الفكر الإسلامي

بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)

إنَّ لله  سننًا يسير عليها العالم، وتخضع لها حياة  الأفراد والأمم، وتُؤثرِّ في قيام الحكومات والقيادات وسقوطها. وهي سنن ثابتة مقرَّرة، وجارية نافذة، لاتتغيَّر ولا تتحوَّل. فكلَّما حدَث وضع أو نشأت ظاهرة تتطلَّب تلك السنن، نفذت وتحكَّمت، لا يحول دون نُفوذها حائل، ولا تنفع في ردِّها حيلة. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب62] .

       وهي كثيرة متنوَّعة، منها سنة الاستبدال التي قرَّرها الله عزَّوجل في مواضع عدة من القرآن الكريم، حيث قال: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد/38] وقال: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة/39].

       تتبلور هذه السنة جليَّة في سقوط الحكومات والقيادات وقيام الأخرى مقامها، وانحطاط الأمم والجماعات وحلول أخواتها محلها. فإذا رأينا حكومة أو قيادة أو أمة أو جماعة استبدلت بأخرى، فمعنى هذا أنَّ الظاهرة قدخضعت لهذه السنة وتمخضت عنها.

       فإذا عهد الله إلى أمة، أوجماعة برسالة، أو إلى حكومة أو قيادة بمسؤولية، فإن كانت تؤدي رسالتها، وتقوم بمسؤوليتها، أبقاها على منصبها، وأدام لها نعمتها التي خوَّلها، ووفَّر لها أسباب البقاء، وأفسح لها مجال العمل.

       وإن تهاونت في الاضطلاع بها، أو قصَّرت في أدائها، أو أعرضت عنها وتولّت، أوظلمت وطغت، استبدل بها أخرى صالحة للقيام بالمسؤولية، نشيطة في أدائها، تختلف كلَّ الاختلاف عن سابقتها.

       ولسنة الاستبدال أمثلة كثيرة في الأمم والحكومات والقيادات قبل الإسلام وبعده.

       فقصة موسى وهارون- عليهما الصلاة والسلام- مع فرعون  مثال لهذا الاستبدال، وقد ساقها الله تعالى في كثيرمن السور.

       فقد كان فرعون أسرف وعلا في الأرض، وطغى وتألَّه فقال: ﴿أنا ربُّكم الأعلى﴾. وظلم بني إسرائيل أشدَّ الظلم، وسامهم سوءَ العذاب، فكان يستعبدهم ويُسخِّرهم لأعماله، ويُذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم حفاظًا على ملكه وسلطته، وجاهه ومكانته؛ فبعث الله تعالى إليه موسى وهارون – عليهما الصلاة والسلام- بالبينات والمعجزات، فكذب بهما وبما جاءا به. فعاقبه الله تعالى على طغيانه واستكباره، وظلمه واضطهاده، و تولِّيه وتكذيبه عقابًا عظيمًا، حيث أخرجه من ملكه وسلطته، وأرضه وقُصوره، وجنَّاته وعيونه، وأغرقه في البحر وجعله آية لمن بعده. وخلَّص بني إسرائيل المستضعفين من ظلمه وجبروته وطغيانه وغطرسته.

       ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[القصص/5].

       أخرج الله تعالى فرعون وقومه مما كانوا فيه من مُلك عريض، وجنَّات وبساتين، وأنهار وعيون، ونِعَم ومتاع، وقصور ومبان خرجةً أخيرة لا عودة بعدها، وأورثها كلها – في قول- بني إسرائيل المظلومين المعذبين. قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء/59].

       وكذلك قال: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف/137].

*  *  *

       وكذلك نجد مثالًا لاستبدال القيادة الدينية في القرآن  الكريم، وهوأنَّه قد اختار الله عزَّوجلَّ بني إسرائيل  من بين الأمم المعاصرة لهم لحمل لواء التوحيد، وأنعم عليهم بنعم كثيرة، وجعل فيهم الكتاب والنبوَّة، وأعطاهم زمام القيادة الدينية للإنسانية. فتمسُّكُهم بعقيدة التوحيد والاحتفاظ بها سرُّ تفضيلهم على العالمين.

       إنهم كانوا ممثِّلين لعقيدة التوحيد وحاملين لواءها، بينما كانت الأمم على وجه الأرض ضالة مشركة، ولاشكَّ أنَّ الاحتفاظ بعقيدة التوحيد في المجتمع الضَّالِّ  والكافر صعب جدًّا. ولذلك نرى يعقوب عليه السلام يضطرب لدى موته عن المستقبل الدينيّ لأبنائه، فيريد أن يطمئنَّ علىه قبل موته، فيدعو أبناءه ويسألهم عمن يعبدونه بعده، فأجابوه أنّهم يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئا، فاطمأنَّ واستراح ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة/133].

       ظلَّ بنوإسرائيل على عقيدة التوحيد، واضطلعوا بها، ودعوُا الناس إليها، فهذا يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ينتهز الفرصة للدعوة إلى التوحيد في السجن، فيدعو السجناء ومن يلتقي به إلى التوحيد، ويُنوِّه باختيار الله بيته لهذا الشرف والكرامة.﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف/40].

       حافَظَ بنو إسرائيل على عقيدتهم وخصائصهم وشخصيتهم رغم الظروف العصيبة، ولم يذُوبوا في الأمم الأخرى، فقد لَقُوا من فرعون وجنوده أشدَّ العذاب وأسوأ التنكيل، فذُبِّحَ أبناؤُهم واستُحيي نساؤُهم، فأيُّ بلاء أشدُّ من تذبيح الأبناء واستحياء النساء؟ لاشك أنه كان ذلك بلاءً عظيمًا، غير أنهم لم يطيعوه في دينه، ولم يذُوبوا في جماهيره المشركة. ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾[البقرة/49].

       لكنَّهم مع مرور الزمان وسير الأيَّام تنكَّروا لمواريثهم، وتركوا رسالتهم، واغترُّوا باختيار الله إيَّاهم للكتاب والنبوة، فحسبوا أنَّهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وأنَّهم لا يدخلون النَّار مهما قارفوا المنكرات والمعاصي، وأنَّهم شعب الله المختار، وأنَّ فضلهم على العالمين لكونهم جنسًا خاصًّا.

       استشرى فيهم الفساد الخلقي والاجتماعي، وتطرَّق إليهم العِوَج والزيغ، حتى إلى المبادئ التي تمَّ اختيارُهم لأجلها للقيادة الدينية، فخلطُوا التوحيد بالشرك، وذهلوا عن الآخرة، وارتكبوا المعاصي والمنكرات، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقدوا خصائصهم التي امتازوا بها على الأمم المعاصرة.

       أمهلهم الله عزَّوجل ليرعوُوا عن المنكرات والمعاصي، ويتولَّوا وظيفتهم التي كُلِّفوا بها، فبعث الله فيهم كثيرًا من الأنبياء ليذكِّروهم ما نسوه من الوظيفة التي أُسنِدت إليهم، ويُرشدوهم إلى المنهج الصحيح، غير أنَّهم ظلَّوا في اغترارهم، و لم يطيعوهم وأصبحوا كالطفل المدلَّل لاينفع فيه تربية ولا يؤثر فيه عظة، بل قد بلغت بهم الجراءة أن كذَّبوا أنبياء الله وقتلوهم. ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾[المائدة/70].

       استمرَّت الحال على ذلك حتى بُعِثَ إليهم آخر نبيٍّ، وهو عيسى عليه السلام، فكذَّبوه ورموه وأمه بأشنع التُّهم وأقبح الإفك، وتصدَّوا لقتله؛ فرفعه الله إليه ونجَّاه من شرِّهم. ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة/87].

       فعيسى عليه السلام آخر نبي إسرائيلي خُتِم به تاريخهم الديني ، وعُزِلوا عن منصب القيادة الدينية، ونُقلت إلى بني إسماعيل:العرب، وتمَّ تحويلُ القبلة من البيت المقدس إلى المسجد الحرام.

       ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف/6].

       إنَّ منصب القيادة الدينية هذا لَشرف عظيم وتكريم بالغ، وقد امتنَّ الله تعالى به عليهم، حيث قال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران/164]. 

       وقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء/10].

       لقد اصطفى الله  العرب: الأمة الجديدة لحمل رسالته والاضطلاع بأمانته بفضل منه ورحمة، وطَرَدَ الأمة التي تنكَّبت عن حملها وفقدت صلاحيتها للقيام بها.

       قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [الفاطر/32] وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة/4].

       إن بني إسرائيل كانوا قد فقدوا أهلية الاستفادة من الرسالة السماوية، و تجرَّدوا عن الخصائص التي حُمِّلُوا لأجلها الأمانة الإلهية، فأصبحوا كالحمار يحمل الكتب لا يعرف ما عليه فضلا أن يفهم مافيه، ويعمل به.فمن لا يعرف ما عنده من الكتاب ليس أهلًا أن يكون تلميذًا فضلا أن يكون أستاذًا لغيره.

       قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة/5].

       لماذا اختار العرب للرسالة الجديدة، ولماذا نقل القيادة الدينية من أمة تولت زمامها قرونًا إلى أمة أمية بعيدة العهد بالنبوة؟

       أوضح الله أن الأمة الجديدة خيرُ الأمم على وجه الأرض خصائص فكرية ومعنوية، وأنَّها تُبلِّغ  الناس الرسالة الإلهية، وتُؤدِّي إليهم الأمانة السماوية، وتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وأما الأمة السابقة فمعظم أفرادها كانوا فاسقين، وأما بعضهم فكانوا مؤمنين، والعبرة بالكثرة في مصير الأمم لا ببعض الأفراد. فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران/110].

       وهنا يجدر بالملاحظة أنه جاء ذكر موسى عليه السلام في القرآن نحو مئة وعشرين مرة، وذكر بنوإسرائيل فيه مالم يذكر أمة من الأمم.

       فقدجاء ذكرهم في الأنعام والأعراف والإسراء وطه ويونس وهود وجميع الحواميم والطواسين وفي سور أخرى، فالسور التي جاء ذكرهم فيها كلها مكية، لماذا جاء ذكر بني إسرائيل في السور المكية بهذه الكثرة، وليس بمكة عدد يذكر من اليهود؟

       بعد التأمل الطويل يبدو أن سرَّ كثرة ذكر بني إسرائيل في السور المكية هو تربية العرب: الأمة الجديدة على عناصر اليقين والصبر والكفاح  التي تؤهِّلها لقيادة الإنسانية؛ لأنَّ الأمم تتقدم بهذه العناصر، ويُشرق بها تاريخُها، وتزدهر حضارتُها. فإذا تخلَّت أمة عن هذه العناصر انحطت وانهارت.

       وقصت هذه السور قصص بني إسرائيل، فأوضحت أنهم كيف كانوا شعبا ذليلًامستضعفًا في الأرض يُذبَّح أبناؤه ويُستحيى نساؤه، وكيف تحولوا بيقينهم وصبرهم وكفاحهم الطويل شعبًا مكينًا في الأرض سيدًا على وجهها.

       قال تعال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [ السجدة/24].

       فلما منَّ الله عزوجل عليهم بهذه المنة العظيمة، والنعمة الكبرى: القيادة الدينية للإنسانية، كان من المنتظر أن يشكروا الله عليها، ويقوموا بما حُمِّلُوا من المسؤولية خير قيام. غير أنهم سرعان ما تسربت إليهم جراثيم السطوة وداء الثروة، وبدَّلوا نعمة الله، فنحَّاهم الله عن منصب القيادة. ولم يتمَّ هذا التبديل في سرعة عاجلة، وإنما وقعت في مراحل حتى جرت فيهم سنَّة الله: سنة الاستبدال التي لاتُردُّ، ولا تتغيَّر.

       وقال الله تعالى لهم عندما وُلُّوا القيادة والاستخلاف في الأرض: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف/129].

       فلما نقل الله تعالى القيادة إلى الأمة الإسلامية قال لهم نفس القول الذي قاله لبني إسرائيل:

       ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس:13-14]

*  *  *

       دخل المسلمون جزيرة قبرص فاتحين منتصرين سنة سبع وعشرين من الهجرة، وخرج منها الرومان منهزمين صاغرين، فجاء المسلمون بعضهم إلى بعض فرِحين مهنئين على الانتصار العظيم، فإذا بالصحابي الجليل أبي الدرداء يبكي، فسألوه ما يُبكيك؟ قال: أبكي على أمة عصت الله … فاستبدلها الله.

*  *  *

       وأسوق مثالا لهذا الاستبدال شهدته بلادنا، وهوسقوط الحكومة المغولية عام 1857م. أنشأ الملك المغولي ظهير الدين بابرالتيموري (المتوفى937هـ-1530م) الحكومة المغولية في الهند عام933هـ الموافق1526م،  ودامت أكثرمن أربعة قرون، وجلس على عرشها عدد كبير من الأباطرة المغوليين  مثل: همايون، وأكبر، وجهانكير، وشاهجهان، وأورنك زيب عالمكير، وخلَّفوا في ربوعها آثارًا خالدة تحكي قصة قوتهم وسلطانهم، وتُذكِّرعهدهم الزاهر وماضيهم المجيد. وكان منهم الملك الصالح أورنك زيب عالمكير الذي بلغت الحكومة على عهده أوجها، والذي حكم البلاد خمسين سنة. ثم خَلَفَه أولاده وأحفاده ، ولم يكونوا أولي أهلية وكفاءة سياسية، فضعفت حكومتهم، وتقلصت رقعة بلادهم، وخرج الولاة عليهم واستقلوا بولاياتهم.

       رأى الإنجليز ضعف الحكومة، و اختلاف الولاة والأمراء، فطمعوا في الحكومة، وتدخلوا في الشؤون الإدارية، حتى استولوا على بعض الولايات لقاء راتب يُؤدُّونه للملك المغولي شاه عالم، واقتصرت حكومته على دهلي وضواحيها، فذهب عنه القول المعروف: (حكومة شاه عالم من دهلي إلى «بالم») مذهب المثل.

       انغمس الأمراء في الترف والنعيم، وانشغلوا باللهو والغناء، وعمَّ فيهم الفجور والخمور، وفشا الارتشاء باسم الهدايا، وتجاهلوا مصير الحكم والبلاد، حتى إن الملك بهادر شاه ظفر- آخر الملوك المغوليين- الذي كان مائلا إلى التدين والصلاح، و الذي كان خيرًا-إلى حد كبير- ممن تقدمه من آبائه وأجداده سوى أورنك زيب عالمكير- يُعقد له مجلس الغناء في القلعة الحمراء بعد العشاء كل يوم، ويستمرُّ إلى منتصف الليل، وتزوَّج وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.

       وأما أمراء الأسرة الملكية فحدِّث عنهم ولا حرج. كانوا يتمرغون في النعمة والترف، ويأتون أنواعًا من المنكرات والمعاصي، ويمارسون صنوفًا من الحيل والمؤامرات، ويقعون في الوقيعة والدسائس، ويسعون في الأرض فسادًا، حتى إذا ضاق بخت خان – قائد الجيش في دهلي- بهم ذرعًا أرسل إلى الملك «بهادرشاه» إذا قُبض على أمير يَنهب بالمدينة أجدعُ أنفَه.

       كل ذلك جرَّ على الحكومة المغولية مصائب لاتُحصى، وويلات لاتنتهي، وحقت كلمة الله وجرت سنَّته، فحدثت ثورة عارمة عام 1857م على الإنجليز الغاشمين الغاصبين. وفشلت لأسباب يطول ذكرها. وإثر فشل الثورة استتبَّ حكم الإنجليز على البلاد كلها، وأحكموا قبضتهم عليها، وتتبعوا الثُوَّار ولاحقوهم، فإما أعدموهم شنقًا، أوقتَّلوهم تقتيلاً، أو نَفَوهم خارج البلاد.

       أما الملك وأبناؤه فقد اكتشفوا لهم ضلعًا مع الثُوَّار فأعدموا ابنَيه وأحدَ أحفاده شنقًا، وألقوا القبض على الملك، ونفوه إلى «رنكون» في بورما حيث مات غريبا عن وطنه عام 1862م، ودفن بها.

       هكذا قضي على الحكومة المغولية التي دامت أكثرمن أربعة قرون، وطُويَ بساطها، وأصبحت الهند مستعمرة من مستعمرات بريطانيا.

*  *  *

       جملة القول أنَّ التولى والإعراض، والفسق والعصيان، والاستكبارو الطغيان يستدعي جريان سنَّة الله ونفوذها. فإن كانت أمة تتقي الله وتخشاه، وتمتثل أوامره ونواهيه، وتتحرَّى العدل، وتتجنَّب الظلم، فلا يسلُبها نعمه، ولايُنحِّيه من المنصب الذي خوَّله إياها.

       فإذا فقدت أمة صلاحها وأهليتها للمسؤولية التي أسندت إليها، أو قارفت الذنوب والمعاصي، واستشرى فيها الفساد، وأصبحت خطرًا على المجتمع الإنساني نحَّاها من المنصب وأبعدها من المجال، وأعطى أمة أخرى  مقاليد الحكم وأزمة القيادة.

*  *  *


(*)   أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)

      sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1435 هـ = سبتمبر 2014م ، العدد : 11 ، السنة : 38

Related Posts