دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ مصلح الدين القاسمي
إنّ الأزمات والمصاعب التي تمرّ بها الأمّة المسلمة في الأيّام المعاصرة تتراءى لكلّ ذي عينين ، ويرجع ذلك كلّه إلى أمر واحد : وهو أنّ الأمّة المحمدية التي أمرها الكتاب والسنّة بتوحيد الصّفوف والاعتصام بحبل الله ، انحرفت عن سبيلها ؛ فتشتّت شملها ، وتفرّق جمعها ، وتبدّدت طاقاتها ، وخمدت فيها العواطف الدينيّة والمشاعر الإسلاميّة والأحاسيس الفكرية ، وحلّ محلّها الخلاف والشّقاق والعداوة والبغضاء . وهذا أمرٌ يؤدّي الإنسان المؤمن إلى البعد عن شريعة الله عزّ وجلّ في كل شأن من شؤون الحياة.
وليست هناك أيّة طبقة من الأمّة المسلمة تكنّ في طيّها عواطف المؤاخاة والمساواة وأحاسيس المحبّة والألفة حقيقةً ، سواءٌ كانت الجمعيّات الإسلاميّة أو المعاهد الخيرية حتّى الأوساط العلميّة ، تعمّ جميعَها موجاتُ من الاستنكار ، وتشتعل فيها نيران العداوة والبغضاء . وممّا يثير العجب أنّ هناك طوائف تدّعي أنّها حاملةٌ لواءَ الاتّحاد والتّضامن وتجاوز الخلافات؛ ولكنّها في واقع العمل في طليعة الجماعات التي تزيد بسلوكها العام الصفَّ الإسلاميَّ تمزّقًا ، وتوسّع الفجوة بين القلوب والجفوة بين الأفكار ، مع أنّ الوقت ينادي صباح مساء أن يجتمع المسلمون كلّهم تحت لواء واحد ، ويزاولوا مجتمعين أعمالاً خيرية حسنة يعود نفعها إلى الأمّة بأسرها ، كما أنّ كلّ عضو من أعضاء الجسم يقوم بعمله وهو يتبع القلب الذي هو عضوٌ رئيسيٌ من تلك الأعضاء قال في شأنه ﷺ : (إنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه ، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ، ألا ! وهي القلب) (صحيح المسلم 2/28) .
ومادامت أوضاع الأمّة لاتعود إلى الاجتماع على رصيف واحد ، لايمكن أن تبلغ الأمة مبلغ الارتقاء وتنال منال التقدم ، كما لا يمكن أن تعود مكانتها وهيبتها المفقودة ، وإلى ذلك يرشدنا القرآن الكريم قائلاً : «وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَلاَ تَفَرَّقُوْا» (آل عمران/103) و «إِنَّما المُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ» (الحجرات/10) وهذه هي الرّسالة التي أدّاها رسول الله ﷺ إلى الأمّة ، فنصح للأمّة أن المؤمن لا يليق بشأنه أن يُلْحِق الضّرر بأحد ، بل يحاول جاهدًا كلّ وقت أن ينفع النّاس ويتعاونهم ويناصرهم ، فقال ﷺ: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه النّاس على دمائهم وأموالهم) (صحيح البخاري، ج1 ص6) وعن أبي شريح أنّ النبيّ ﷺ قال : «والله لايؤمن ، والله لايؤمن ، والله لايؤمن» قيل : «من يارسول الله؟» قال : «الذي لايؤمن جاره بوائقه» (صحيح البخاري 2/889) .
في ضوء هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ينبغي لنا أن نتفكّر في أوساطنا ومجتمعاتنا وأنديتنا ومجالسنا ، كيف يشتغل النّاس اليوم في ازدراء الغير وتحقيره وتنقيصه وإلحاق الضّرر به قولاً وعملاً ، إنّ القلم واللّسان يعجزان عن الوصف ، بينما حرّض النبيّ ﷺ المؤمنين على أن يحترز كلّ مؤمن من الإضرار بأخيه المؤمن ؛ بل يتصوره أخاه، ويحبّ له ما يحبّ لنفسه ، وإن لم تتوفّر هذه الدّرجة، لم يكتمل الإيمان ، كما رُوِي عن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال : «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (صحيح البخاري ج1 ، ص7) وفي حديث آخر عبّر رسول الله ﷺ عن المؤمنين بجسدٍ واحدٍ ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمّى» (صحيح البخاري ج2 ، ص889) .
نظرًا إلى ذلك يحسن بنا أن نولّد هذا الشعور في داخلنا وفي جميع نفوس المسلمين ، ونكثّف الجهود مجتمعين لجمع المسلمين على رصيف «لا إله إلاّ الله محمد رّسول الله» بمعانيها الأصلية ومفاهيمها المتوارثة ودلالاتها الحيّة ، الّتي تجعل كلّ مسلم مواسيًا مناصرًا داعيًا ، ومتشوِّشًا في أمور الدّين ، متشبِّعًا الجائع ومطعمًا الطّعام ، مفشيًا السّلام ، مفرِّجًا الغُمَّةَ، سبّاقًا إلى القيام بشؤون المسلمين ، ممتازًا بعمله وصنيعه . ويجب على كلّ فرد من أفراد المؤمنين أن يعرف ذلك معرفةً تامّةً ، ويسعى جاهدًا أن يتلقّى هذه الأمور ويتبنّاها في حياته .
وفي هذه المرحلة الحاسمة على كواهل العلماء بصفة خاصّة مسؤوليّةٌ هامّةٌ ، أن يركّزوا عنايات الشعوب إلى ذلك ، ويلقّنوا درسًا يميّز بين الحلال والحرام والحسنة والسيّئة ، ويقوموا بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ويزوّدوا النّاس بالأفكار الصّحيحة والعقائد الإسلامية الأصيلة ، ويصلحوهم مظهرًا ومخبرًا حتّى يعودوا من الشهوات إلى الطّاعات، والفساد إلى الصّلاح ، والبخل إلى الجود ، والكذب إلى الصدق ، والخيانة إلى الأمانة ، والقسوة إلى الرّحمة ، والخلاف إلى الوحدة ، والشّقاق إلى الوئام ، والرّياء إلى الإخلاص ، والباطل إلى الحق .
ففي هذه الأوضاع القاتمة كما يجب علىالعلماء القيام بأعباء مسؤوليّاتهم ، كذلك يجب على الأثرياء أيضًا أن يمارسوا واجباتهم بالإنفاق في سبيل الله ، وتزويد الأمّة بالعلوم ، وكفالة اليتامىٰ والبائسين ، ونشر الثّقافة الإسلاميّة ، وإنشاء المساجد ودور التعليم . وعندما يقوم كل فرد بمسؤوليته مع العدل والدّيانة محتسبًا ، فتثمر إن شاء الله مساعينا ، وتعود كرامتنا ومكانتنا المفقودة بين الأقوام والأمم .
ومما تجدر إليه الإشارة أنّ القوم الذي تنفجر فيه الصّراعات يتنزّل إلى الذّل والهوان شيئًا فشيئًا ، ثمّ تعُمّه أنواعٌ من السيّئات من النزاع والخداع ، والكذب والسّرقة ، وإخلاف الوعد وأكل السحت، والغيبة وغير ذلك ، وذلك كلّه يدعو إلى غضب الرّب وعذابه ، وأخيرًا يُصاب القومُ كلّه بالابتلاءات المتنوّعة والنكبات القاسية المريرة ، ولايبقى أحد هناك ينجو من ذلك العذاب الإلهي ، ولو كان إنسانًا صالحًا ورعًا تقيًا ، زاهدًا في الدُّنيا راغبًا عنها ، ولايُستجاب الدّعاءُ آنئذٍ ، كما رُوِي عن حذيفة أنّ النبيّ ﷺ قال : «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولَتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثمّ لتدعنّه ولايُستجاب لكم» (مشكاة المصابيح ص 436 باب الأمر بالمعروف) . وورد في حديث أنّ أصحاب النبي ﷺ سألوه مرةً : «أنهلك وفينا الصّالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث» (صحيح البخاري ج1 ، ص: 472) وعلى ذلك نبّه القرآن الكريم قائلاً : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيْبَنَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مِنْكُم خَاصّةً ج وَاعْلَمُوآ أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ» (سورة الأنفال/25) .
يذكّرنا هذا الحديث النبوي أن نتفكّر في مسؤوليتنا ومكانتنا بين الأقوام والأمم ، ومهمّتنا في الأرض ، ووظيفتنا في الكون ؛ فإنّنا قد ابتعثنا لنغيّر المنكرات بأيدينا أو بألستنا أو بقلوبنا بقدر ما في وسعنا من الطاقة والقوة ، ونوقظ الوسنان بل النّائم الغاطّ في نوم عميق ، ونحرّك الجسم الساكن الفاتر، ونخلق فيه قوّةً عجيبةً خارقةً للاندفاع إلى الحسنات والقيام بأمور يعود نفعها إلى الأمّة المسلمة جمعاء ، وبالنظر إلى هذه الخصائص الهامّة عبّر عنّا القرآنُ الكريمُ بـ«خير أمّة» قائلاً : «كُنْتُم خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُوْنَ باللهِط» (سورة آل عمران/110) . وفي آية ذكر الله عزّ وجلّ قصّة دمار بني إسرائيل وهلاكهم قائلاً : إنهم لم ينتهوا عن الفواحش والمنكرات ، فقال تعالى : «كَانُوْا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوه لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» (سورة المائدة/79) وإلى ذلكَ أشار النبيّ ﷺ في حديث ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : لمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، فلعنهم على لسان داؤد وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، قال : فجلس رسول الله ﷺ وكان متّكئًا ، فقال: لا والّذي نفسي بيده حتّى تأطروهم أطرًا وفي رواية أبي داؤد قال: كلاّ والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذُنَّ على يدي الظّالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا ، ولتقصرنّه على الحقّ قصرًا، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثمّ ليلعنّكم كما لعنهم (مشكاة المصابيح ص 438 ، باب الأمر بالمعروف) .
وينشأ هـٰـهنا سؤالٌ ، وهو أنّ مجتمعاتنا قد تشكّلت بصورة عجيبة مؤسفة للغاية ؛ فعلاقاتنا فيما بيننا قد انفصلت عُراها ، وتكثّفت في داخلنا مصالح ذاتية لحدّ أنّ عواطف توقير الكبار والشفقة على الصّغار قد خمدت ، وروح الصبر قد فُقدت ، ولم يكن أحدٌ أن يتحمّل قول الآخر ولو فيه خيرٌ له، ففي هذه الأوضاع القاتمة كيف يمكن العمل على الأمر بالمعروف والنهي عن النكر ؟
ويمكن أن يجاب أنّ أهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ازدادت في مثل هذه الأوضاع المتدهورة ، وإنّ هذا الوقت العصيب يقتضي توحيد الصفوف والمؤاخاة بين المؤمنين ، ولقد آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والإنصار بعد ما هاجر إلى المدينة المنوّرة ، ولم يهدف وراء ذلك إلاّ إلى أنّهم إذا يعاشرون فيما بينهم فيطّلع كلّ منهم على خير الآخر وشرّه ، فتتهيَّأ لهم الفرصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن أجل ذلك جعل كلٌّ من الصّحابة الآخر محاسبًا له في عمله ، ويحتاج اليوم أيضًا إلى أن يُعادَ عمل المؤاخاة لكي يعيش كل واحد أخًا للآخر ، وفيه سرّ سعادتنا وفلاحنا في الدّنيا والآخرة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.