إشراقة

الحلمُ يجب أن يكون أكبر من الواقع الذي ينشأ ناتجًا عنه؛ لأن الحالم بأمور كبيرة إنما يُتَاح له أن يُحَقِّق منها بعضَها على مستوى صغير؛ فإذا حلم بأمور صغيرة لا يتمكن إلاّ من تحقيق ما يكون أصغر منها؛ فالأهداف ينبغي أن تكون أكبر مما يتمكن المرأ من إنجازه.

       إنك إذا استهدفتَ أن تُسَخِّر «هملايا» وتُسَوِّيه بالأرض، وتصعد قمتَه، وتساويه في الارتفاع، فقد يُتَاح لك أن تصعد بعضَ ارتفاعه، وتعلو بعض قممه الفرعيّة دون قممه النهائية على ذروته الأخيرة. وإذا رُمْتَ أن تقتنص النجومَ وتقلعها من أمكنتها وتملأ بها رُدْنَك، وتقبض أشعةَ الشمس نهارًا لتنشرها في طريقك ليلاً، وأن تخزن الريحَ لتتمتع بها عند اشتداد حرارة الصيف، وتخزن هذه الحرارة لتستدفئ بها في البرد القارص في فصل الشتاء؛ فإنك لا يُتَاح لك – بعد كل عزيمة تعقدها، وكل جهد تبذله، وكل حيلة تُعْمِلها – إلاّ ما يشابه ظلالاً لهذه الأحلام الكبيرة المعسولة.

       تلك هي سنّة الكون والعادة المُتَّبَعَة لدى المجتمع البشري منذ نشوئه والحقيقة التي لا تشذّ عن مسارها مهما كانت الظروف. ويجوز لكل إنسان أن يُجَرِّبها على نفسه ويستوثق منها من خلال تجاربه هو؛ فقد حلمتُ أنا شخصيًّا أن أصنع كذا وكذا من العظائم وأحقق كذا وكذا من العزائم، وأبلغ أقصى الغايات، وأعتلي أرفع الدرجات، فلم أُحَوِّل ذلك واقعًا ملموسًا وحقيقة حيّة إلاّ قدرَ ما يماثل ظلالاً باهتة خفيفة لما حلمتُه وتمنيتُه وصحّت نيتي أن أُتَرْجِمه إلى الواقع.

       حلمتُ أن أكون العَلاَّمة فلان في إتقان علم الحديث، وبذلتُ المساعي، وجَرَّبْتُ الحيل، وسلكتُ الطريق المُؤَدِّي إلى هذه الغاية النبيلة، وشَمَّرْتُ عن ساق الجدّ، وأمسكتُ بزمام العزيمة بيميني، و وصلتُ الليل بالنهار، وجعلتُ ذلك شغلي الشاغل، وقَرَّرْتُ أن لا أدع جنبي يقرّ مالم أحقق غرضي الأسمى هذا، ووضعتُه نصب عيني أحبَّ حبيب – تمييز عن ضمير الواحد الغائب المذكر – ولكني لم أفز منه إلاّ بقدر إنما يشكل نسبة الواحد من الألف أو نسبة أقلّ من ذلك.

       وحلمتُ أن أكون مثلَ الكاتب فلان في اقتداره على فنون الكتابة وأساليبها، وإمساكه بناصية البلاغة والفصاحة، وتمكنه من السلاسة و العذوبة، وجريان قلمه مع الطبع، وإكثاره البالغ من طرق موضوعات طريفة تمسّ جذور مشاكل المجتمع الإنساني، وإبداعه مناهج الكتابة بحيث إذا بدأ قارئ يقرأ أيًّا من كتاباته يعود مشدودًا معها لايكون بوسعه أن يتركها دون أن يأتي على آخر سطر منها. وشددتُ لذلك المئزر، ومضيتُ في الطريق أحذوه، وأحاكي أسلوبه؛ ولكني رغم ذلك تخلفت عنه بمسافات شاسعة بعيدة. وكلّ ما جنيتُ من وراء اجتهادي البالغ أني عدت أخطّ مثل هذه السطور التي هي بين يدي القراء الكرام.

       وحلمتُ أن أكون مثل الصالح التقي فلان، ولازمتُه سنوات، ولَذِذْتُ تحركاتِه في الحياة؛ لأنها كانت صادرة عن الإخلاص وتجريد النية لله والاحتساب؛ ولكني لم أقدر بشكل أن أكون مثل نسخة منه فضلاً عن أن أكون  نسخة منه طبق الأصل، وقد كانت هي أمنيتي وغرضي الذي هدفتُ إليه. وكلُّ ما اكتسبته من ملازمته لسنوات طويلة أني صرتُ أحب الصالحين، وعدتُ أحبّه حبًّا جعلني كثيرًا ما تفيض عيناي ويرق قلبي عندما أذكره وتدور في مخيلتي صورته المشرقة المحبوبة البريئة البسيطة التي كانت تنطق صارخًا أنه حقًّا عبد لله صالح أَحَبَّ اللهَ فأَحَبَّه اللهُ، وصرتُ أسكر برؤية كل عبد صالح يماثله بنحو، وأصبحتُ أنشد في لذة أيّ لذة:

أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ

لَعَـلَّ  ا للهَ  يَــرْ زُ  قُنِـي صَلاَ حـًا

       وهكذا اتخذتُ كثيرًا من نخب المجتمع الإنساني نماذج أحاكيها في مجالات الحياة المختلفة، فلم أقدر أن أشقّ غبارهم وألحق آثارهم، وإنما نفعتني محاولتي هذه أن نجحتُ في الظفر ببعض الصفات والمزايا والخبرات التي كانوا أمثلة تُحْتَذَىٰ فيها، فيصحّ أن أقول لولا محاولتي لمحاكاتهم لما كنتُ ما كنتُ، وإنما بقيتُ شيئًا لا يُذْكَر؛ ولكن لا يصح أن يقال: إني نجحتُ أن أقاربهم ولو قليلاً في جهة اختصاصاتهم التي كانوا فيها أمثلةً مشارًا إليها بالبنان.

       فصحّ ما قلتُ أن الهدف لابد أن يكون أسمى وأرفع مما يتمكن المرأ من إنجازه. ولو اتّخذ أحدٌ هدفًا صغيرًا، لأتت نتيجة محاولته لتحقيقه أصغر منه؛ لأن الواقع المتحقق في الأغلب إنما يأتي أصغر من الحلم الذي يحلم به الإنسان، ونادرًا ما يحدث أن يُنْجِز هدفه كاملاً في إطاره وحجمه الذي حلم به فيه.

       ولكن ذلك لا يعني أن ييأس المرأ، ويخيم عن تحقيق إرادته الكبيرة؛ لأن تصميمه على العمل والجد، وركضه المستمر على طريق التحرك وسعيه الحثيث هو الذي يجعله يحقق هدفه على مستوى أصغر مما رمى إليه واستهدفه؛ فإن أحجم عن الجدّ المضني وبذل الهمة القصوى لما استطاع أن يحقق هدفه ولو على مستوى أصغر.

       الأهداف المحلوم بها دائمًا تكون – ويجب أن تكون – أكبر ما تكون ويسعى الرامي إليها سعيًا صادقًا وافيًا لتحقيقها، ويترك النتيجة للأقدار، بعدما يكون قد صنع ما بوسعه. وهنا يتاح له أن يحقق منها قدر ما يشاء الله. وقد صدق الشاعر الحماسي:

يُرِيدُ الْـمَرْأُ أَنْ يُعْطَىٰ مُنَاهُ

وَ يَــأْ بَى اللهُ  إِلَّا  مَـا  يَشَـاءُ

       وقد حكى لي أحد تلاميذ المحدث العبقري العلامة محمد أنور شاه الكشميري – رحمه الله (1292-1352هـ = 1875-1933م) أنه خلال تعلمه بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند كان يهوى أن يكون مثل الكشميري في علمه الغزير وإتقانه لعلوم الحديث؛ ولكنه لم يدرك شأوه، وإنما نفعته محاولته لإدراكه، أنه كسب من المُؤَهِّل العلمي ما جعله يتقن بعض علوم الحديث، ويؤلف فيها ما نفع الأمة؛ حيث كان يملك قلمًا سيّالاً باللغة الأردية التي كتبها دائمًا سهلاً ممتنعًا وأنتج بها كثيرًا من الكتب في موضوع الدعوة الإسلامية وتبسيط الدين لعامة المسلمين الذين انتفعوا بمؤلفاته ما لم ينتفعوا بمؤلفات غيره من معاصريه.

       فكان يقول: لو أنه اتخذ هدفًا دون الكشميري لما كان ما كان من المستوى العلمي الذي أهّله لخدمة الدين والدعوة ودحض البدع والخرافات، الأمري جعله يستحق أدعية عدد لا يُحْصَىٰ من المسلمين الذين تخرجوا في المعلومات الدينية والموادّ الإسلامية في مدرسة كتاباته الإسلامية البسيطة الحلوة.

       على كل فأصحاب الأهداف الكبيرة هم الذين يتخرجون في إطار المستوى الذي يجعلهم يؤدون ما يجدر بالذكر والتسجيل. أما أصحاب الأهداف الصغيرة فهم لا يَتَأَتَّوْن على المستوى الذي يجعل صاحبَه يستحق الذكر والخلود.

(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الأربعاء: 16/رجب 1436هـ = 6/مايو 2015م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1436 هـ = يونيو – أغسطس 2015م ، العدد : 9-10 ، السنة : 39

Related Posts