دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ عبد الغفور زين الدين قاسمي
مدرس جامعة إحياء السنة ، كيرالا
أبو الأسود الدؤلي :
هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن عمر بن حنس بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن كنانة ، أبو الأسود الدؤلي البصري ، واضع النحو العربي ومؤسسه ، وأول من نقط المصحف، وكان من عيون التابعيين وأشرافهم ، ومن أكمل الرجال رنيًا وأسدهم عقلاً ، ويعد في طبقات النحاة والشعراء والفقهاء والمحدثين ، وقد أسلم في حياة النبي ﷺ ، ولم يره ، وشهد معركة الجمل ، ووقعة الصفين ، واستعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
وكان يحب النبي ﷺ واله حبًا جمًا ، ويفضل القريش في الإمامة ، ويتشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان ينزل البصرة في بني قشير فكانوا يرجمونه بالليل لمحبته عليا كرم الله وجهه .
ولما بلغ نعي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبيعة الحسن رضي الله عنهما قام على المنبر ونعى لهم عليًا رضي الله عنهم فقال في خطبته :
«إن رجلاً من أعداء الله المارقة عن دينه ، إغتال أميــر المؤمنيــن عليًا كــرم الله وجهه ومثواه في مسجــده ، وهو خارج لتهجده في ليلة يُرْجـٰـى فيه مصادفة ليلة القدر فقتله ، فيا الله هو من قتيل ! وأكـرم بــه وبمقتلــه وروحـــه مــن روح عـرجت إلى الله تعالى بالبــر والتقى والإيمان والإحسان ، لقــد أطفا منه نور الله لا يبين بعده أبدا ، وهدم ركنا من أركان الله تعــالى لا يشاد مثله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين ، وعليه السلام ورحمة الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا» . ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه ، ثم قال: «وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله ﷺ وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه ، وإني لأرجو أن يجبر الله عز وجل به ما وهي ، ويسد به ما انثلم ، ويجمع به الشمل ، ويطفئ به نيران الفتنة، فبايعوه ترشدوا» فبايعت الشيعة كلها .
وكان أبو الأسود شاعرًا موهوبًا .
ومن محاسن الحكم في شعره :
لاَ تُــرْسِلَنَّ مَقَالَــــةً مَشْهُورَةً
لاَ تَسْتَطِيْــــعُ إِذَا مَضَتْ إِدْرَاكَـــهَا
لاَ تُبْــــدِيَـنَّ نَمِيْمَــــةً أُنْبِـئْتَهَا
وَتَحَفَّظَنَّ مَنِ الَّذِي أَنْبَاكَهَا
وقال أيضًا :
وَمَا طَلَبُ الْمَعِيْشَةِ بِالتَّمَنِّي
وَلـٰـكِنْ أَلْقِ دَلْـــوَكَ بِالدِّلاَءِ
تَجِيئُ بِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا
تَجِيئُ بِحَمْأَةٍ وَقَلِيْلِ مَــــاءٍ
ومن شعره السائر :
مَا كُلُّ ذِيْ لُبٍّ بِمُؤْتِيْكَ نُصْحَـهُ
وَمَا كُلُّ مُـــؤْتٍ نُصْحَــــهُ بِلَبِيبٍ
وَلَكِنْ إِذَا مَا اسْتَجْمَعَا عَنْ وَاحِدٍ
فَحَـقٌّ لَـــــهُ مِنْ طَاعَــــــةٍ بِنَصِيبٍ
وينشد في حب النبي وآله :
اُحِبُّ مُحَمَّـــــدًا حُبًّا شَدِيــــــدًا
وَعَبَّاســـــًا وَحَمْــــــــزَةَ وَالْـوَصِــيَّا
بَنِي عَــمِّ النَّبـِــيِّ وَأَقْـــــــرَبِيْــــــهِ
أَحَبُّ النَّـــــاسِ كُلِّهِـــمِ إِلَـــــــيَّا
فَاِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْــــدًا أُصِبْـــهُ
وَلَسْتُ بِمُخْطِــئٍ إِنْ كَانَ غَـيًّا
هُمُ أَهْلُ النَّصِيحَـــةِ غَيْـرَ شَكِّ
وَأَهْــلُ مَـــوَدَّتِي مَا دُمْتُ حَــيًّا
ويرثي علي بن أبي طالب :
ألاَ أَبْلِغْ مُعَاوِيَــــةَ بْــنَ حَــــرْبٍ
فَلاَ قَــــرَّتْ عُيُـــونُ الشَّامِتِيْــــنَا
أَفِي شِهْــرِ الصِّيَـامِ فَجَعْتُمُـــونَا
بِخَيْـــــرِ النَّاسِ طُــــرًّا أَجْمَعِيـنَا
قَتَلْتُمْ خَيْـــرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
وَكَسِيسَهَا وَمَنْ رَكِبَ السَّفِينَا
وَمَــنْ لَبِسَ النِّعَالَ وَمَنْ حَذَاهَا
وَمَـــنْ قَــــــرَأَ الْمَثَانِــيَ وَالْمِئِينَا
اِذَا اسْتَقْبَلْتَ وَجْهَ أَبِي حُسَيْنٍ
رَأَيْتَ الـــدُّرَّ رَاقَ الــنَّاظِــــــرِيْنَا
لَقَـــــدْ عَلِمَتْ قُـــــــرَيْشٌ حَيْثُ حَلَّتْ
بِأَنَّكَ خَيْـــرُهَـــا حَسَبًا وَدِيــــنًا
ويقول في الابتهال إلى الله تعالى :
وَإِذَا طَلَبْتَ مِنَ الْحَوَائِجِ حَاجَةً
فَادْعُ الإِلـٰـــهَ وَاَحْسِنِ الاَعْمَـالاَ
فَلَيُعْطِيَنَّـــكَ مَـــا أَرَادَ بِقُـــــــدْرَةٍ
فَهْـــــوَ اللَّطِيفُ لِمَـا أَرَادَ فَعَــالاً
وَإنِ الْعِبَـادَ وَشَأْنَهُمْ وَأُمُـــورَهُمْ
بِيَدِ الاِلـٰـــــــهِ يُقَلِّبُ الاَحْـــــوَالاَ
فَدَعِ الْعِبَادَ وَلاَ تَكُنْ بِطِلاَبِهِـمْ
لَهِجًا تُضَعْضِـــعُ لِلْعِبَـــادِ سُؤَالاً
وكان أبو الأسود فارسًا نشيطًا كثير الترحال، يحب السفر والركوب ، حتى كان يكثر الخروج في كبر سنه ، فقال له رجل : يا أبا الأسود أراك تكثر الركوب ، وقد ضعفت عن الحركة وكبرت، ولو لزمت منزلك كان أودع لك ، فقال له أبو الأسود : ولكن الركوب يشد أعضائي ، وأسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي ، وأستنشق الريح، وألقى إخواني ، ولو جلست في بيتي لاغتم بي أهلي ، وأنس بي الصبيّ ، واجترا عليّ الخادم ، وكلمني من أهلي من يهاب كلامي ، لإلفهم إياي، وجلوسهم عندي ، حتى لعل العنز أن تبول عليّ فلا يمنعها أحد .
وقد اخْتُلِفَ في سنة وفاته ، ولكن الأكثر على أنه تُوُفِّى – رضي الله عنه – بالطاعون في جارف ، سنة تسع وستين ، وهو إبن خمس وثمانين سنة ، وكان ذلك في أيام ولاية عبد الله بن زياد على البصرة.(1)
دوره في وضع النحو :
لما إنتشر الإسلام شرقًا وغربًا ، وفتح العرب البلاد العجمية وحكموها وتسيطروا عليها ، واختلط العجم بالعرب ، وتشابكت اللغات العجمية باللغة العربية ، وتعانقت الثقافات الأجنبية بالثقافة الإسلامية ، واتسعت دوائر التجارة والصفقات والمعاملات والمواصلات بين العرب والعجم ، قد كثر الخطأ والغلط في النطق والمكالمة، وكادت اللغة العربية أن تفسد عن لهجتها العريقة، وأن تنحرف عن طريقتها الأصيلة ، حتى تسرّب اللحن في قراءة القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية الشريفة .
فبدأ الخلفاء والعلماء أن يفكروا في وضع قانون يعصم الكلام العربي عن اللحن والخطأ ، ولعل أول من فكر فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حيث علم أن اللحن يتسرب إلى تلاوة القرآن الكريم ، فاستدعى أبا الأسود الدؤلي وأمره أن يفكر في رسم القواعد النحوية ، ويدلّ على هذا ما روى أبو القاسم الأنباري في أماليه : عن أبي مليكة – رضي الله عنه – قال : قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب، فقال: من يقرئني مما أنزل الله على محمد ﷺ فأقرأه رجل سورة البراءة فقال: إن الله برئ من المشركين ورسوله (بالجر) فقال أعرابي : أو قد برئ الله من رسوله ، إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ، فبلغ عمر مقالة الأعرابي ، فدعاه فقال : يا أعرابي أتبرأ من رسول الله ﷺ ؟ قال : يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن ، فسألت من يقرئني ، فأقرئني هذا سورة براءة فقال إن الله برئ من المشركين ورسوله (بالجر) فقلت أو قد برئ الله من رسوله ، إن يكن الله قد برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ، فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابي ، قال : فكيف هي يا أمير المؤمنين ، فقال : إن الله برئ من المشركين ورسوله (بالرفع) فأمر عمر بن الخطاب : ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر أبا الأسود فوضع النحو، أخرجه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق .
ثم لم يزل أبو الأسود الدؤلي يفكر في هذا الموضوع ، وتنبه واستمع إلى الأخطاء والألحان التي تقع في الكلام العربي ، ثم شاور مع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في هذا الأمر واستشار ، فارشده علي رضي الله عنه إلى عدة أمور ، ووضع له بعض القواعد ، ويدل على ذلك الروايات التالية:
يقول أبو الأسود الدؤلي : إني دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فرأيته مطرقًا مفكرًا، فقلت فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ قال إني سمعت ببلدكم هذا لحنًا ، فاردت أن أضع كتابًا في أصول العربية ، فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا ، وبقيت فينا هذه اللغة ، ثم أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الكلام إسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بإسم ولا فعل ، ثم قال تتبعه وزِدْ فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وأنا نفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر، قال أبو الأسود فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه ، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها : إن و أن وليت ولعل وكأن ، ولم أذكر لكن ، فقال لي لم تركتها فقلت لم أحسبها منها ، فقال : بل هي منها فزد فيها(2).
عن يحيى بن يعمر الليثي أن أبا الأسود الدؤلي – رضي الله عنه – دخل على ابنته في البصرة ، فقالت له، يا أبت ، ما أشدُّ الحر ، رفعت أشدّ ، فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد ، فقال لها شهر ناجر، (يريد شهر صفر ، الجاهلية كانت تسمى شهور السنة بهذه الأسماء) فقالت يا أبت ، أنا أخبرتك ولا أسئلك ، فأتي علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه -، فقال : يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم ، وتوشك أن تطاول عليها الزمان أن تضمحل ، فقال له : وما ذاك ؟ فأخبره خبر إبنته ، فأمره فاشترى صفحًا بدرهم وأملى عليه : الكلام كله لا يخرج عن إسم وفعل وحرف جاء لمعنى ، ثم رسم أصول النحو كلها فنقلها النحويون وفرّعوها(3).
عن أبي حريب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه رحمه الله ، قيل لأبي الأسود الدؤلي من أين لك هذا العلم – يعنون النحو – قال أخذت حدوده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه(4).
هذا وهناك روايات أخرى عديدة مضطربة مختلفة في وضع النحو ، ولكن على ما أسلفناه يكون واضع النحو أبو الأسود الدؤلي بل بعد توجيه وإشارة من علي بن أبي طالب وبعد أن أوضح له الطريق ورسم له القواعد النموذجية ، وقد خالف البعض في هذا الرأي ، وفي هذا يقول السيرافي : إختلف الناس في أول من رسم النحو فقال قائلون : أبو الأسود الدؤلي ، وقيل هو نصر ابن عاصم وقيل بل هو عبد الرحمن بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي(5).
وقد اختلف أيضا في أول ما وضع من أبواب النحو، فروي عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي أنه قال : أوّل باب وضعه أبي من النحو باب التعجب(6) وقيل إن عليًا – رضي الله عنه – وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب : إسم وفعل وحرف ، ثم رفعه إليه وقال له تمم على هذا(7).
وكان مقر أبي الأسود في البصرة ، وحين تواجده في البصرة كان يسمع الألحان كثيرًا ، فكلما يسمع لحنًا جديدًا كان يرسم قاعدة جديدة لتصويبه ، وكانت البصرة آنذاك في أمس الحاجة إلى قانون يعصم لحن الكلام ، إذ ظهر فيها ظاهرة اللحن كثيرًا .
ولم يرسم أبو الأسود جميع القواعد النحوية بل ترك كثيرًا منها لتلاميذه ولمن جاء بعده من أئمة النحو ، فأتموها وكملوها وأضافوا إليها ، وفرّعوها وعللوها واستدلوا لها ، وبينوها وفصلوها ووضحوا طريقها ، وأثبتوا أصولها وقواعدها .
وقد رُوِيَ عن المدائني أنه قال : أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف فنقطها ورسم من النحو رسوما ، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية ، ثم زاد فيها بعده عنبسة بن معدان المهري ، ثم جاء عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو ابن العلاء فزادا فيه ، ثم جاء الخليل بن أحمد الأزدي فلحب الطريق(8).
* * *
الهوامش :
- أنظر ترجمة أبي الأسود في كتاب الأغاني للاصبهاني : 12/298 ، والاصابة للعسقلاني : 2/241، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص 707 ، ووفيات الاعيان لابن خلكان: 2/535 ، والبداية والنهاية لابن كثير : 8/315 ، وبغية الوعاة للسيوطي : 1/22 .
- رسالة في سبب وضع العربية للسيوطي .
- الأغاني 12/298 .
- الأغاني 12/299 ، ووفيات الأعيان 2/537 .
- أخبار النحويين البصريين للسيرافي ، ص 13 .
- الأغاني 12/299 .
- وفيات الأعيان 2/535 .
- الأغاني : 12/298 .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.