نبذة عن حياة وأعمال معلّم اللّغة العربية العبقري الوحيد الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي رحمه الله 1348هـ/1930م = 1415هـ/1995م

دراسات إسلامية

بقلم:  أسامة  نور  (*)

تألق هذا النجم في سماء شبه القارة الهندية نحو سبعة عقود من الزمان، وظل نحو أربعة عقود من حياته عنوانًا بارزًا للثورة الواعية في منهاج التعليم والتربية، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتحديث والتقليد، في حقل التدريس والتوعية في أوساط المدارس والجامعات الأهلية في شبه القارة الهندية، وإرساء دعائم أسلوب أنجح لتعليم اللغة العربية ونشرها في هذه الديار، و وقف عليها حياته و وضع في خدمتها قلمه ولسانه ومواهبه.

       كان عالمًا لغويًّا، أديبًا كاتبًا، خطيبًا خطّاطاً، مدرسًا مفكرًا، مهندسًا إدرايًّا، حالفته العبقريةُ في هذه المجالات كلها. وكان الشيخ شخصية غير عادية بالمجموع، فاستقطب اهتمام الشباب الجامعي كله، كان كأنه كتاب حديث فريد في موضوعه وعرضه، وأنيق في طباعته، فأقبل عليه القراء، واقتناه عشاق العلم، ولم تكن نسخة طبق الأصل لكتاب قديم كمعظم معاصريه.

       إنه كان نسيج وحده في جميع الاهتمامات التي أخذ نفسه بها، وكان من الرجال الأفذاذ العباقرة الذين يفرضون امتيازهم وتفردهم على المجتمع، ويضطرونه أن يهتدي بهديهم ويسير خلفهم. وترك في الجيل الجديد الهندي الذي عاش بين الستينات والتسعينات من القرن الرابع عشر الهجري من الأثر الأعمق الأشمل، ولا سيما فيما يتعلق بالتثقيف العام، وتربية الإرادة عند الشباب، وغرس حب اللغة العربية في القلوب، وتهذيب الفكر والعقل، مالم يعرفه الناس لأحد من المعلمين المعاصرين.

       كان الشيخ يريد من خلال تعليمه وتربيته إيجاد الانضباط والتوازن لدى التلاميذ الذين هم جنود الإسلام في المستقبل. والانضباط والتوازن أهم الميزات التي يحتاج إليها الجنود، لكسب النجاح. وقد كان يكون درس الشيخ بحيث يظل الطالب مشدود الانتباه إليه من بداية الحصة إلى نهايتها، لكونه ممزوجًا بالجد والهزل، في اتزان مطلوب، وكونه شيّقًا عذب الأداء لبق العرض مرتب البيان، ولكونه مشتملاً على إشارات بارعة تتصل بالدين والدنيا، وبالحياة والناس، وبالأرض والجو، وبالحال والمآل، وبالأماني والأحلام، ولكونه درسًا في اليقين وفي التعليم وفي التربية وفي الأخلاق في وقت واحد.

       ولذلك قد كان يكون الطالب مريضًا؛ ولكنه كان يود أن لا يفوته درس الشيخ؛ لأنه يفوته خير كثير في يوم واحد، كان الطالب يخرج من فصله، وقريحته متفتحة، وقلبه مسرور، ونفسه منشرحة، وذاكرته قد التقطت دروساً في المادة التي هي حصتها، وفي آداب الحياة التي لا تقبل الحصر. وفي أيام معدودات كان يعود واسع الأفق منفتح العقل سديد التفكير، يستطيع أن يرتاد محافل العلم والمذاكرة فلا يشعر بضآلة المعلومات والتجارب..

       إنه كان مربيًا حقا، فكان لا يكتفى بتلقين المادة التي كان يدرسها، وإنما كان يجمع دائمًا بين الدرس فيها وبين التربية. كان يستطيع أن يحسن تدريس أي مادة من مواد التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو والصرف وما إلى ذلك من المواد التي تدرسها المدارس والجامعات الإسلامية عندنا في شبه القارة الهندية؛ ولكن الشيخ ما أتيح له – إلا بعض المرات – إلا تدريس مادة اللغة العربية، التي كان هو بدوره ميالاً إليها وكلفًا بها.

       أنفع المواهب التي أكرم الله بها الشيخ، هي موهبة نقل المؤهلات إلى الآخرين في سرعة وسهولة، فلم يتمتع بهذه الموهبة إلا القلائل من المحظوظين الذين قيضهم الله لعمل جليل، ولتغيير حال، وإحداث انقلاب، والقيام  بعمل غير عادي. فقد يكون الرجل عالمًا جليلاً، أو أديبًا كبيرًا، أو شاعرًا مطبوعًا، أو خطيبًا مصقعًا، أو كاتبًا نابغًا، أو إداريًّا حازمًا، أو سياسيًّا كيِّسًا؛ ولكنه لا يستطيع أن ينقل موهبته إلى الآخرين، ويشعل بفتيلته فتيلات أخرى، فنفعه لازم وليس بمتعد؛ ولكن الذي يحمل ملكة نقل المؤهلات إلى الجالسين إليه فهو كثير الخيرات عميم البركات. والمعلم لا يمكن أن يكون معلمًا حقًّا إلا إذا تمتع بهذه الموهبة. وكلُّ معلم مجردٍ منها فاشلٌ في أداء وظيفته، قاصر في القيام بمسؤوليته مهما ادّعى غير ذلك.

       وبفضل القدرة العجيبة على سرعة نقل الأفكار والعواطف إلى من يجالسه ويلازمه، استطاع أن يكهرب الشباب بقوة الإيمان واليقين والعزيمة والطموع، و روح الجد والجهاد، والصبر والمثابرة. والشبابُ بدوره أدرك مدى إفادية التربية الجامعة التي أخذه بها الشيخ، فوقع عليه وقوع الفراش على النور.. ولا تزال مناظر الحفلات تتمثل أمام من رأوه وعاصروه تلك التي كان يخطب فيها الشيخ، وما إن يبدأ خطابه حتى كان الطلاب جميعًا يعودون وكأنهم أشواق ولهفات. وربما كان الشيخ يبدأ خطابه في مسجد من مساجد الجامعة أو المدينة على غير ميعاد، فما إن كانوا يعلمون بذلك حتى كانوا يهرعون إليه يطيرون فرحًا وشوقًا، وبعضهم «يجر رداءه» في العجلة أو فاته أن يلبس حذاءه أو نعله في إحدى رجليه. كان يلهبهم بخطابه الحماسي الثوري الحركي الفكري الأدبي المركز، الذي كان يغير مجرى التفكير لديهم.

       وهذه القدرة هي التي جعلته ينقل حب اللغة العربية إلى الطلاب الذين تخرجوا عليه، فما إن تخرجوا من الجامعة، وأتيح لهم أن يكونوا مدرسين في مدرسة من مدارس الهند، حتى بدأوا يعلمونها لتلاميذهم هم، على طريقة الشيخ.. وبذلك انتشرت في الهند انتشارًا لم يتحقق من قبل. وذلك لأن جل المدارس والجامعات الأهلية في الهند تتبع الجامعة الإسلامية دارالعلوم – ديوبند، فهي منها تستقى وعلى آثارها تقتفي، فإذا ارتفع ههنا نداء يُسْمَعُ صداه في كل منها.

       وأنت تعرف أن انعكاسات حادث ما، أو تربية ما، أو صحوة أو نهضة أو ثورة أو حركة ما، لا تنحصر في جيل عاش الحادث أو التربية أوالصحوة أو النهضة وإنما تتعداه إلى الأجيال اللاحقة، ويستفيد منها القاصي أو الداني، ويتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل. وإذا كان كذلك فإن الجهود التي وضعها الشيخ في تربية الشباب في الجامعة، والنهضة الثقافية والفكرية التي شهدتها الجامعة بفضلها أثرت في الجيل المعاصر والأجيال اللاحقة تأثيرًا ملموسًا اعترف به العدو قبل الصديق.

       والشباب فيه انجذاب إلى رجل الإفادة – إذا كان فيه الطموح والإيثار والإخلاص – انجذاب القطع الحديديدة إلى المغناطيس، فتحلق حوله، خيرة الشباب وخلاصته المصطفاة من ذوي المواهب المتنوعة، و وُفِّق أن يضعها في مواضعها. كان يود أن يكون جميع تلاميذه نسخة منه في هذه الأخلاق وفي غيرها من الآداب التي تضبط سلوك الإنسان، وتضع الخط الفاصل الدقيق بينه وبين البهائم التي لا تتقيد بنظام ولا ضابطة؛ فكان يتطرق في دروسه ومحاضراته إلى هذه الأشياء بلفتات لطيفة، ويستلفت أنظار الشباب إليها ليأخذوا بها في حياتهم؛ فإنها ليست تافهة وإنما هي ذات قيمة، من يتعرى عنها ربما يضيع الماء عن وجهه رغم تضلعه من العلوم والفنون.

       وخدمته للغة العربية وفي سبيل نشرها لا تقتصر على التدريس وتخريج معلمين فيها يتغنّون بحبها، ومواطن الجمال فيها، ويدلون تلاميذهم على مواضع اللذة ومطارح الإثارة ومنتجعات الهوى في ثناياها، ومراتع الدقة والمرونة، ومواقع الاستيعاب والشمول في طياتها، وإنما تجاوزها إلى مؤلفات ذات قيمة خالدة ومنافع ثرة.

       فألف وأصدر كتابيه «القاموس الجديد» من اللغة العربية إلى الأردية و «القاموس الجديد» من اللغة الأردية إلى العربية وذلك خلال أعوام 1956-1958م، وهما قاموسان ضخمان يسعفان الطالب والمعلم والباحث بمعظم المصطلحات المستجدة في العالم العربي، وبما أنهما كانا حاجة الساعة، ولم يُؤلَّف مثلهما في شبه القارة الهندية من قبل، فأقبل عليهما الشباب والطلاب والمدرسون في هذه الديار. وعادا مرجعًا لهم لا يستغنون عنه لدى قراءة الصحف والمجلات والكتب والمؤلفات الصادرة حديثًا، ولدى كتابة المقالات، أو الترجمة من اللغة الأردية إلى اللغة العربية وبالعكس، حتى وُجِدَ الطلاب الهنود في جامعات العالم العربي يحتضنونهما. وقد نفدت لهما طبعات لا تحصى بالضبط، وهما من الكتب المعدودة على رؤوس الأصابع التي يُضْرَب بها المثل في القبول وإقبال القراء عليها..

       ويليها كتابه «القراءة الواضحة» بأجزائه الثلاثة ومع شرح لكل من الأجزاء، التي وضعها خلال 1966-1975م، خصيصًا لتعليم اللغة العربية للطلاب، وتمرينهم على الكتابة والنطق، وهو كتاب يضم دروسًا رُوْعِيَ فيها مستوى الطلاب الثقافي واللغوي، ولُوْحِظَ التدريج والحكمة، فالجزء الأول أسهل، ويليه الجزء الثاني، والثالث أصعب بالقياس إلى الأول؛ لأن مستواه رفيع. وقد تناولت هذا الكتاب المدارس والجامعاتُ الإسلامية والحكومية على السواء في شبه القارة الهندية بحفاوة بالغة، وقررت تدريسه في كليات وأقسام اللغة العربية عندها. كما أنه لا يزال جزءًا من المقررات الدراسية في دارالعلوم – ديوبند. وعام 1988م وضع قاموسا آخر باسم «القاموس الاصطلاحي» وهو ضخم كذلك كشقيقيه القاموسين، وتناول القاموسين كذلك بزيادات ذات بال. وأصدر «القاموس الاصطلاحي» لأول مرة من دار المؤلفين التي أسسها عام 1988م، بهدف تدريب الخريجين من الشباب على التأليف والكتابة والبحث، ورغم الأوضاع المعاكسة وقلة الإمكانيات أصدر منها نحو عشرين مؤلفًا قيمًا، ودرب عديدًا من الشباب ذي المؤهلات على الكتابة وأوجد فيهم حب البحث والاستطلاع.

       ويرجع تأريخ خدمته للغة العربية إلى 1948م و 1952م الفترة التي ظل فيها طالبًا في دار العلوم – ديوبند؛ حيث كان قد كسب من أهلية الكتابة ما أعانه على أن يواصل آنذاك كتابة دروس في اللغة العربية باسم «سلسلة الدروس العربية» وتعليقها على جدران الجامعة، ليخلق لدى الطلاب هواية لهذه اللغة الحبيبة. ولئن زار الجامعة ضيف عربيّ، كان يكتب له كلمات التحية والترحيب، كل ذلك وهو طالب من طلاب الجامعة. ولخدمة اللغة العربية التي شغفها حبًّا قد أقام عام 1958م في مدينة «ديوبند» مؤسسة باسم «دارالفكر» نظم فيها فصولاً لتدريس اللغة العربية بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية لتوسيع ثقافة الشباب، وقد أصدر منها مجلة أردية باسم «القاسم» ظلت تصدر أعوامًا ثم احتجبت لقلة الإمكانية.

       والشيخ بارع في التوصل إلى المقابل الصحيح بالأردية لكلمة عربية، ولذلك فهو أقدر على الترجمة من العربية إلى الأردية وبالعكس، ترجمة دقيقة أصيلة تفيض بالفصاحة والعذوبة والروعة والسلاسة في وقت واحد. وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على غاية تذوقه للأدبين وتعمقه في اللغتين. ومثله جدير بأن يضع القواميس، ويؤلف المعاجم، ويكتب في الأدب واللغة..

       وقبل وفاته بشهور أتم وضع اللمسة الأخيرة على القاموس الضخم الشامل الذي وضعه باسم «القاموس الوحيد»(من العربية إلى الأردية) يقع في نحو (1800) صفحة بالقطع المتوسط وقد صدر بعد وفاته وتلقفته القراء بالقبول. كما قام بجمع وترتيب المباحث العلمية من كتاب «معارف القرآن» للمفتي الكبير محمد شفيع رحمه الله (1314هـ/1896م – 1396هـ/1976م). وذلك باسم «جواهر المعارف» صدر الجزء الأول منه في أكتوبر 1994م والجزء الثاني جاهز للطبع. وأيضًا وضع في أواخر عمره مجموعة مختارة من أحاديث النبي ﷺ في الأخلاق والآداب وشرحه بالأردية وسيصدر إن شاء الله مطبوعًا.

       عقدت الجامعة في مارس عام 1980م احتفالها المئوي المنقطع النظير تحت إشراف رجلها الرشيد ورئيسها العظيم العالم الهندي الكبير المقرئ محمد طيب رحمه الله (المتوفى 1403هـ/2003م)، الذي اشترك فيه نحو خمسة ملايين من المسلمين.

       وشكلت لاتخاذ استعدادات وترتيبات لهذا الاحتفال الحاشد إحدى عشرة لجنة، ونظرًا لمواهب الشيخ المتعددة الجوانب واهتماماته المنوعة، عُيِّنَ رحمه الله، رئيسًا عن كل منها، رغم أشغاله التدريسية والكتابية والتربوية. وفُوِّضت إليه خصيصًا مسؤولية باهظة ما كان ليتحملها فيوفيها حقها من الأداء الكامل، لولا طموحه المدهش وهمته البعيدة التي يقتنص صاحبها النجوم. وهي مسؤولية تجديد ما خرب وتحسين ما تشوه، من مباني الجامعة المترامية المتشابكة، بالإضافة إلى ما تحتاج إليه حالاً من المباني الجدية التي لابد منها.

       وهنا تجلت عبقريته الهندسية المعمارية، التي كانت خافية لحد الآن على أخص زملائه وذويه وتلاميذه؛ حيث جاءت عمليته البنائية جامعة بين الحداثة والأصالة والروعة، مما أدهش كثيرًا من كبار المهندسين الذين يعيشون منذ سنوات طويلة في وضع تصاميم ويعرفون دقائق الهندسة المعمارية. وكل ذلك في ظرف ثمانية شهور لا يتم فيها في الجامعة في الأغلب رغم كل المحاولات إنهاء أعمال بناء واحد فضلاً عن هذه الأعمال التي كانت تجري في كل ناحية من نواحي دارالعلوم، ويعمل فيها مئات من العمال ليلَ نهارَ.

       كان يسهر الليالي الطويلة، و ربما كان يستيقظ في هدءات الأسحار يأخذ القلم والأوراق ويقصد المكان الذي يجري فيه العمل البنائي الهام، ويطوف حوله، ويمسح مرات ويجلس يضع التصميم الذي يوافق المكان والمباني المبنية من قبل، التي تقع بجانبه. في الصباح الباكر يتجمع لديه عشرينات البنائين فيصدر إليهم التوجيهات في الأعمال التي يريدها منهم اليوم، ويستدعي عشرينات من الموظفين يرسلهم لجهات مختلفة، هذا لتوريد الإسمنت، وهذا لشراء الألوان الدهنية التي تطلى بها الأبواب والمصاريع، وهذا لجلب القراميد، وهذا لإحضار الآجر وهذا لتوفير الرمل، ومواد البناء الأخرى. كان قد رآه الناس من ذي قبل أستاذًا عبقريًّا ومربيًّا موهوبًا، ولغويًّا وأديبًا نابغًا، وها هو ذا قد وجدوه مهندسًا عبقريًّا! إنه تعلم في الحياة ومن الحياة: «الإتقان» و«الإحسان» فلا يتعرض لشيء إلا وهو يتقنه. ومن قرر أنه سيتعلم فن «الإتقان» في الحياة، وكان رجلاً يفى بما يقول، فإنه سيقدر على هذا التعلم بإذن الله!.

       عام 1981م لما أقصي الطلاب عن الجامعة لأسباب يطول ذكرها أقام الشيخ مخيمًا لهم بمساعدة عدد من العلماء كان على رأسهم الشيخ أسعد المدني رحمه الله (1346هـ /1928م – 1427هـ/2006م) رئيس جمعية علماء الهند، ونظم لهم التعليم والإسكان والإطعام بشكل موقت وقد أبلى بهذه المناسبة الحرجة بلاء حسنا وجنّد لذلك من قواه الجسمانية والروحانية ما عصره عصرًا. حتى تحولت الجامعة بعد صراعات مع الإدارة القديمة برئاسة فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب المتوفى 1403هـ/1983م (المعروف في شبه القارة الهندية باسم حكيم الإسلام) رئيس الجامعة السابق، إلى إدارة جديدة كان رئيس الجامعة فيها فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن (المتوفى 1432هـ/2010م). وذلك في ديسمبر عام 1982م، فعين المجلس الاستشاري الشيخ وحيد الزمان عام 1983م مديرًا لمجلسها التعليمي، كما عينه عام 1985م رئيسًا مساعدًا لها.

       وسعى خلال توليه منصب مدير المجلس التعليمي أن تتوسع الجامعة وتتطور من ذي قبل وأن تعم بركات الانقلاب جنباتها عمومًا تلمسه أيدي الزوار وأن تُدْخَلَ على المنهج الدراسي إصلاحاتٌ مطلوبةٌ. كما اتخذ خلال تقلده منصب الرئيس المساعد إصلاحات إدارية كثيرة الجدوي عميقة الأثر، منها اتخاذ تدابير لسير العمل في المكاتب بسرعة أدهشت الجميع؛ فقد كان من قبل متخاذل الخطو، و وطّن الموظفين على التقيد بمواعيد الحضور، وأنشأ عددًا من المباني، وأصدر جريدة أردية نصف شهرية باسم «مرآة دارالعلوم».

       إنه كان فريدا في كونه ثاقب النظر، صحيح الخبرة بالرجال وبالحياة وبالناس، إنه كان يجب الصدق في كل صوره وألوانه، ويبغض النفاق وأشكاله ومشتقاته حيثما وجد، يشيد بالصراحة في مكانها، ويندد بالغموض والالتوائية والإبهام في كل مكان.

       كان يراعى آداب المجلس بشكل دقيق، وكان سريع الانتقال إلى أبعاد القضايا المطروحة للنقاش في المجالس الثقافية والإدارية، وكان كثير المزج بين الشدة واللين فيما يتعلق بقضايا الطلاب، وكثير التأدب مع الكبير والترحم على الصغير، يحب الانضباط في جميع نواحي الحياة، ويكره الفوضى في كل شيء، قوي العارضة، قوي الحجة، مفوهاً سريع المشية، سريع العمل والتحرك، كثير الإنتاج في قليل من الأوقات، كبير التأثير في الجالسين إليه والمحتكين به، صانع الرجال، وصانع التأريخ، وكاتب حظه – بتوفيق الله – بمداده وقلمه، واثقًا بنفسه، معتمدًا على ساعده لحد عجيب، كان وضاعًا للبرامج الجديدة، ومحّاءً للبرامج القديمة، لا يصبر طويلاً على أسلوب رتيب في نواحي الحياة، ما إن يشارك مجلسًا إلا وكان يحصد الإعجاب من الحضور، يعلوه  الوقار والسكينة لدى النقاش في المجالس، والحديث في الحفل، وإلقاء المحاضرات في الفصول، يصبر على كيفية واحدة في الجلوس والقيام لوقت أطول، ولا يغير الوضعية بعد كل دقائق كعامة الناس، كان كثير التنبيه لطلابه على أي خطأ في نواحي الحياة. ونظرًا لجهوده وجهاده المثالي – الذي عرضنا صورة خاطفة له في السطور الماضية – في سبيل تثقيف الجيل المعاصر من الشباب وتربيته وإخلاصه وتفانيه في كل ذلك، ولكونه صاحب أسلوب فريد في التعليم والتربية حلَّ من القلوب محلاًّ قد لم يحلّه في العصر الأخير معلم في مدرسة أو أستاذ في جامعة من المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية.

       في الليلة المتخللة فيما بين 14-15/ذوالقعدة 1415هـ الموافق 15-16/أبريل 1995م: السبت – الأحد، استأثرت رحمةُ الله تعالى بمدينة «دهلي» بالشيخ وحيد الزمان الكيرانوي معلم العربية العبقري بعد ما عاش معظم مدة الشهور الأربعة الأخيرة من حياته في أكثر من مستشفى بالمدينة يتلقى العلاج من ضربات داء السكري الشديد التي أدت إلى وفاته.

       كان رحمه الله يعاني داء السكري منذ سنوات طويلة؛ إلا أن وطأته اشتدت عليه منذ السنين الأخيرة من حياته ولا سيما منذ العامين الماضيين مما أنهك قواه وصيّره مجموعة عظام وأدى إلى فساد كبده وكليته فاختل الجهاز الهضمي وتورم الجسم وفقد رحمه الله شهية الطعام والشراب، فنقله أقاربه من الأشقاء والأبناء منذ الشهور الأخيرة من حياته بين أكثر من مستشفى في مدينة «دهلي» وتوفروا على مداواته وتعهده، وفيما قبل نحو شهر من وفاته ألمته وعكة صحية شديدة فوُضِعَ تحت العناية الطبية المركزة في غرفة مزودة بالتكييف والتسهيلات في أحد المستشفيات الذي ظل يتلقى فيه العلاج في الأغلب؛ ولكن جميع التدابير ذهبت سدى عندما حانت منيته.

       وقد كان الشيخ وحيد الزمان بن مسيح الزمان بن الشيخ محمد إسماعيل بن الشيخ حسين أحمد رحمه الله لدى وفاته في 65 من عمره؛ لأنه كان من مواليد 1930م. كان مسقط رأسه بلدة «كيرانه» إحدى البلدات الجامعة التابعة لمديرية «شاملي» اليوم ومديرية «مظفرنجر» سابقًا. وتلقّى التعليم الابتدائي في جامعها، ثم سافر عام 1946م إلى «حيدر آباد» وتلقى فيها العربية على الشيخ مأمون الدمشقي، والتحق عام 1948م بالجامعة الإسلامية الأهلية الأم دارالعلوم/ديوبند، وتخرج منها عام 1952م.

       واشتغل بعد التخرج سكرتيرًا للشيخ حبيب الرحمن اللدهيانوي المعروف بـ«رئيس الأحرار». عام 1956م زار المملكة العربية السعودية لحج بيت الله الحرام كعضو متحدث ببعثة الحج التي ذهبت تحت رئاسة الشيخ اللدهيانوي مشتملة على تسعة من العلماء البارزين.

       أسس عام 1957م في ديوبند مؤسسة ثقافية باسم «دارالفكر» ونظّم تحتها تعليم العربية والإنجليزية وأصدر منها مجلة «القاسم» شهريًّا.

       عُيِّن أستاذًا للأدب العربي ومادتي التفسير والحديث بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند عام 1963م. وعام 1965م أصدر عن الجامعة مجلة «دعوة الحق» العربية التي كانت تصدر أربع مرات في السنة. وأسس فيها لتعليم اللغة العربية «النادي الأدبي» عام 1964م. وألف خلال التدريس فيها كتابه الشهير «القراءة الواضحة» الذي أصبح من المقررات الدراسيّة للغة العربية في معظم الجامعات الأهلية والحكومية في شبه القارة الهندية.

       عام 1977م زار عددًا من البلاد العربية، بما فيها المملكة السعودية  والبحرين والإمارات العربية المتحدة. وذلك على رأس وفد لجمعية علماء الهند، كما أصدر لسان حالها بالعربية باسم «الكفاح» التي ظلت تصدر طوال 15 عامًا، ثم احتجبت عام 1980م. رأس معظم اللجان التي كونتها دارالعلوم/ديوبند لعقد الاحتفال المئويّ الكبير. وعام 1983م عينته الجامعة مديرًا لمجلسها التعليمي، وفي هذا العام زار كثيرًا من بلاد العالم بما فيها بلاد أوربّا وأفريقيا. وعام 1985م عينته الجامعة رئيسًا مساعدًا لها، وفي نفس العام أسس جريدة أردية نصف شهرية باسم «مرآة دارالعلوم» صدرت سنوات ثم حجبتها الجامعة لقلة الإمكانيات. وعام 1997م استقال من منصب الرئيس المساعد لظروف مناوئة. وعام 1988م أقام مؤسسة ثقافية بديوبند باسم «دارالمؤلفين». وعام 1988م عُيِّنَ رئيسًا لجمعية علماء الهند الملية، وعام 1990م أحاله مجلس شورى دارالعلوم/ديوبند إلى المعاش وفي نفس العام تشرف بالحج والزيارة على دعوة من وزارة الحج والأوقاف السعودية. وعام 1992م حضر المؤتمر العالمي الإسلامي للإفراج عن الأسرى الكويتيين. وفي الفترة ما بين عام 1993م و 1994م اشتغل بتاليف قاموس عربي – أردي ضخم باسم «القاموس الوحيد».

       يعدّ الشيخ الكيرانوي أكبر معلم عبقري للغة العربية وقف حياته كلها على نشرها بجهد مشكور مثالي فريد حقًّا. وله تلاميذ بعدد الآلاف منتشرون في العالم يحملون لواء العربية ويعملون في شتى مجالات الحياة. رحمه الله رحمة واسعة.

*  *  *


(*)    الحائز على شهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من قسم اللّغة العربية وآدابها، جامعة دهلي، دهلي- 110007.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1435 هـ = سبتمبر 2014م ، العدد : 11 ، السنة : 38

Related Posts