الفكرالإسلامي

بقلم: عثمان جمعة ضميرية

          قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَالله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف:2-3]. وأخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لودِدنا أنَّ الله عز وجل دلَّناعلى أحبِّ الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه-صلى الله عليه وسلم- أن أحب الأعمال: إيمانٌ به، لا شك فيه، وجهادُ أهل معصيته، الذين خالفوا الإيمان، ولم يُقِرّوا به. فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فأنزل الله – سبحانه وتعالى- قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ…﴾(1). وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في علم الأصول، فإن الآية الكريمة، تبقى أبعد مدى من الحادثة الفردية التي نزلت لمواجهتها، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها، فهي تحيط بكل حالة من الحالات التي يقع فيها الانفصام بين الإيمان والحركة به أو بين القول والعمل، أوالعلم والعمل. والعلم لا يراد به أصلاً إلا العمل، وكل علم لا يفيد عملاً، ولا يتوقف عليه حفظ مقاصد الشريعة، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر شرعاً، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله على الإطلاق، هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلِّي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان؛ بل هو المقيد صاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً. وعندئذ يصير العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن يخالفه؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتياداً و إن تخلّف؛ فإنما يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة(2). وليس عالماً ذاك الذي لم يعمل بعلمه، ولا يستحق وصف التكريم هذا، فعن علي – رضي الله عنه -قال: (يا حملة العلم: اعملوا به؛ فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقاً، يباهي بعضهم بعضاً؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى الله – عز وجل-). وقال الحسن البصري – رحمه الله -: (العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله). وقال الثوري: (العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا …). وقال: (العلم يهتف بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل)(3). فالذين لا يعملون بعلمهم ولا يتسق سلوكهم مع علمهم، فضلاً عن أن يكونوا من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة أخبار وحفظة أسفار، والفقه فيما رووه أمرآخر وراء هذا. أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم. وهنا ينبغي أن يوجّه اللوم، والعتاب كلَّ العتاب، لمن يفعل ذلك، وحسبك أن الله تعالى سمّى ذلك الانفصام بين القول والعمل مقتاً؛ بل جعله أكبر المقت وأشدّ البغض، فقال: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾.

       وما سمَّى الله تعالى شيئاً بهذا الاسم، ولا أطلقه عليه إلا في أمرين:

       أولهما: الجدال في الله وآياته بغير سلطان وعلم، فقال سبحانه: ﴿الَذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطٰنٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وعِندَ الَذِينَ آمَنُوا﴾[غافر/35].

       وثانيهما: نكاح الرجل زوجة أبيه المتوفى عنها أو المطلقة، كما كان يفعله الجاهليون، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْسَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ومَقْتاً وسَاءَ سَبِيلاً﴾[النساء/22]. ومن هذا نعلم عظم الآفة الكبيرة والداء الخطير في الانفصام بين القول والعمل، أو بين الإيمان والسلوك. إن الإيمان ليس مجرد كلمات يديرها الإنسان على لسانه، ويتحلى بها أمام الناس ويتشدق بها في المناسبات دون أن يكون لها أثرها في سلوكه وواقعه، ودون أن تترجم إلى واقع حي يراه الناس، فيكون هذا الواقع العملي الظاهر والالتزام مؤشراً على الإيمان الصحيح وعمقه في نفس صاحبه.

       يقول صاحب «الظلال»- رحمه الله تعالى-: (إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى حركة في عالم الواقع. ومنهج الإسلام الواضع يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية لتبقى حية متصلّة بالينبوع الأصيل)(4). والمؤمن لا يخالف قوله فعله، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير والبر، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن يدعوهم، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم؛ بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلى واقعه وسلوكه، ليروا فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله، فيضيء الطريق للسالكين، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب، فيحمل الناس بذلك على التأسي والاتباع. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خير أسوة، فقد كان عليه – الصلاة والسلام – إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم. وعن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها -فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: «كان خلقه القرآن»(5)، فمهما أمره القرآن بشيء امتثله، ومهما نهاه عنه تركه.

       وهي إجابة دقيقة من عائشة – رضي الله عنها – وهي إجابة موجزة جامعة أيضاً، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات العظمة، فحسبك أن يكون عليه – الصلاة والسلام- ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن الكريم، فإذا أردت أن تعرف أخلاق الرسول – صلى الله عليه وسلم-، فانظر إلى القرآن الكريم واقرأ ما فيه من آيات تحث على الأخلاق، وإذا أردت أن ترى القرآن الكريم واقعاً عملياً في حياة الناس فانظر إلى خلق رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وادرس سيرته بكل وعي وعناية واهتمام وبقلب مفتوح على الخير، وبعزيمة صادقة، تحمل على التأسي والمتابعة. فكل واحد منهما يدل على الآخر (لقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل وكان مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به سواء في ذلك القرآن المنزل أو حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم-)(6). وإنها لمصيبة كبيرة، وخسارة ما بعدها خسارة، أن يتحول الإيمان والإسلام في سلوك أصحابه إلى كلمات ودعاوي، لا تتجاوز الحناجر، وأن ينطلق المسلم، يدعو غيره إلى البر والهدى والخير؛ ولكنه يترك نفسه بمعزل عن ذلك، ويعطيها إجازة تتمتع بها، ولا يحملها حملاً على أن تكون سبّاقة إلى هذه الدعوة والعمل بمقتضاها. ولقد نعى الله -سبحانه وتعالى- على بني إسرائيل، وبخاصة أولئك الأحبار فيهم، ووبَّخهم على سلوكهم، فهم يأمرون الناس بالبر، الذي هو جماع الخير؛ ولكنهم ينسون أنفسهم فلا يأتمرون بما يأمرون الناس به، مع علمهم بجزاء من قصَّر في أوامر الله – سبحانه وتعالى-(7)، فقال: ﴿وأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتٰبَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾[البقرة /44].

       وفي ظلال هذه الآية الكريمة يتحدث الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – عن آثار الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في السلوك، فيقول: ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداءً حالة واقعة من بني إسرائيل؛ فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين(8) بصفة خاصة، دائم لا يخص قوماً دون قوم، ولا يعني جيلاً دون جيل. إن آفة رجال الدين – حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة – أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه ويحرفون الكلام عن مواضعه، ويؤلفون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات، قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص؛ ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود.

       والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم؛ ولكن في الدعوات ذاتها، وهي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم أنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين عندما فقدوا ثقتهم في رجال الدين)(9).

       وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول: انظروا إلى فلان.. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به؟ فيتركون – عندئذ – الدين، بسبب سلوكه ذاك!! وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية، ولولاهم ما وقعوا في ذلك، فهم الذين سنَّوا هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم؛ فقدقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئةً يُعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(10). وقبل أن يدعو الداعية غيره إلى الخير ينبغي أن يتمسك هو به، ولن يستطيع المريض أن يعالج مريضاً مثله، وما أجمل الحكمة التي أجراها الله تعالى على لسان أبي الأسود الدؤلي عندما قال:

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فَانْهَهَا عن غيها

فإن انتهَت عنه فأنت حكيم

لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

       وإذا كان لعدم الموافقة بين القول والعمل تلك الآثار، فإنه ليس غريباً أن يشدد الإسلام في عقوبة الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، فيجعلونه وراءهم ظهرياً، وينهون عن المنكر ويفعلونه، وأولئك هم علماء السوء وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره، فلم يعملوا به، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن أوَّل الناس يُقضى عليه يوم القيامة… ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت؛ ولكنك تعلّمت العلم ليقال: إنك عالم وقرأت القرآن ليقال: هوقارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النَّار… »(11). وعن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه(12) فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»(13). ودوران هذا الحمار بأقتاب بطنه يوم القيامة، يعيد إلى الأذهان تلك الصورة المزرية البائسة لأولئك الذين حُمّلوا التوراة، وكُلِّفوا العمل بها؛ ولكنهم لم يحملوها، ونكصوا على أعقابهم، فكانوا من الخاسرين، وأولئك هم اليهود… كالحمار يحمل أثقالاً من الكتب، ليس له منها نصيب إلا أن يشعر بثقلها على ظهره، وينوء بحملها: ﴿مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰﯨﺔَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰتٰ الله واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّٰلِمِيْنَ﴾[الجمعة/5]. ولا يغيبَّن عن ذهنك صورة ذاك الذي آتاه الله آياته، فلم يعمل بما آتاه الله من العلم، فانسلخ منها كما تنسلخ الحَية من جلدها وتتركه على الأرض(14): ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي اٰتَيْنٰهُ اٰيٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغٰوِيْنَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنٰهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوٰﯨﻪُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذٰلِكَ مَثَلُ القَـوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِاٰيٰتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِاٰيٰتِنَا وأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف:175-176]. وليس هذا شأن يهود فحسب؛ بل إن إخوانهم من المنافقين يلتقون معهم في هذه السمة وينهلون من نفس المنهل: ﴿ويَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ* وإذَا دُعُوا إلَى الله ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [النور47- 48]. ﴿ويَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَذِي تَقُولُ﴾[النساء:81]. ﴿ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيوٰةِ الدُّنْيَا ويُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البقرة:204- 205].

       هذه صورة المنافقين، وتلك صورة يهود … فليحذر المؤمنون أن يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء؛ إذ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، من قال حسناً وعمل غير صالح، ردّ الله علىه قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً، رفعه العمل(15)، وذلك بأن الله تعالى يقول: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10]. وما أروع كلمة شعيب – عليه الصلاة والسلام- وما أكثرها إنصافاً عندما قال لقومه: ﴿ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ومَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾[هود: 88].

       وليت الدعاة، وليت الذين نصبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يضعون هذا المبدأ – الذي أرشد إليه شعيب عليه الصلاة والسلام – نصب أعينهم، فلا يخالفون إلى ماينهون عنه؛ ليكون لكلامهم ذلك التأثير في نفوس المدعوين!. وكم نجد أناساً يدعون إلى وحدة الكلمة وجمع صفوف المسلمين على الحق، وهم أنفسهم في واقعهم دعاة فرقة وضلال؛ يدعون إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- وهم أبعد الناس عن الكتاب والسنة، يقدمون آراءهم وآراء من يقلدونهم ويتبعونهم على الكتاب والسنة، صراحة أو تأويلاً يدعون إلى الحفاظ على الأخوة الإيمانية وحقوق الأخوة؛ ولكنهم يزورّون عن إخوانهم ولا يفون بحقوقهم لمجرد خلاف في الرأي أو الفهم… يتحدثون عن وجوب التثبت في نقل الأخبار؛ ولكنهم يجرون وراء الشائعات ويرمون غيرهم بفظائع التهم، ولا يكلّفون أنفسهم الرجوع إلى مصدر صادق ليتثبتوا فيما ينقلونه، لئلا يظلموا إخوة لهم أو يرموهم بتهم باطلة! يتحدثون عن تحريم الغيبة وآثارها وضررها؛ ولكنهم لايتفكهون إلا بأعراض الآخرين ولا يتندرون إلا بما يتخيلونه من سيء الخلال؛ ويتحدثون عن مفاصلة المشركين والعلمانيين والمرتدين والملحدين ولا يجدون بأساً أو غضاضة في مجالستهم ومداهنتهم؛ بل قد يرتمون في أحضانهم ويؤمِّلون عندهم ويرجون ما لا يؤمِّلون عند الله ويرجون… إلى غير ذلك من المفارقات العجيبة الغريبة، فليحذر المسلمون ذلك كله وأشباهه، فإنها أمراض جد خطيرة، ولها آثارها السيئة، في حياة الدعوة والدعاة، نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب في القول والعمل، (ونسأل الله المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها المديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من الشكر بها؛ الجاعل لنا في خيرأمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه وقولاً وعملاً يؤدّي به عنا حقَّه و يوجب بنا نافلة مزيدة). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

*  *  *

الهوامش:

(1)     انظرالموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي: 1/61 وما بعدها، بتحقيق دراز.

(2)     الموافقات 1/75 – 76، وانظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغداي 46 – 63، فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي، مطبعة الحلبي.

(3)     في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب: 2525.

(4)     أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (746) والترمذي في البر، والنسائي في قيام الليل، وابن ماجه في الأحكام، والدارمي: 2/345، وأحمد في المسند: 6/54، وانظرشمائل الرسول لابن كثير: 57 – 59.

(5)     منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب:1/183، دارالشروق.

(6)     – انظر: تفسير ابن كثير: 1/86 0 87.

(7)     استعمل هنا كلمة رجال الدين؛ لأنه يتحدث عن هذا الصنف الذي اتخذ الدين حرفة وصناعة، وإلا فهو رحمه الله يمقت هذا التعبير، إذ ليس في الإسلام طبقة كهنوت أو رجال دين كما عرفتها أوربامثلاً.

(8)     في ظلال القرآن:1/86، دار الشروق.

(9)     قطعة من حديث جرير بن عبد الله البجلي، أخرجه مسلم في الزكاة برقم (1017) ، والنسائي:5/75 – 77، وابن ماجه برقم (203)، وأحمد في المسند: 4/357، والدارمي: 1/130 – 131، وفي المعنى أحاديث أخرى.

(10)   قطعة من حديث أخرجه مسلم في الإمارة برقم (1905) .

(11)   أي تنصبّ أمعاؤه وتخرج من جوفه بسرعة خارجة من دبره.

(12)   أخرجه البخاري في بدء الخلق:6/331 فتح الباري، ومسلم في الزهد: 4/2990 – 2991 برقم (2989) واللفظ له، والإمام أحمد في المسند 5/ 205 – 206، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل:52 برقم (74) ، تحقيق الألباني، والبغوي في شرح السنة 14/352، وفي تفسيره أيضاً.

(13)   انظر:تفسير الطبري:9/119 – 124، تفسير ابن كثير:2/ 265 – 268، تفسير المنار للشيخ رشيد رضا: 9/375 – 384.

(14)   كلمة للحسن البصري – رحمه الله -،انظر:اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي:42 – 43.

(15)   اقتباس من افتتاحية الإمام الشافعي- رحمه الله – في الأصول (الرسالة) ،تحقيق أحمد شاكر.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1436 هـ = يناير-فبراير 2015م ، العدد : 4 ، السنة : 39

Related Posts