دراسات إسلامية

بقلم: د. حسين عبد الغني سمرة (*)

الشبهة الرابعة

الزعم بأن الوحي المحمدي كان نتيجة

تأثره صلى الله عليه وسلم بالحنفاء(****)

مضمون الشبهة:

       يزعم بعض المشككين أن القرآن لم يكن وحيًا إلهيًّا، بل كان فقط نتيجة تأثره صلى الله عليه وسلم بالحنفاء الذين تأثروا هم الآخرون باليهودية والنصرانية، ورفضوا ما كانت عليه قريش من عبادة الأوثان؛ ويستدلون على ذلك بوجود ألفاظ في القرآن والسنة من شعر أمية بن أبي الصلت، ومعلوم أن أمية كان من شعراء الحُنفاء المتأثرين باليهودية والنصرانية. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في مصدر الوحي المحمدي.

وجوه إبطال الشبهة:

       1- لم يتأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفاء ولا غيرهم، ولو تأثر بهم لذكر المشركون ذلك في جملة اعتراضاتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أو لَذَكَرَه أمية بن أبي الصلت الذي كان يطمع في النبوة وينتظرها، وينقم على النبي صلى الله عليه وسلم اختصاصه بها، ثم ألم يكن من الأولى أن يدَّعي هؤلاء الحنفاء النبوة ما داموا هم الأساتذة وهو صلى الله عليه وسلم التلميذ؟!

       2- اختلاف القرآن والحديث عن الكتب السابقة – التوراة والإنجيل – التي يزعمون أن الحنفاء تأثروا بها – يدلُّ على عدم تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكتب، فهل يُعْقل أن يتأثر بها ثم يخالفها؟!.

       3- إن ثبوت أُميَّة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، ووضوح إعجاز القرآن – أسلوبًا ونظمًا – من جهة أخرى؛ ينفيان كون القرآن من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم، بل وينفيان حتى مجرد تدخله في صياغة أفكاره، وسبك آياته بأي شكل من الأشكال، أو أن يكون نقلاً عن أحد أو تعلمًا منه؛ إذ كيف بأُمِّيٍّ أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز وقد عجز عنه أرباب البلاغة والفصاحة أنفسهم؟!

التفصيل:

أولا: حقيقة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفاء:

       لم يتأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفاء ولا غيرهم، ولو تأثر بهم لذكر المشركون ذلك في جملة اعتراضاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أو لذكر ذلك أُميَّة بن أبي الصَّلْت الذي كان يطمع في النبوة وينتظرها، ويحقد على النبي صلى الله عليه وسلم اختصاصه بها.

       والحنفاء هم أفراد من العرب ظهروا قبل البعثة النبوية لم يقنعهم ما عليه أقوامهم من عبادة الأصنام، وغير ذلك من مظاهر هذا التحلل الروحي والفساد الاجتماعي. وبدلاً من أن يرى المستشرقون في ذلك دليلاً على أن الجو كان يستدعي ظهور نبي يصلح الأحوال المتردية في الجزيرة العربية وفي العالم أيضًا، إذ كانت الأوضاع في الإمبراطوريات العالمية في ذلك الوقت مليئة بالسوء مثلها في شبه الجزيرة، بل كانت أسوأ – نراهم كعهدهم فيما يتعلق بالإسلام ونبيه يتهمونه صلى الله عليه وسلم بالأخذ من هؤلاء الحنفاء(45).

       ثم لو حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم من أيهم لذكر ذلك واحد كأمية بن أبي الصلت – مثلاً – الذي كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يطمع في أن تكون النبوة من نصيبه، ثم إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد تعلم من الحنفاء، أفلم يكونوا هم أولى بادعاء النبوة ما داموا هم الأساتذة، وهوالتلميذ؟ ثم تعالوا لنرى ما حدث بعد أن أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي مرسل من ربه؛ فلقد صدَّق ورقة بن نوفل بدعوته صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – وأعلن أنه لو امتد به العمر، فسوف يقف معه ضد قومه، عندما أخبره أنهم سيعادونه ويخرجونه من بلده، كما أسلم عبيد الله بن جحش بعد الالتباس الذي كان فيه، ثم ظل مسلمًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، حيث تنصَّر هناك، ومات قبل أن يعود المهاجرون إلى بلاد العرب، وكان حديد اللسان على سائر المهاجرين بعد تَنَصُّره، يَسلُقهم(46) بتهكمه(47) القارص مُحتميًا بأهل البلاد النصارى.

       فلو كان يعرف عن محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من هذا الذي يتهمه به المستشرقون، والمبشرون وغيرهم لفضحه وفضح زملاءه المهاجرين في بلاد النجاشي، بل لما آمن به منذ البداية، ومما له مغزاه أن زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت معه في بلاد الحبشة، لم ترتد مثله بل ظلت مستمسكة بدينها، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، ومما له مغزاه أيضًا أن كل إخوة هذا الرجل وأخواته، كانوا من المسلمين الصادقين الأبرار، ومنهم أم المؤمنين زينب بنت جحش، ومن الحنفاء أيضًا عثمان بن الحويرث، وكان قد قدم على قيصر فتنصَّر وحسنت منزلته لديه(48).

       وبهذا يتبين قلة الحنفاء، فلم يكونوا كلهم على الجادة، ولكن منهم من تنكَّبوا(49) الطريق، وعرفوا الحق وحادوا عنه، ومن هؤلاء: أمية بن أبي الصلت، الذي كان شاعرًا يعبر عن عقيدته الدينية بشعره، وهو الذي قال:

كلُّ دينٍ يــومَ القيامةِ عِندَ

الله إلَّا دين الحنيفةِ زُورُ(50)

       وكان قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المُسُوح(51) متعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم، وإسماعيل – عليهما السلام – والحنيفية، وحرَّم الخمر، وشك في الأوثان، وكان محقًّا، والتمس الدين وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيًّا يُبعث من العرب، فكان يرجو أن يكون هو، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هذا الذي كنت تَسْتَرِيث(52)، وتقول فيه، فحسده عدو الله وقال: «إنما كنت أرجو أن أكونه».

       وجاء في السيرة النبوية لابن كثير: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال في قوله الله جل جلاله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي اٰتَيْنٰهُ اٰيٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطٰنُ فَكَانَ مِنَ الْغٰوِينَ﴾ (الأعراف:175): هو أمية بن أبي الصلت.

       وأخبر أمية عن صفات النبي الذي سيُبعث من العرب، وهي أوصاف انطبقت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بهذه الأوصاف أبا سفيان، وعلى الرغم من ذلك أبى أُميَّة أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسدًا واستكبارًا، وسأله أبو سفيان عن سبب ذلك، فقال: ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدًا.

       ولم يقف عند حدٍّ عدم إيمانه، بل انضم إلى قافلة الكفار في تأييد الباطل، فقد حزن على قَتلى بدر من المشركين ورثاهم في قصيدة شعرية، فهذا الرجل قد عرف الحق وحاد عنه، وعرف أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، لكنه عزَّ عليه أن يكون هذا الرسول غيره فكفر ولم يفطن لما كان يجب أن يفطن إليه بأن الله أعلم حيث يجعل رسالته(53).

       كل هذا يبين أنه صدَّق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو تعلم النبي صلى الله عليه وسلم من أمية بن أبي الصلت، لذكر هذا الطامح الطامع في النبوة ذلك أو ذكر غيره من الحنفاء ذلك.

       وزاد «الدكتور إبراهيم عوض» على ذلك قائلاً: «ومما يذكر في الحنفاء أيضًا أمية بن أبي الصلت، الذي قدم إلى مكة واستمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلى آيات من القرآن قائلاً لقريش حين سألوه عن رأيه: «إنه على حق»، ولكنه أجل الدخول في الإسلام بحجة أنه يريد النظر في الأمر، إلى أن وقعت غزوة بدر وقتل بعض أقاربه من المشركين فيها؛ فاستشاط  غيظاً وانقلب يهجو الإسلام، ويبكي قتلى المشركين بعد أن كان قد نوى إعلان إسلامه، فهل هذا موقف يبعث على الثقة بصاحبه؟ أليس يكفي رثاؤه للوثنيين، ومعاداته لدين التوحيد حتى نلقى بكل ما يقال عن تعلم محمد صلى الله عليه وسلم من مثله تحت أحذيتنا؟ إنه هو نفسه وقد كان شاعرًا وخطيبًا، وواعظاً مشهورًا، لم يقل قط: إن محمدًا قد تعلَّم منه شيئًا، فكيف يجرؤ على عوله أحلاس آخر الزمان»(54).

       ومما يؤكد حقد أمية بن أبي الصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في «السيرة النبوية» للدكتور محمد محمد أبو شهبة قائلاً في ذلك: ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم حسده – أي: أمية – وقال: إن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. ولما قيل له أفلا تتبعه؟ قال: أستحيي من نساء ثقيف، إني كنت أقول لهن: إني أنا هو، ثم أصير تابعًا لغلام من بني عبد مناف!!

       ولما أنشدت أخته النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من شعره، قال: «آمن شعره، وكفر قلبه»(55).

       ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من شعر أمية – كما يدعي هؤلاء الزاعمون الطاعنون ونسجه أو شكَّله قرآنًا أو حديثًا فعلاً – لسارع مشركو مكة للوقوف في وجهه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: إنك سطوت على شعر شاعرنا، وزعمت أنك رسول يوحَى إليك، وهذا لم يثبت قط، فهو دليل على أنه كلام مكذوب وضعه واضع خبيث بعد عصر الرسالة، وعصر الخلفاء، والموازنة الحقَّة تثبت – من أقصر طريق – سمو النَّظم القرآني، وجلال الوحي المنزَّل على ذلك الكلام المتكلَّف الرَّكيك(56).

       يقول الدكتور محمد الدسوقي في كتابه «الفكر الاستشراقي»: «ويؤكد بطلان ذلك الرأي، وأنه لا وزن له علميًّا، ما ذهب إليه الدكتور «طه حسين» في معرض رده على تلك الشبهة، أي شبهة تأثير شعر أمية في كتاب الله، فقد قال: إن هذا المستشرق – الذي أثار الشبهة – وأمثاله يشكون في صحة السيرة نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرًا تاريخيًّا صحيحًا، وإنما حسب قولهم – طائفة من الأخبار، والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق، وهم يقفون هذا الموقف من السيرة النبوية، ويغلون فيه، ولكنه يقفون من أمية وشعره موقف المطمئن المتيقن، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق، ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة، فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون آخر؟! وبهذا يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات.

       إن التشكيك في أخبار السيرة النبوية أو إنكارها، وعدم الشك في شعر أمية يتلاءم مع منهج الاستشراق في الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونفي أن يكون القرآن نزل به الروح الأمين على قلب هذا النبي الأمي»(57).

*  *  *

الهوامش:

(****) قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1993م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/2000م. الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، د. سيد القمني، سينا للنشر، القاهرة، 1990م.

  • مصدر القرآن: دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحي المحمدي، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1417هـ/ 1997م، ص 129، 130.
  • يَسلُق: يؤذي.
  • التَّهكم: الاستهزاء.
  • اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مرجع سابق، ص 230، 231.
  • تنكب الطريق: مال عنه وضلَّ.
  • الزُّور: الباطل.
  • المُسُوح: جمع مِسْح، وهو ثوب الراهب.
  • تَسْتَرِيث: تستبطئ.
  • محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم البشر، حمزة النشرتي، عبد الحفيظ فرغلي، دار النشرتي، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص48: 52 بتصرف.
  • اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مرجع سابق، ص 231، 232.
  • السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص80.
  • افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص37.
  • الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، د. محمد الدسوقي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص 89 وما بعدها.

*  *  *


(*)             رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1435 هـ = أكتوبر 2014م ، العدد : 12 ، السنة : 38

Related Posts