كلمة العدد
الازدواجية لدى الغرب ليست في الأقوال والأفعال فقط؛ ولكنها لديه سلوك يتّبعه؛ بل يتبنّاه في شعب الحياة كلها، وهي لديه قيمة يتعامل بها مع بني البشر ولاسيّما المسلمين الذين خُلِقَ – الغرب – مُرَكَّبَةً طينتُه بمعاداتهم؛ بل عنها يصدر هو في جميع التعاملات التي تمليها عليه طبيعتُه المعادية للإسلام والمسلمين. وكأنّها – الازدواجيّة – سلاح أمضى بيده يُحَقِّق بها فيما يتصل بالإضرار بالإسلام والمسلمين ما لايحققه بغيرها.
ومظاهر هذه الازدواجيّة كثيرة متنوعة لاتكاد تحصيها – أيّها القارئ! – عدًّا؛ لأنّها واردة – كما أسلفنا – في شعب الحياة كلّها. ونذكر هنا على سبيل المثال «حرية الرأي والتعبير» التي يتذرّع بها إلى الإساءة إلى الإسلام وإلى نبيه – عليه الصلاة والسلام – ولكنه يتجاهلها تمامًا عندما يتعلق الأمر بالإساءة إلى سيّدنا عيسى المسيح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – فهو لا يحتملها بأي صورة؛ فالجريدة “Jyllands Postery” التي نشرت صورًا كاريكاتيرية مسيئة إلى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت قد رفضت عام 2003م كاركاتيرًا يسيء إلى سيدنا المسيح – عليه السلام – وكان محرر الجريدة السيد “Christoffer zieler” بَرَّرَ رفضه له قائلاً: إنه لا يعتقد أن تلك الصورة مضحكة فقط؛ بل هي مسيئة للمشاعر الدينية للمسيحيين.
ولكن هذه الجريدة نفسها نشرت متتابعة صورًا مسيئة للغاية إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وعندما احتج المسلمون في العالم ضدّها، قال الغرب: إن هذه قضايا تتعلق بحرية الرأي والتعبير، وإن تصرّف المسلمين على هذا النحو الصارخ المتمثل في الاحتجاج في كل مكان في العالم، وردّ فعلهم الشديد الغاضب، يأتي دليلاً على عدم قدرتهم على تقبل الديموقراطيّة والتعامل مع حرية الرأي والتعبير واحترام مشاعر الآخرين من بني البشر!!.
في «سوبر ماركت» شهير في «الدانمارك» يدعى “Kviekly” اضْطُرَّ مديره إلى رفع الأحذية الموضوعة مُنَضَّدَةً على الرفوف، التي كانت مرسومة عليها صور لسيدنا المسيح ولسيدتنا مريم – عليهما السلام – مراعاةً لمشاعر المسيحيين الذين كانوا قد سجّلوا استياءهم واحتجاجهم ضدّ هذه الأحذية التي رسم عليها صانعوها صورًا لهما متعمدين جرح مشاعر المسيحيين.
وفي حين أن الحكومات والمحاكم الأوربية تزعم أنها ليس بوسعها أن تتدخّل في منع الإساءات إلى الأديان ورُموزها، نرى أن الإساءة إلى الأديان – المنحصرة لدى الغرب في المسيحية واليهودية – تُعَدُّ جريمة في عدد من الدول الأوربية، وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا، وتلحق بهما فرنسا وبلجيكا؛ ففي السنة الماضية أدانت محكمة «باريس» إعلانًا يُصَوِّر السيد المسيح – عليه السلام – بين عارضات الأزياء شبهَ عار، كما أدانت المحكمة منظمة «الدفاع عن حقوق الإنسان» لأنّها دافعت عن الإعلان بحجة «حرية الرأي والتعبير». وكذلك أدانت محكمة «باريس» صور إعلانات فيلم “ave maria” للمخرج “Jacques Richard” وأمرت برفعها عن المنظر تمامًا لإساءتها لمشاعر المسيحيين.
وفي بريطانيا مُنِعَ عام 1996م توزيع فيلم “Visisons” الذي كان يدور حول حياة إحدى القديسات؛ لأنه كان يجرح مشاعر المسيحيين لإساءته إلى القديسة.
وفي دولة ألمانيا جرى منع فيلم «دولاب الحبّ» للمخرج الألماني “warner shroeter” لأنه كان يتضمن إهانة للدين المسيحي. رغم أن الشركة المنتجة للفيلم راجعت محكمة «حقوق الإنسان» الأوربية وأبدت احتجاجها ضد القرار المدين للفيلم؛ ولكن المحكمة قررت بعد إعادة الدراسة والمداولة أن الفيلم يشكلّ حقًّا إهانة للدين المسيحي.
كما أن الحكومات والمحاكم الأوربية لا تسمح بأي شكل بظهور أي مقالة أو كاريكاتير أو مقابلة تلفزيونية أو كتاب يدعو إلى معاداة الساميّة، وليس بوسع مؤرخ أو باحث أو كاتب مهما كان شأنه أن يجرؤ على إنكار «الهولوكوست» الذي تعرض له اليهود. وقد تعرض المفكر الفرنسي المسلم «رجاء جارودي» للمحاكمة والإدانة بأنه أنكر «الهولوكوست» كما حوكم المؤرخ «لويس برنارد» وجرت إدانته؛ لأنه أنكر «الهولوكوست» وصَرَّح بأنه كان مجرد تلفيق ولا علاقة له بالواقع التاريخي، فذاق مرارة السجن لمدى ثلاث سنوات.
وفي «الدانمارك» توجد مادة قانونية تعدّ إهانة العقائد الدينية جريمة، شريطة أن تكون الديانة مسيحية أو يهودية، فالمادة مقصورة على الإساءة إلى الديانة المسيحية واليهودية. أما المسلمون فلا يجوز لهم الاستفادة منها؛ ولذلك رفضت المحاكم البريطانية عام 1991م الدعاوي التي أقامها المسلمون ضد اللعين «سلمان رشدي» مؤلف كتابه «الآيات الشيطانية»؛ لأن المادة القانونية المتصلة بـ«حرية الرأي والتعبير» جدّ نشيطة في شأنهم مهما كانت غير سارية المفعول ضدّ غيرهم من اليهود والمسيحيين الذين كأنهم خلقوا من الذهب والفضة الخالصين مبرئين من كل ذنب وعيب!!.
إنّ «حريّة الرأي والتعبير» إنما يدافع عنها الأوربيون لمؤاخذة ومعاقبة المسلمين، وتجريم الإسلام والإساءة إليه. والازدواجية في القول والعمل والسلوك يعتمدها الأوربيون قيمة أساسيّة ومُرْتَكَزًا مهمًّا في حياتهم فيما يتصل بتفعيل عدائهم للإسلام والمسلمين وتنفيذ مقتضياته؛ فهذا “claude imfert” مؤسس ومدير مجلة “lepoint” يصرح عام 2003م «بأنني ضدّ الإسلام، ولا أشعر بأي حرج عندما أصارح بذلك» والمسلمون يحتجون ضدّه ويرفعون دعاوي عليه إلى المحاكم؛ ولكنها تذهب سدى؛ لأنهم مسلمون ولأن ديانتهم هي الإسلام الذي خلق الغرب ليسيء إليه بكل نوع من الإهانة، حتى يستحق اللعنة والشقاء الأبدي من الله العليم الحكيم. وكذلك نجد المسلمين يرفعون الدعوى لمحكمة «باريس» ضدّ كتاب “mich houellebeq” الذي أساء إلى الإسلام بمحتوياته بما فيها نصّه ضده: «الإسلام هو أكثر الأديان حماقة» ولكنها رفضتها على حين أنها أصدرت قرارات عديدة تقضي بعدم المساس بالدين المسيحي بسوء، مصرحة بأن الإساءة إلى الديانة المسيحية لا تأتي ضمن «حرية الرأي والتعبير»!!.
الازدواجيّة نفسها أعملها الغرب فيما يتعلق بالثورات التي هبّت رياحها ضدّ الدكتاتوريات في عدد من البلاد العربيّة؛ حيث رَحَّبَ بها في الظاهر؛ ولكنها عارضها على طول الخطّ وعرضه في الداخل عندما رأى أنها تميل إلى الإسلاميّة. وكذلك صنع ويصنع دائمًا مع البلاد الإسلاميّة والعربيّة؛ فالغرب يقف بجانب الديموقراطيّة فيها إذا ساندت مصالحه، ويعارضها بل يحاربها إذا لم تحقق مصالحه المتمثلة في المصالح الصليبية الصهيونية المتعارضة تمامًا مع المصالح الإسلاميّة.
لقد زرع الغرب وأيّد وتعهّد الديموقراطيةَ في أفغانستان من النوع الذي رآه يحقق تلك المصالح المشار إليها، وحارب الديموقراطية ذات السحنة الإسلاميّة التي طبّقها من ذي قبل الطالبان الأفغان الذين نشروا العدل والأمن في ربوع البلاد بحيث كانت تخرج امرأة بمفردها في خلوات الليل في صحراء واسعة لا داعى فيها ولا مجيب، فلا يتعرض لها أحد بسوء، كما قضوا على جميع أنواع المفاسد الاجتماعية من القمار والخمر والمخدرات؛ ولكن هذه الديموقراطية لم تعجب الغرب؛ لأنها لم تكن لتحقق المصالح الصليبية الصهيونية التي يتوخاها من وراء الديموقراطية المزروعة بيده في البلاد العربية والإسلاميّة.
العداء مع الإسلام مركوز في طبيعة الغرب، فلا ينطلق إلاّ منه ولا يصدر إلاّ عنه في جميع الخطوات التي يتخذها في شأن الدول والأمم، مهما تظاهر بالعمل بالعدل والديموقراطيّة ومراعاة حقوق الإنسان وحرية الرأي والقول؛ فهو عندما يراعى حتى حقوق الكلاب والقرود والحيوانات بأنواعها، يخرق حقوق الآدمي ولاسيّما إذا كان مسلماً. ويذهب الغرب في ذلك مذاهب بعيدة تتسم بتناقضات صارخة يحار فيها الألباب؛ فقد سجّل التأريخ أنه في منتصف القرن العشرين الميلادي صنع الاتحاد السوفياتي صاروخًا وأرسله للفضاء، و وضع فيه لكسب التجربة الأوليّة الكلية المسماة بـ«لايكا» فقام الغرب باستنكار ذلك وقامت مظاهرات كثيرة في الدول الغربيّة تحتجّ ضدّ التصرف السوفياتي المتمثل في خرق حقوق الحيوانات ولاسيّما الحيوان المفضل لدى الغرب وهو الكلب والكلبة؛ ولكن الغرب – الذي تقوده اليوم أمريكا قيادة خرقاء تنعكس على الإنسانية كلها بآثار سلبيّة للغاية بعيدة المدى – يحتمل خرق حقوق الإنسان بكاملها بيد المغضوب عليهم من اليهود الصهاينة في فلسطين خرقًا لم تشهده الإنسانية على وجه الأرض منذ أن وجدت الخليقة. يهاجمون الفلسطينيين بكل ما يملكون من قوة عسكرية وأسلحة استراتيجية، فيهدمون البيوت على ساكنيها، ويهدمون المدارس على من فيها، ويقتلون الإنسان شيوخًا ونساءً وأطفالاً ورجالاً كأنهم يصيدون الطيور في الغابات، وينهبون الأراضي، ويشردون السكان عن بيوتهم، ويستولون على منازلهم بالقوة، ويهوِّدون مدينة القدس والمسجد الأقصى، وقد خططوا لهدمه كليًّا بين عشية وضحاها وإقامة هيكل سليمان على مكانه، والغربُ يرى ذلك ويشاهد، فلا يستنكر؛ بل يؤيّد ويساند ماديًّا ومعنويًّا. ويصرخ على شوكة تصيب إسرائيليًّا، ولا يخرج صوت من حنجرته على قتل مئات وآلاف من الفلسطينيين كل آن، ويقف صفًّا واحدًا لإطلاق سراح جندي إسرائيلي لو أُخِذَ على غرة من قبل المجاهدين، ويسكت سكوت الموتى على الآلاف المؤلفة من الفلسطينيين المسجونين في سجون إسرائيل، هناك وزراء ونواب فلسطينيون قد خطفتهم أيدي الإجرام الإسرائيلية وزجت بهم في السجون يذوقون الويلات فيها ويُحَاكَمُون ويُعَاقَبُون ويُقْتَلُون بالتسميم، والغربُ كله ساكت، وقد يتظاهر بالاستنكار للإبقاء على ماء وجهه؛ ولكنه سرعان يتبخّر الاستنكار المتظاهر به تبخر السراب.
مئات الآلاف من المسلمين العرب قتلوا في العراق على أيدي الغرب وقواته المسلحة دونما ذنب سوى ذنب واحد وهو أنهم كانوا مسلمين. وقد ثبت بكل الأدلة أن الهجوم الأمريكي البريطاني الغربي على العراق كان دونما مبرر، للتشفي من الإسلام وأهله؛ ولكن أحدًا لم يقم ليطالب الغرب المتكبر الصليبي الصهيوني بأداء الدية المكافئة لهذه الخسائر الإنسانية والماديّة التي لحقت العراق وكذلك أفغانستان.
الازدواجيّة في القول والعمل والسلوك هي السلاح الأمضى من الأسلحة الكثيرة التي يحارب بها الغرب الصليبي الصهيوني الإسلام والمسلمين على الأصعدة كافة وفي العالم كله؛ فكل شيء صحيح وصالح وجميل لدى الغرب إذا حقق المصالح الصليبية الصهيونية، وكل شيء خاطئ وفاسد وقبيح إذا وقف في طريق تلك المصالح الخبيثة النكدة.
(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم السبت: 11/جمادى الثانية 1435هـ الموافق 12/أبريل 2014م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1435 هـ = يونيو 2014م ، العدد : 8 ، السنة : 38