إشراقة
مُعْظَمُ الناس يختارون في حياتهم ترديدَ الـمُبَرِّرَات التي تمنعهم من تحقيق ما يقدرون على تحقيقه. وترديدُها هو حيلة الكَسْلَان؛ لأن الإنسان لديه دائمًا واحد من خِيَارَين: إمّا أن يختار أن يُحَقِّق ما يقدر على تحقيقه، أو أن يختار ترديد الـمُبَرِّرَات.
والذين يستندون إلى الـمُبَرِّرَات، عليهم أن يعلموا بالتأكيد أنّ كل شيء تقريبًا في الحياة ممكنٌ تحقيقُه إذا كان لديهم من العزيمة ما تتضاءل أمامه الجبالُ، وكان لديهم – إلى ذلك – ما يكفي من الوقت والأعصاب لإنجازه. ولا يحتاجون في هذا الصدد إلى شيء بمثل ما يحتاجون إلى أن يتذكّروا دائمًا أنّه لن تُوجَدُ ظروفٌ مثاليّة لإنجاز ما يريدون إنجازه، ولا يقولوا أبدًا: ليس لدينا ما يكفي من الوقت؛ لأنهم لديهم بالضبط نفسُ عدد الساعات في اليوم التي كانت لدى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولدى المحدثين الكبار: البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وغيرهم، ولدى الأئمة والنوابغ في كل علم وفنّ، الذين كانوا سماءً على هذه الأرض. وإنما يحتاجون إلى أن يجرؤوا على القفز، ويستحضروا دائمًا أن الكسل مهما كان جذّابًا، فإن التفاني في العمل هو الذي يعين على تحقيق السعادة على المدى الطويل.
ليتذكر الإنسان دائمًا أنه لن يمتلك ما يكفي من الوقت ولا ما يكفي من الإمكانيات والموارد ولا ما يكفي من المال لإنجاز أيّ شيء مثالي يتخيّله هو، وليدرك عاجلاً وفي وقت مُبَكِّر جدًّا أن الـمُعَوَّلَ عليه لإنجاز شيء ما كبير ذي قيمة جدير بالتسجيل في التاريخ ليس ما يفقده، وإنما هو ما يفعله بما لديه من الوقت والموارد والمال. إن أسعد الناس وأنجحهم في تحقيق الإنجازات لم يكن الأوفر حظًّا والأثرّ وسيلة، ولكن أسعدهم كان من لديه القدرة على الاستفادة من أي شيء يتيسّر لهم ويأتي في طريقهم. إن توظيف كل ما هو حاضر موجود خير ألف مرة من التطلّع إلى ما هو غائب مفقود. إن سبب استسلام الكثير من الناس و رجوعهم من طريق تحقيق شيء يُذْكَر أنهم ظلّوا يميلون إلى البحث عمّا هو مفقود. إنّ الاستياءَ بسببِ ما ليس لدى المرء مضيعةٌ في الواقع لما هو موجود لديه. الـمُدْهِش حقًّا والجدير بالذكر أصلاً هو أن يحقق الإنسان ما يحرص عليه بدون الـمُتَطَلَّبَات التقليديّة من الوقت الكافي والمورد الوافي. الـمُتَعَلِّل بعدم توفّر هذه الـمُتَطَلَّبَات ربّما لا يصنع شيئًا.
توظيفُ كل ما يمتلكه الإنسان واستغلال ما هو لديه حالاً لتحقيق ما يرغب في تحقيقه والقفزُ على جميع الموانع والعوائق هو سبيل السعيد الناجح الـمُوَفَّق المحظوظ حقًّا. أما انتظارُ الفرصة التي تتوفر فيها الموارد، وتتجمّع الإمكانيات، ويواتي الوقت المثالي الذي يكفي لإنجاز العمل الذي يتمنّى المرأ إنجازه، هو حيلة العيّ الكسلان الذي إنما يعتمد على الأحلام اللذيذة، التي بها يعيش.
وجدنا كثيرًا من الناس يمتلكون كثيرًا من الموارد والإمكانيّات؛ ولكنهم لم يصنعوا شيئًا لأنهم لم يعرفوا أو لم يُحْسِنوا توظيفَها لتحقيق ما يمكن تحقيقُه بها؛ حيث لم يكن لديهم خطّة لإنجازه، فلم يدركوا قيمتَها – الموارد والإمكانيّات – فلم يصنعوا شيئًا. بينما وجدنا بعض الناس صنعوا الكثير بالقليل من الوسائل ولأسباب؛ بل وجدوا طريقًا إلى إيجاد الوسائل من اللاّوسائل؛ لأن إرادتهم الفولاذيّة، وأهليتهم للاستفادةِ لما لديهم، وتوظيفهِم كلَّ ما تَيَسَّرَ لهم، جَعَلَتْهم أقدر على صنع أشياء من اللّاشيء؛ لأنّ الإرادة القويّة والتخطيط المتفرّع عليها أَهَّلاَهم أن يصنعوا MالمعجزةL ويُنْجِـزُوا ما يُدْهِش الألبابَ.
يوجد في المجتمع كثيرٌ من الذين يشكون قلّة الوسائل والإمكانيات، ونُبُوَّ الزمان، ومناوأة البيئة، وقلة الوقت، وعَدَم الأعوان؛ فيضيعون الفرصة المديدة في انتظار توفّر ذلك كله على المستوى الذي يحبّونه أو يتخيّلونه. وربّما يحدث أنهم يَحْظَوْن ببعض من الأشياء المذكورة ويظلّون يَعْدَمُون بعضَها، فلا يوافيهم الوقت المثالي والموارد الكافية لإنجاز شيء يحفر أسماءَهم في جبين التاريخ، وقبل ذلك ينفع الخلقَ ويريح ضمائرهم هم.
جَرَّبْنا بعض الناس لديهم المال الكافي، والأراضي الواسعة، والإمكانيات المادّية الوافرة؛ ولكنهم أهدروها فيما لايعني أعضاءَ المجتمع البشري؛ لأنهم إمّا أن لم يعرفوا أهميتها، أو لأنهم عرفوها؛ ولكنهم ظلّوا ينتظرون توفَّرها بنصاب مطلوب لديهم، وظلّوا يتعلّلون بالـمُبَرِّرَات والأعذار من شُحِّ الموارد، وعدم توفّر الـمُتَطَلَّبَات الـمُفْتَرَضَة، وتَهَيُّئ الوقت الكافي؛ فالوسائل رغم تكدّسها لا تنفع الذين عُجِنَتْ طينتُهم بالكسل والتسويف.
أن تُكَدِّس الأسبابَ لتصنع شيئًا ليس بشيء، بل الشيءُ الكبير أن تصنع شئيًا يُذْكَر بما هو لديك من الأسباب القليلة الضئيلة. وجدنا بعض الناس أنه تَوَفَّرَ لهم كلُّ شيء من لاشيء، عندما صَحَّتْ عزيمتُهم على تحقيق مشروع، فبورك لهم في كل من الوقت والوسائل والأعوان والأنصار وكل ما احتاجوا إليه لإنجاز المشروع. كانوا خُرْسًا، فتوفّر لهم ناطقون فصحاء بلغاء مصاقع؛ وكانوا عاجزين عن الكتابة، فتهيّأ لهم كُتَّاب بارعون دَبَّجَ يَرَاعُهم كلَّ ما احتاجوا إليه من الكتابات المتنوعة؛ وكانوا يَعْدَمُون كل وسيلة ومورد، فتَيَسَّرَ لهم من ذلك ما كان فوق حِسْبَانِهم؛ لأنهم كانوا ذوي أعصاب متينة، وإرادة لا تُقْهَر، ونشاط وانتعاش وحرص على العمل لا يتسرّب إليه الكسل والتسويف والفتور في أي من المواقف.
الروحُ التي تـدفع إلى العمل وترجمة الأمل إلى الواقع في جميع الظروف، هي الأساس الذي لا تستأصله أعاصير الحياة، وهُوجُ الزمن، ونوائب الدهر؛ هي القوة الخلاّقة، الكثيرة الإنتاج، المتصلة العطاء، الواهبة جزلاً رغم قساوة الظروف وشدة الطقس ومناوأة المناخ. فمن يتمتع بهذه الروح يقدر على تحقيق ما يريد تحقيقه دون أن يشكو أيًّا من الزمن والوضع وعدم الإمكانيّاتِ والظروفِ المثاليّة.
القويّ الأعصاب الذي لا يستسلم للعوائق والحواجز وشدّة الحرّ والقرّ اللذين يَنْتَابَانِ الحياةَ لا مَحَالَةَ، هو الذي يتعامل مع إملاءات الحياة بما يتمكّن به من إنجاز ما يودّ إنجازَه، مما ينفعه وينفع الخلقَ، فيُثَبِّت ذكره في صفحات الكون، ويجعل فم الزمان يتغنّى بالثناء عليه.
(تحريرًا في الساعة 9/ من الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت: 14-15/ذوالحجة 1435هـ = 10-11/أكتوبر2014م)
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1436 هـ = يناير 2015م ، العدد : 3 ، السنة : 39