دراسات إسلامية
إعداد : الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن الحوار بين الأديان مصطلح معاصر متداول على الساحة العالمية والمحلية، منطو على الكثير من الشك والغموض والإبهام من ناحية مدلوله وأهدافه(1). وذلك أن فكرة الحوارهذه جاءت من الغرب وتداولت وشاعت حتى تعقد لها المؤتمرات على الصعيدين الدولي والمحلي، ويدعى إليها علماء الإسلام.
بما أن الحواربين الأديان مصطلح معاصر لم يُعرف لدى علماء المسلمين القدامى، يجب على العلماء أن يقوموا بدراسته وتحديد معناه لغة واصطلاحا، وبيان أنواعه وأحكامها في ضوء الكتاب والسنة.
ولا ينبغي لنا أن ننفي فكرة الحوار لمجرد أنها فكرة جاءت من الغرب بل يجب علينا أن نولي لها عنايتنا، فإن كان من أنواع الحوار ما يتفق و مبادئَ الإسلام وثوابتَه فنقبله وننشره وندعو إليه، وإن كان منها ما يعارض الإسلام فنرفضه ونجانبه وننبه الآخرين على فساده وبطلانه.
الحوارلغة:
معنى الحوار في اللغة: مراجعة الكلام وتداوله، والمحاورة: المجادلة، والتحاور: التجاوب، وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام، ومنه قولهم: لم يُحِر جوابا أي: لم يرد ولم يرجع الجواب؛ فمرجع الحوار للتخاطب والكلام المتبادل بين اثنين فأكثر(2).
والمعنى اللغوي العام للحوار هو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين، فإذا أضيف إلى الأديان أصبح معناه ما يدور من الكلام والحديث والجدال والمناقشة بين أتباع الأديان، وهذا يدل على أن معناه عام متعدد الأشكال والصور والأنواع بحسب نوعية الكلام والمناقشة.
الحوار اصطلاحا:
أما مدلوله الاصطلاحي فهومجمل غامض، لأنه يستعمل بأكثر من معنى، فهو يحتاج إلى بيان أنواعه والفروق بينها. فعبارة «الحوار بين الأديان» تشمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً يحتاج كل منهما إلى بيان وتوضيح. سأتناول الحوار بمعانيه المتداولة بالبيان والتحليل، فإن الإحاطة بجميع أنواعه لايسعها هذا البحث الموجز. ومعانيها المتداولة هي:
1- حوار الدعوة
2 – حوار التعايش بمعنيين:
أ- المعنى المفهوم من الكلمة.
ب- المعنى المعاصر
3 – حوار التقارب
فأقوم أولا بتعريف الحوار بالمفهوم الإسلامي، وتأصيله الشرعي، ومنهجه، ثم أذكرأنواع الحوار بمعانيها المتداولة.
الحوار بالمفهوم الإسلامي:
إن الحوار بين الأديان – بالمفهوم الإسلامي الذي سنوضحه – مطلبٌ شرعي لازم لتوضيح الصورة الصحيحة لعقائد الإسلام وآدابه وأحكامه، وهو وسيلة من وسائل دعوة أتباع الأديان إلى الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى موجهةٌ لكل الناس، وإقناعهم بالحق هدف شرعي مطلوب.
وقد قام بالحوار بين الأديان بـ – معناه الشرعي المطلوب – الأنبيــاءُ الكــرام مع أقـوامهم بطرق مختلفــة وأساليب متعـددة، والمسلمون هم أحرى الناس اتباعا للمنهج النبوي للدعوة، وأقواهم حجة وبياناً، لأن دينهم دين رباني موافق لعقل الإنسان ونفسه.(3)
التاصيل الشرعي في الحوار بين الأديان:
أما الأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان، فهي الآيات التي وردت فيها دعوة الأنبياء والرسل لأقوامهم، وقد كان أقوامهم على أديان مختلفة ومتباينة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[فصلت: 33]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِين﴾ [يوسف: 18]، وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 14].
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت﴾ [النحل: 36] وكل نبيٍ يبعثه الله لقومٍ يقول لهم: ﴿اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
فإذا تتبعنا الآيات والأحاديث المبينة لحوارات الأنبياء والرسل مع أقوامهم نجد أنها دعوة إلى الله، وبيان للحق، وكشف للباطل، وبيان لضرره في الدنيا والآخرة.
وقد قام المنهج الشرعي في حوار الأديان على أربع مراحل، ومع ذلك فهي كلها تلتقي في الدعوة العامة للإسلام، وهي:
المرحلة الأولى: الدعوة.
يقول تعالى:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] هذه الآية الكريمة تعتبر نصاً في موضوع الحوار، ولا يمكن أن يتجاوزها من أراد معرفة حكم الله تعالى في الحوار بين الأديان، وقد بين مدلول الحوار في هذه الآية رسول الله – ﷺ – في خطابه المرسل إلى هرقل، وهو يتضمن الدعوة إلى الإسلام لا التقريب بين دينهم ودين الإسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)، ثم قرأ الآية السابقة(4). والآية السابقة توضح موضوع الحواروتحدده، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، وترك الشرك، ولهذا فسَّر الصحابة ومن بعدهم (الكلمة السواء) في الآية بـ (لا إله إلا الله).
وتتضمن هذه الدعوة الأمورالآتية:
1- الدعوة إلى التوحيد وإبطال الشرك.
2- الدعوة إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والتزام دينه.
3- الدعوة إلى ترك الغلو والقول على الله بغير الحق.
4- الدعوة للإيمان بالقرآن.
المرحلة الثانية: المجادلة.
المناقشة والمجادلة تتضمن أمرين:
1- إقامة البرهان والدليل القاطع على صدق الحق وصحته.
2 – والرد الصحيح على الشبهات المانعة من قبول الحق.
قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: 125] أمر الله تعالى بمجادلة أهل الكتاب بالأسلوب الحسن في قوله تعالى : ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:46]. وهذه الآية تدل على أن أهل الكتاب وأصحاب الأديان نوعان:
أحدهما: من يريد الحق ويسعى إليه: وهذا يُجادل ويُناقش بالتي هي أحسن، وهي: «الأدلة العقلية المقنعة» مثل الاستدلال بالآيات البينات(5).
الثاني: المعاند المحارب المعرض عن الحق: وهذا لا يُجادل بل يُقاتل في سبيل الله(6)، ولا شكَّ أن مناقشة أهل الأديان لا تكون بالنصوص الشرعية لأنه لا يؤمن بها من حيث المبدأ بل تكون بالأدلة العقلية الصحيحة، والقرآن الكريم يتضمن الأدلة العقلية على قضايا العقائد بوضوح تام، فقد جاء بالحق في المسائل والدلائل.
المرحلة الثالثة: المباهلة.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ونساءنا ونساءكم وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61]، قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي: «نتداعى باللعن، يقال عليه بَهْلة الله وبُهْلَته أي لعنته»(7)، والابتهال هنا أي: التضرع في الدعاء باللعن(8).
وهذه المرحلة في الحوار مع أهل الأديان إنما تكون لمن يجادل بالباطل، أو اتضح له الحق وقامت عليه الحجة وأعرض عنها، يقول ابن القيم رحمه الله في فقه قصة وفد نجران: «ومنها: أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسـوله، ولم يقل: إن ذلك ليـس لأمتك من بعدك»(9).
وهذه درجة متقدمة في حوار أهل الكتاب ولها فائدة عظيمة من جهتين: 1- إظهار التحدي، والثقة التامة بأن الداعي إلى المباهلة على الحق. 2- تخويف المعاند بتعريضه للعنة الله تعالى فربما كان ذلك سببًا في رجوعه(10).
المرحلة الرابعة: المفاصلة والبراءة.
المفاصلة والبراءة بين المسلمين والكفار بكل أصنافهم ثابتة قبل الحوار، ولكن المراد بها هنا نوعاً خاصاً هو بمنــزلــة البيان الختــامي للحوار الذي يتولى ويعـرض فيه المحاور عن الحق كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 64)، ويقـول تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَــدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة:137]. وبهذا يتبين أنه بعد الدعوة والبيان التام، وكشف الشبهة، وإقامة الحجة فإن المحاور يتحدد موقفه: إما الإسلام، وإما التولي، «وحينئذٍ فلابد من الحجة والإعلان والإشهاد بعد المحاورات والمفاوضات المنتهية بالتولي والإعراض: بأنَّا مسلمون، ومن سوانا ليسوا كذلك»(11). وهذا يدل على أنه لا تترك الأمور بدون توضيح وبيان.
قد تبين مما ذكرنا من المنهج الشرعي للحوارمع أصحاب الأديان أنَّ الأساس في الحوار هو الدعوة وإقامة الأدلة على صحة دين الإسلام، ووجوب الانقياد له ونبذ الأديان المحرفة، وبيان ما في دينهم المحرف من الباطل بلغة علمية، ومنهجية سليمة، وهذه حقيقة شرعية واضحة لمن استقرأ نصوص الكتاب والسنة، وطالع أخبار الأنبياء وعرف طبيعة رسالتهم.
أنواع الحواربالمعاني المعاصرة المتداولة:
وأما الحوار بمعانيه المعاصرة المتداولة، فهي أنواع:
1- حوار الدعوة :
إن الحوار بهذا المعنى ليس متداولا معروفا، غيرأنه علينا نحن المسلمين أن نعطي الكلمة(الحوار) المفهوم الإسلامي المنشود الذي ذكرته فيما قبل. وقد سبق أن قلت أن المقصود به في -المفهوم الإسلامي-: الحوار مع أتباع الأديان الأخرى لبيان صحة هذا الدين، وأنه ناسخ لكل الأديان السابقة، وإيضاح صحة نبوة محمد ومحاسن الإسلام العظيمة، وبيان ما هم عليه من الباطل المنحرف، وهذا الحوار مطلوب شرعا تدل عليه كل الآيات والأحاديث الدالة على فضيلة الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل. وهذا النوع من الحوارقد ذكرته مفصلا.
2- حوار التعايش:
أ- المعنى المفهوم من الكلمة:
هو الحوار الذي يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب أو طوائف، وربما تكون أقليات دينيّة، ويُعنى بالقضايا المجتمعيّة كالإنماء، والاقتصاد، والسلام، وأوضاع المهجّرين، واللاجئين ونحو ذلك، وقد يسمي البعض هذا النوع (التسامح).
وهذا المفهوم العام لا يزيد على حسن المعاملة، والعيش بصورة ملائمة بين كافة المجتمعات مع الاختلاف الديني والفكري والثقافي، والتعايش بهذا المعنى بين أتباع الأديان المختلفة لا يرفضه الإسلام، ويدل عليه معنى البر والإحسان والقسط الوارد في مثل قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة8]. ولهذا المفهوم ثلاثة ضوابط:
أولاً: مراعاة الولاء والبراء: فلا تلازم بين الإحسان والعيش الكريم والتسامح في المعاملة وبين الموالاة للكفار أو ترك البراءة منهم، فالولاء والبراءة أصل شرعي دلت عليه نصوص شرعية كثيرة(12).
ثانياً: إقامة العدل و الإنصاف مع كل الناس، فالعدل أساس عظيم في نماء المجتمعات واستقرارها.
ثالثاً: التزام الحكمة في المعاملة: وهي وضع الأمر في موضعه ومقامه الصحيح الموافق للمنهج الرباني، ولطبيعة النفس الإنسانية.
ب – المعنى المعاصر ذو الشعار الخاص:
المعنى المعاصر له شعار خاص يستعمله العالم الغربي لأهداف سياسية، ثم تطورهذا المعنى إلى أن أصبح فكراً منظماً، تقوم على تصديره بعض المؤسسات.
فخصائص (حوار التعايش) بالمفهوم الأول المميز له عن غيره هو:
1- أنه حوار لا علاقة له بالدين.
2- أنه يقتصر على الحوار فيما يتعلق بالمعيشة البحتة بين أهل الأديان التي تفرضها طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الفطرية.
3- أنه لا يتضمن محبةً أو ولاءً، أو اعترافاً بصحة دين الآخر أو تزكيةً له أو مدحاً، بل هو قاصر على الأمور الدنيويّة وفي حدود الحاجة.
4- أن لا يتضمن شيئاً من التنازل عن أمر من أمور الدين، بحجة الترغيب لهم في الدخول في الإسلام، أو إعطاء صورة حسنة عن الإسلام، أو بأي تعليل آخر.
حكمه : هذا النوع من الحوار – إذا لم يصاحبه ما يعكِّر على خصائصه السابقة أو يزيد فيها – فهو جائز لا إشكال فيه، وهو خاضع للسياسة الشرعية العملية التي يقدرها أهل الحل والعقد من أهل الخبرة والعلم والدين، وقد تفاوض رسول الله مع اليهود وعاهدهم، وصالح المشركين في الحديبية، وكذلك الصحابة الكرام تفاوضوا مع أهل الأديان المختلفة فيما يخص دنياهم ومعاشهم، ولا يزال هذا الأمر موضع اتفاق، وقد «زخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين»(13).
خصائص التعايش بالمفهوم المعاصر(14): لقد أعطي مصطلح (التعايش) بعداً آخر غير ما مضى من التوصيف، وأخذ مفهوم التعايش بعداً فكرياً جديداً وهو بهذا المعنى يندرج تحت التقارب بين الأديان.
ويمكن تلخيص خصائصه في النقاط التالية :
1- القول بحرية التدين وإنكار حد الردة في الإسلام، باعتباره معارضاً لحرية اختيار الإنسان للدين الذي يقتنع به، وجعل القاسم المشترك بين كل الأديان البيان العالمي لحقوق الإنسان.
2- منع كل ألوان الاعتداء على الآخر وإنكار الحرب باسم الدين، وتفسير الجهاد في الإسلام بأنه للدفاع عن النفس وإنكار جهاد الطلب.
3- منع الكراهة الدينية و الدعوة للإخاء الإنساني.
4- المطالبة بالحرية الدينية للأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية، والتعامل معهم على أساس الوحدة الوطنية، وليس على أساس المعتقد الديني، واقتراح الغرب الحل العلماني كأفضل حل لمشكلة الأقليات، وإن كان هذا لا يراه كل من يرى الحوار بهذا المفهوم.
5- الإقرار بالأديان السماوية جميعاً وتفسير هيمنة الإسلام عليها بأنه (مراقب) عليها فهو يرصد ما تتعرض له الديانات من انحراف عن الحق.
6- الاجتماع على تقوية الصلة بالله في النفوس، خاصة بعد طغيان المادية وتفشي قيمها المسيطرة على الشباب في العالم.
7- البعد عن العنف والإرهاب والتطرف الديني والتكفير والتدخل في خصوصيات الآخر الدينية وأن كل هذا مناف للاحترام الديني الذي يجب أن يكون بديلاً عن كل القيم السابقة(15).
حكمه: من خلال الخصائص السابقة يتبين لنا أن التعايش تحول من تعايش مادي عن طريق المفاوضات بين الدول، إلى تقارب ديني وحضاري بين الدول والشعوب.
والخصائص السابقة تتضمن إنكار أمور معلومة في دين الإسلام وواضحة فيه، مثل: قضية إنكار الجهاد، والولاء والبراء، وحكم المرتد، والسماح للكافر بنشر كفره في المجتمعات الإسلامية باسم حقوق الأقليات، وكل هذا يعتبر إنكاره كفرٌ مخرج من الملة؛ لأنه تكذيب للنصوص الشرعية الدالة عليه.
3- حوار التقارب: وهو لا يحمل مدلولاً اصطلاحياً محدداً، فلفظ «التقارب» أو «التقريب» مأخوذٌ من القرب، وهو أمرٌ نسبي يتفاوت في حقيقته وتطبيقاته، فقد يقتصر على حدٍّ أدنى من المجاملات الشكلية، وقد يبالغ فيه إلى درجة الاندماج الكامل والوحدة التامة، وبين هذين مراتب متعددة، وكلها داخلة في عموم اسم التقارب(16)، و هذا المفهوم أوسع نوع من أنواع الحوار بين الأديان، ولعله أشهر مفهوم له والذي تعقد له المؤتمرات المتعددة.
خصائصه: ولعل الخصائص المميزة للتقارب الذي لا يصل إلى درجة الوحدة (وحدة الأديان) يمكن أن تجمل فيما يلي(17):
1- اعتقاد «إيمان» الطرف الآخر، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو، أما القول بكفر الآخر فقد يصرح به البعض، وينفيه الأكثر.
2- الامتناع عن التلفيق بين عناصر الأديان، وتجنب البحث والمناقشة في المسائل العقدية الشائكة.
3- التعرف على الآخر كما يريد أن يُعرف.
4- نسيان الماضي التاريخي والتخلص من آثاره، والاعتذار عن أخطائه.
5- إبراز أوجه الاتفاق، وترك نقاط الاختلاف.
6- التعاون على تحقيق القيم المشتركة وهي تشمل ما يلي(18):
أ- التعاون لصد الإلحاد في العقيدة.
ب- الوقوف ضد دعاة الإباحية.
ج- التعاون حول قضايا العدل و المستضعفين، والشعوب المضطهدة والأوطان المحتلة، والفقر والمرض… الخ.
7- الاعتراف بالآخر، واحترام عقائده وشعائره، وتبادل الزيارات والمجاملات في المناسبات الدينيّة المختلفة(19)، والمشاركة في عباداتهم أحياناً(20)، ويدخل في ذلك التأكيد على المحبة والمودة، والإخاء والصداقة، والثقة والاحترام المتبادل معهم.
8- البعد عن جعل الحوار دعوة مبطنة سواء للإسلام أو النصرانية(21).
ومن خلال ما سبق يتبين أن التقارب أمرٌ نسبي، فيمكن حصول التقارب إلى درجة الوحدة، ويمكن الاكتفاء بالتفاهم العام القريب من حوار التعايش.
حكمه: حكم حوار التقارب يختلف بحسب نوع القرب، وقد سبق أن بينتُ أن دعاة التقريب على نوعين، والفارق بينهما هو تكفير اليهود والنصارى، فمن كفّرهم مع القول بالتقريب على نحو ما سبق فقوله بدعة مخالف لمنهج النبي في حواره مع أهل الكتاب، ومن لم يكفّرهم فقوله كفرٌ لأنه تكذيب لأمرٍ قطعي في القرآن والسنة، بغض النظر عن الأشخاص المعينين، لأن لهم شأنًا آخر فيما يتعلق بوجود الشروط وانتفاء الموانع وليس هذا مجال بحثنا هنا.
أما المودة والمحبة القلبية، فإن كانت لدينه فهي كفر أكبر بغير خلاف، وأما إن كانت المحبة القلبية لغير دينه بل لأمر دنيوي، ولم يقتض ذلك مظاهرته على المسلمين فهي من الكبائر ولا توصل للكفر الأكبر.
وسأدلل على أن «حوار التقريب» مخالف لأصول الدين، ومناقض لمنهج الرسول –صلى الله عليه وسلم- بشكل عام من خلال الوجوه التالية:
الوجه الأول: أنه موالاة للكفار ومخالفة لعقيدة الولاء والبراء، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الممتحنة: 1]. ويقول تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهُ وَرَسُولَهُ…﴾ [المجادلة:22]. ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ …﴾ [المائدة: من الآية51]. والمودة والموالاة في «حوار التقريب» هو الشعار البارز الذي يردد في اللقاءات والبيانات المشتركة.
الوجه الثاني: أنه مخالفة لمنهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في حوار الأديان، واتباع لغير سبيل المؤمنين، ومخالف لإجماع المسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115].
ولا شك في أن «حوار التقريب» مناقض لهدي الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وعلماء الإسلام، فأصحاب التقارب يتركون نقاط الاختلاف، ولاسيما مسائل العقائد، وهذه مناقضة لمنهج الدعوة النبوية، فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعا أهل الكتاب وغيرهم من أهل الأديان إلى تحقيق التوحيد ونبذ الشرك وجادلهم على ذلك، ولم يرد تركه لمخاطبتهم في العقائد والإعراض عن ذلك إلى قضايا مشتركة أخرى.
فدعوة التقارب فيها تنكّب لطريق الأنبياء ومعاكسة له، وهذا من دلائل بطلانه.
الوجه الثالث: أنه إعراض وترك لبعض الأحكام الشرعية. يقول تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ…﴾ [المائدة: 49]. وهذه الآية صريحة في ثلاثة أمور أثناء الحوار مع أهل الكتاب وهي:
1- دعوتهم والحكم بينهم بحكم الله، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب، بالبعد عن نقاط الاختلاف، وتنزيل الدين الحق منزلة الدين المحرف بحجة اعتبار الآخر واحترامه.
2- البعد عن مجاملتهم والتنزل معهم واتباع أهوائهم، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب في مشاركتهم لهم في أعيادهم وإثبات إيمانهم وتزكيتهم.
3- الحذر من فتنتهم عن بعض ما أنزل الله تعالى، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب فانزلقوا في مخالفة بعض ما أنزل الله بحجة التقارب والحوار، ومن أمثلة ذلك:
* الإعراض عن الولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله، تحت مسمَّى «المحبة والاحترام المتبادل» و «الأخوة الإنسانية» و «نبذ التعصب».
* إلغاء أحكام أهل الذمة تحت مسمى «العدالة الاجتماعية» و «حقوق الإنسان».
* إبطال حد الردة، وتمكين الكفار من الدعوة إلى دينهم وبناء معابدهم، ونشر كتبهم تحت مسمى «حرية التدين» و «التعددية الدينية» و «التعرف على الآخر».
* إلغاء الجهاد في سبيل الله وما يتبعه من أحكام، مثل استرقاق الأسرى والغنائم تحت مسمَّى «السلم العالمي»، وفكرة الجهاد من أصلها لا تناسب الحوار بين الأديان بمعنى التقريب المزعوم، وغير ما تقدم من الأحكام الشرعية أعرضوا عنها بسبب الحوار والتقريب(22).
الوجه الرابع: أنه يتضمن المساواة بين الكافرين والمسلمين، يقول تعالى : ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [القلم: 35]. ويقول تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [صّ: 28]. ودعوة التقريب في أساسها تقرر مبدأ المساواة الدينيّة، وهذا رفع لما وضعه الله، وتنزيل لما رفعه الله تعالى، فالتقارب يفترض المساواة بين الأديان وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة لأي منها، وهذا شك في الإيمان والإسلام وتوسط بين الأديان وهذا يقتضي ترك الجزم بصحة الحقائق المطلقة في الإسلام ونظرته إلى أهل الأديان الأخرى.
خلاصة البحث:
– أن مصطلح (الحوار بين الأديان) عام يتضمن أنواعا متعددة تختلف في مدلولها من معنى لآخر، وقد اكتفيت بذكر عدة أنواع معروفة منها، وما استوعبت جميعها، فالحوار بين الأديان بالمفهوم الإسلامي يشمل ما دار بين الأنبياء و أهل الأديان من حوارات تدور حول الدعوة والمجادلة والمباهلة والبراءة.
وأما معناه الاصطلاحي الحديث الآن فهو مخالف لمناهج الأنبياء في حواراتهم لأقوامهم. إن الحوار بين الأديان الموجودة متنوع، منه حوار الدعوة والتعايش والتقارب ولكل واحد خصائصه وأحكامه. فحوار التعايش منه الحق والصواب، وهو الموافق لمعنى البروالإحسان بضوابطه الشرعية، ومنه الباطل الذي يتضمن موالاة الكفار وإنكار بعض الأحكام الشرعية، مثل الجهاد وحد الردة وبغض الكافرين ونحوه. وحوار التقارب يتضمن أمورا مخالفة ومناقضة لمنهج الأنبياء في الدعوة والحوار، مثل اعتقاد إيمان الطرف الآخر وغيره مما تقدم.
* * *
الهوامش:
(1) الموسوعة الإسلامية على الانترنيت.
(2) انظر في معنى الحوار في اللغة : مقاييس اللغة -لابن فارس2/117، والقاموس المحيط –للفيروز آبادي- مادة (حور)
(3) الحوار بين الأديان (حقيقته وأنواعه) للشيخ الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي
(4) رواه البخاري في صحيحة برقم (7) عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة طويلة عظيمة مشتملة على دلائل نبوته عليه السلام.
(5) انظر : تفسير الجلالين ( ص / 82).
(6) انظر : تفسير الجلالين ( ص / 82).
(7) تفسير غريب القرآن – لابن قتيبة – ص / 106.
(8) انظر : تفسير الجلالين ص / 127.
(9) زاد المعاد 3/ 623.
(10) دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1576
(11) دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1577
(12) انظر الولاء و البراء- د/محمد سعيدالقحطاني – كاملاً
(13) دعوة التقريب بين الأديان 1/ 348
(14) انظر في هذا النوع:التعايش السلمي – هيوكتسكل – دراسات في التسامح – ناجي البكري وآخرون – تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر – عبد اللطيف الحسين – مفهوم التعايش في الإسلام – عباس الجراري- المسلمون والأوربيون ( نحو أسلوب أفضل للتعايش ) – الخزندار-.
(15) هذه الخصائص ملخصة من الكتب المشار إليها في الحاشية السابقة.
(16) انظر : دعوة التقريب بين الأديان 1/ 335. والحوار الإسلامي المسيحي ص/44-13-43.
(17) المصدر السابق 1/ 336
(18) انظر لقاء الشيخ يوسف القرضاوي حول ( الحوار بين الأديان ) في : قنـاة الجزيرة – برنامج الشريعة والحياة – الثلاثاء 19/8/ 1422هـ ، الموافق 6/ 11/ 2001م.
(19) انظر : خطاب الشيخ يوسف القرضاوي في ندوة الحوار بين الأديان – موقع إسلام أون لاين . نافذة الإسلام وقضايا العصر .
ومقابلة مجلة ليلة القدر مع رئيس لجنة الحوار بين الأديان الشيخ فوزي الزفزاف. www. Lailatalqadr.Com زاوية حوارات.
(20) الحوار مع أهل الكتاب ص / 124.
(21) انظر: الحوار الإسلامي المسيحي ص/43-44
(22) انظر : دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1448
* * *
(*) أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، الهند.
Email- sajidqasmideoband@gmail.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37