّزت الإجارةُ على خلاف القياس للحاجة … وفي «القنية والبغية» : يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح (الأشباه، ص 137 باب الكراهة ، البحر الرائق 6/137)

خلاصة البحث :

       ففي ضوء الأصول السابقة نستطيع القول بجواز الاستقراض بالربح لذوي الحاجة من الأفراد والجماعات إذا لم يجدوا سبيلاً إلى قضاء حوائجهم بغير ذلك ، والحاجة من نوع توقع صاحبها في حرج ومشقة ، أما أخذ الربا فإنه حرام على كل حال .

       وليُعلم أنه لايُفتى بجواز الاستقراض بالربح للناس جميعًا على الإطلاق ، بناءً على هذا الأصل . سواء كانوا محتاجين إلى ذلك أولا ، وسواء أرادوا بهذا الاستقراض الإضافة إلى تنعّمهم وتعيّشهم ، وسواء أرادوا صرف المال في الإسراف والرياء والسُمعة ، أما الاحتياج والاضطرار فله حكم آخر.

       وتبيّن من هذا البحث كذلك أن يباح الاستقراض بالربح عند الضرورة من غير المسلمين ، ولكن لاتجوز هذه المعاملة الربوية فيما بين المسلمين؛ لأنه كما : يحرم على المسلم أكل الحرام ، كذلك يحرم عليه إطعام غيره من المسلمين الحرام .

       الفرق بين قروض الحكومة الربوية وبين القروض العامّة :

       1- ولكنني أرى أن هناك فرقًا كبيرًا بين القروض الربوية العامة والقروض الربوية التي تُستَقرضُ من الحكومات . ولابد في هذا الخصوص من اعتبار أمور :

للحكومة موارد مالية عديدة :

       (الف) الضرائب التي تضربها الحكومة على مواطنيها في صور مختلفة ، سواء كانت إتاوة ، أو مكوسًا تُفْرَضُ على البضائع التجارية المختلفة وهي (Import) ، أو (Export) ، أو الرسوم الإنتاجية التي تُفْرَضُ على الحوائج المختلفة .

       (ب) الإيرادات التي تحصل للحكومة بالتجارة بطريق مباشر (Public Sector) .

       (ج) المبالغ التعاونية والأموال الخيرية والقروض المختلفة – ربوية كانت أو غير ربوية – التي تمنحها الدول الأخرى للحكومة لمصارف خيرية مختلفة .

       (د) الموارد الطبيعية التي تُعْتَبر ملكية الحكومة، كالدخل الذي يحصل للحكومة من بصحاري والمعادن .

نوعية الحكومة الهندية :

       2- نظام الحكم في الهند ديمقراطي ، وهو في الأصل نيابة عن الجماهير (Representative System of Govt.) أعني أن :

       (الف) الشعب ، هو مصدر جميع السلطات والاختصاصات .

       (ب) وحق التصويت فيها لكل عاقل وبالغ من المواطنين .

       (ج) الناخبون البالغون المنتشرون في طول البلاد وعرضهاقُسّموا إلى أكثر من خمس مائة سهم. واعتُبِرَ كلُ سهم منهم وحدة ، وكل وحدة منها تنتخب لها ممثلاً بكثرة الآراء .

       (د) والحزب الذي يشتمل على الأكثرية من أولئك والممثلين – أعضاء البرلمان – البالغ عددهم أكثر من خمس مائة ، هو يتولّى إدارة الحكومة وانتخاب مدار المهام – أعني رئيس الوزراء – من أعضائه وتشكيل الهيئة الإدارية للحكومة بواسطة .

       (هـ) وهذه الحكومة تكون مسؤولة عن فرض الرقابة على الموارد المالية ، وتحديد مصاريفها ووضع الخطة لها أو تنفيذها ، نظرًا إلى مصالح الشعب في ضوء دستور الهند .

       (و) ونفس الصورة تكون في مجلس النوّاب للولاية في حدود الحكومة الإقليمية واختصاصاتها .

       3- من المسلّم أن الشعب والجماهير، هم الذين ينتفعون بالموارد المالية للحكومات الجمهورية مبدئيًّا ، وكذلك المسؤوليات التي تقع على الحكومة الجمهورية (بصدد أداء الديون والفوائد وما إلى ذلك) تقع مسؤولية أدائها في الحقيقة على الشعب بطريق غير مباشر .

       4- وخزينة الحكومة تُعْتَبر خزينة الجماهير، ولذلك يجمع جميع الدخل والإيرادات في الحسابات الشعبية .

       5- وهناك ينشأ سوال وهو أنه من يملك هذه الخزينة الوطنية ؟ إني أظنّ أن الوحدة التي تشتمل على مواطني الهند ، هي التي تملكها من حيث المجموع (Nation) ، ولا يملكها فرد معيّن على سبيل الإنفراد .

       فالحاصل أن مجموعة من الأفراد تملك خزينة الحكومة من حيث المجموع . وهذه المجموعة هي التي تفوّض مسؤولية التصرف فيها إلى الهيئة الإدارية للحكومة على أساس الخطة الموضوعة لذلك . ولكن الجماهير لايملكونها على سبيل الانفراد ، ولذلك سلّمت حقوق الملكية الفردية مع الحقوق الاجتماعية في هذه الحكومة (غير أن الحكومة حصلت أخيرًا على سلطة قصر حقوق الملكية الفردية بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان ، وهذا الاتجاه لايزال يزداد يومًا فيومًا) . وكذلك يوجد الإذن في الدستور للمعاملات التجارية الشخصية مع المعاملات الاجتماعية  (Public Sector) وقد تقوم الحكومة بتشجيع المعاملات الفردية .

       6- وقد أوضحت من قبل أن مواطني الهند لايملكون خزينة الحكومة على سبيل الانفراد ؛ ولكن لكل فرد من أفرادها حق الانتفاع من الخزينة العامة ، ودستور الهند يعطي جميع سكانها حق الاستفادة من خزينة الحكومة حسب القواعد المقررة لذلك .

       7- أما مسئلة تعلق حق الإنسان بشيء من غير أن يملكه فنجد نظيرًا لها في القانون الإسلامي ، وهو أن حق ورثة الميت يتعلق بثلثي ماله في مرض وفاته ، بالرغم من أنهم لايملكون مال مورثهم في حياته ولايجوز لهم التصرف فيه .

       وكذلك المساجد والشوارع والأنهار وغيرها من المؤسسات الخيرية وأمور الفلاح الاجتماعي ، لايملكها فرد بعينه شرعًا ؛ ولكن يثبت للعامة والجماهير حق الانتفاع بها . ومن نظائرها – كما أظن – الوقف على الأولاد ، حيث لايكون لواحد منهم أن يتصرف فيه كالمالك ، الذي يملك بيع ما يملكه من الأشياء وغيره من التصرفات ؛ ولكن يحصل حق الانتفاع به لكل واحد منهم حسب تصريحات الواقف .

       8- فعندي خزينة الحكومة ثروة مشتركة يستحق المسلمون أن يستفيدوا منها كغيرهم من المواطنين . وبناءً على ذلك يجوز للمسلمين أن ينتفعوا بالأموال التي تخصّصها الحكومة في ميزانيتها للمشاريع الإنمائية ، كبناء المساكن وتنمية التجارة والصناعة والحرفة والقضاء على البطالة .

       9- ولكن المشكلة هي أن المرء المسلم حينما ينهض للاستفادة من تلك المشاريع الإنمائية وللحصول على حقه يرى نفسه أمام مشكلة كبيرة، وهي أن الحكومة وضعت أساس نظامها الاقتصادي على الربا . ولاتخلو مشاريعها الإنمائية كذلك عن الربا (والحال أن المسلمين لايقدرون على تغيير هذا النظام ، لكونهم أقلية ، غير أن كل مسلم مكلف ببذل الجهود لتغيير هذا النظام الفاسد بقدر الاستطاعة بناءً على توجيه رسول الله ﷺ : من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده ، وإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه – الحديث متفق عليه) فهذا النظام الربوي يمنعه من الاستفادة . فالسؤال هنا هو أنه هل يجوز للمسلم دفع الربا عند الضرورة للحصول على حقه المشروع عند الاضطرار أم لا؟

       10- والجواب عندي بالإيجاب . فيصح القول بأن للمسلم رخصة لإعطاء الربا عند الضرورة لتحصيل حقه المشروع . ونجد نظيره في الشرع ، لأن الأصل العام للشرع هو أن «ما حرم أخذه حرم إعطائه» . ذكر العلماء تحت هذا الأصل أن الرشاء والارتشاء كلاهما محرم ؛ ولكن إذا لم يمكن الحصول على الحق المشروع ، فيُبَاحُ حينئذ دفع الرشوة . ذكر العلامة نجيم الحنفي في كتابه الشهير «الأشباه والنظائر» الرشوة تحت القاعدة الرابعة عشرة وهي : «ما حرم أخذه حرم إعطاؤه» واستثنى منها الرشوة لخوف على ماله ونفسه ، فقال:

       إلاّ في مسائل الرشوة لخوف على ماله أو نفسه (قوله الرشوة لخوف على ماله) هنا في جانب الدافع ، أما في جانب المدفوع له فحرام ولم ينبه عليه ، وينبغي أن يستثنى الأخذ بالربا للمحتاج فإنه لايحرم كما صرّح به المصنف في البحر ، ويحرم على الدافع الإعطاء بالربا (غمز عيون البصائر شرح الأشباه 1/449) .

       خلاصة المباحثِ السابقة أن :

       (الف) أخذ الربا حرام على كل حال .

       (ب) وكذلك دفع الربا حرام إلاّ أن يكون شخص في حاجة لو لم يستقرض بالربح لوقع في مشقة شديدة فيرخص له بذلك .

       (ج) أو يكون شخص في حالة إن لم يدفع الربا لحرم من حقه المشروع ، فيباح له أن يدفع الربا لتحصيل حقه المشروع .

       ففي ضوء المباحث السابقة يكون جواب الأسئلة المذكورة في الاستفتاء كما يلي :

       1- يجوز .

       2- يجوز .

       3- لايجوز الإقراض بالربح في أيّ حال ، ويجوز الاستقراض بالربح لمحتاج بلغت حاجته حدًّا إن لم تُقْضَ لوقع في مشقة شديدة ، ولاسبيل له لدفع حاجته سوى الاستقراض بالربح فيُباح له الاستقراض بالربح من غير المسلمين بقدر حاجته ، وليعلم أن مستوى شدّة الاحتياج لايكون واحد للجميع ؛ بل يختلف باختلاف الطبائع وقوة الصبر والتحمل في الأفراد ، والرأي القطعي الحاسم في هذا الخصوص يكون للمبتلى به .

       4- لايجوز .

       5- يجوز .

       6- لو كان أحد في حاجة إلى إبداع النقود في البنوك بهذا الطريق (حساب إيداع) يجوز له ذلك . ولكن يجب عليه أن يتصدّق بالفوائد من غير نية الثواب – والله تعالى أعلم .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.


(*) رئيس هيئة القضاء للإمارة الشرعية سابقًا ، وأمين عام مجمع الفقه الإسلامي بالهند سابقًا .

(*) المدرس بالمعهد العالي للقضاء والإفتاء التابع لمنظمة الإمارة الشرعية لولايات بيهار وأريسه وجهاركهند .

Related Posts