دراسات إسلامية
بقلم: محمد إرشاد الحق (*)
هو العلامة العملاق والفقيه البارع عبد الحيّ بن عبد الحليم بن أمين الله بن محمد الأكبر بن أبي الرحم بن محمد يعقوب بن عبد العزيز بن أحمد سعيد بن ملا قطب الدين الشهيد الأنصاري السهالوي اللكنوي الفرنجي محلي(1) ولد في الأسرة الأنصارية العلمية العريقة التي أنجبت علماءَ كبارًا عبر القرون، وتولد في بلدة «باندة» عندما كان والده مدرّسًا في مدرسة الأمير النواب ذوالفقار الدولة، فكانت ولادته في يوم الثلاثاء من 26/ذي القعدة سنة 1264 للهجرة(2).
نشأته وثقافته:
نشأ العلامة عبد الحيّ في أسرة علمية دينية وترعرع في حضن أمه التي كانت له أحسن مربية دينية وينتهي نسبها أيضًا إلى الشيخ قطب الدين الشهيد، ومنه إلى الصحابي المذكور أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه(3)، مال العلامة إلى العلم منذ نعومة أظفاره كعادة العظماء والعباقرة والأماثل وعلماء الزمان وتثقّف تحت ظل أبيه وعنايته، ثم اهتمّ بالقرآن حتى حفظه وهو دون عشر سنين من عمره، والتفت إلى الكتب الدرسية المشتملة على علوم شتّى معقولا ومنقولا وتفرغ منها وهو دون السابعة عشر من عمره، وكان من أسباب براعته ونبوغه في المعقولات والمنقولات هو أنه كان كلّما يتفرغ من قراءة أو دراسة أي كتاب يدرّسه الآخرين، وبذلك نضجت قريحته مسرعة، وحصل على الاستعداد الكامل في جملة العلوم والفنون بأقلّ وقت، وكان شغوفًا بالدرس والتدريس والتأليف منذ باكورة عمره فما كان يجد كتابًا إلا يقرؤه ثم يـدرّسه الآخرين(4)، وكان له مقدرة كبيرة وتجربة واسعة في التدريس حتى كان جميع تلاميذه متأثرين بطريقـة تدريسه، ولقد استفاد الإمام اللكنوي خلال المدة التي قضاها في «حيدرآباد» من تجاربه ومهارته وتمارينه فيما تتعلق بأساليب التدريس وصعوباته، فأعانته هذه التجارب على القيام بالأعمال النبيلة القيمة في تأليف الكتب وإعدادها فيما بعد.
سافر العلامة مع والده إلى إقليم «دكن» سنة 1277 للهجرة حيث استقبلهما النواب شجاع الدولة مختار الملك تراب علي خان (ت، 1300هـ) استقبالاً حارًا و وقّرهما توقيرًا بالغًا، ثم قرّر عبد الحيّ مدرّسًا رئيسيًا في المدرسة النظامية، فكان من الطبيعي أن ينتهز الإمام هذه الفرصة الذهبية للإستفادة المتزايدة من الوالد وإفادة الطلاب الآخرين في آن واحد.
اُبتلي العلامة عبد الحيّ في حياته بمرض شديد ثلاث مرّات، أولاً حين عاد من الحج الثاني، فأقام بالوطن ولحقه حينئذٍ مرض شديد حتى انقطع الرجاء عن حياته، وكان مصابًا وقتئذ بإسهال وتخم، ولم يشخص أحد من كبار الأطباء أسباب هذا المرض، بل إنهم ملّوا عن مداواته، فداواه أخيرًا الحكيم محمد باقر وهو طبيب من أهل التشيع، فعادت صحة العلامة بمعالجته إلى حد الطمأنية، واشتفى من هذا المرض بعون الله تعالى(5)، ثم لحقه المرض مرة ثانية في سنة 1202 للهجرة خلال إقامته بـ«حيدر آباد» حيث ذهب للحضور في حفلة، فعادت صحته مسرعة بهذه المرّة أيضًا، واشتفى بعد قليل، وكذلك أصيب بداء شديد بالمرة الثالثة، ولكن قُضي عليه بهذه المرة وانتقل إلى رحمة الله، وكان وقتئذٍ في بيته بمدينة لكناؤ، ولم يكن يتجاوز وقتئذ تسعة وثلاثين من عمره، ويقول العلامة البندوي إنه اشترك في صلاة جنازته نحو عشرين ألفًا من الرجال أو أكثر(6)، وشاع خبر وفاته مثل العاصفة في البلاد ويقع ضريحه في حديقة أنوار الحق.
كان العلامة المذكور فخر المتأخرين، ونادرة المحققين المصنفين، والمحدث، والفقيه، والأصولي، والمنطقي، والمتكلم، والمؤرخ، والنظار، والبحاثة، والنقادة، والإمام، والفقيه، والأديب، والفلسفي، واللغوي، وجميع هذه الجوانب تحوي شخصيته، وكان أحب العلوم إليه الحديث الشريف وما إليه من علوم المنقول، مع أنه كان متفوقا في العلوم العقلية أيضًا، وقد صرّح عن نفسه أنه يحسّ في تدريس الحديث الشريف والتصنيف لذة وسرورًا مالا يجده سواه في سائر العلوم والفنون الأخرى، كان ذا فتوح ربانية عظيمة في المسائل المعضلية والقضايا الدقيقة المشتبكة، ويقول نفسه: «ومن منح الله تعالى أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط لا تأتي مسئلة معركة الآراء بين يدي إلا ألهمت الطريق الوسط فيها ولست ممن يختار الطريق التقليد في البحث بحيث لايترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية، وما كان من المسائل يخالف الحديث الصحيح الصريح أتركه وأظن المجتهد فيه معذورًا بل مأجورًا، ولكني لست ممن يشوش العوام الذين هم كالأنعام؛ بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم».
إسهاماته العلمية:
أسهم الشيخ العلامة عبد الحيّ إسهامات قيمة في العلوم الإسلامية المتنوعة وترك خلفه كتبًا في كل فن مع إزارة الإنتاج التي تدل دلالة واضحة على سعة علمه ورجاحة عقله وعمق فكره وتبحره في العلوم، وإذا ذُكر المصنفون ذووا مؤلفات ما يتجاوز عددها مأة كتاب فإن العلامة المذكور في طليعتهم ومقدمتهم بلا مدافع، وإذا قيست كثرة مؤلفاته بجانب عمره القصير الذي كان نحو 39 سنة فقط، فيبدو أنها كثيرة كثيرة جدًا، ونال معظم هذه التأليفات شهرة واسعة بين الأوساط العلمية في العالم الإسلامي كله واعترف بفضلها بعض كبار علماء العرب ويستفيد من فيضانها الدارسون إلى يومنا هذا، ومن ثم يقول الباحث العربي الشيخ عبد الفتاح أبوغدة نحو:
«يعترف كل من ينظر في تآليف الشيخ عبد الحيّ أنها تستوفى التحقيق العلمي الناصح، وتحوي النقول النادرة الفاصلة والإستيعاب لكل ما في المسئلة أو الباب حتى كأنه تخصص طوال عمره في الموضوع الذي يبحثه لا غيره»(7).
وكذلك يظن السيد سليمان الندوي أنه أوّل من ابتكر أسلوبًا جديدًا في الهند في تحقيق الكتب والتعليق عليها حيث اهتمّ بأمرين، الأول: كتابة المقدمة في بداية الكتاب، فلا يوجد هذا الشيء قبله عند أحد من العلماء في شبه القارة الهندية، فكان هذا عملاً ابتكاريًا منه في المجال العلمي، والثاني كان يستخدم في تحقيق الكتب والتعليق عليها أكثر من نسخة ثم يقابل ويقارن بينهما مقارنة علمية دقيقة ثم يدوّن في الأخير نسخة تحقيقية صحيحة متداولة، وعلى سبيل المثال إنه حقّق على المؤطا للإمام محمد في سبع نسخ. ولم يكتف بذلك بل كان يقوم بعملية الطباعة نفسه حذرًا من الأخطاء المطبعية(8). وكان شغوفًا بالتأليف إلى منتهاه حتى ألّف كتبًا غير قليلة خلال أسفاره فقط، فكان يصنّف ويكتب في الحل والترحال، ومن اللافت للنظر هو أنه بـدأ تأليف الكتب منذ باكورة عمره، فكان من عمره الثانية عشر حين ألف كتابين بالفارسية وهما «امتحان الطلبة في الصيغ المشكلة» و«التبيان في شرح الميزان»(9)، ولقد أعطاه الله تعالى ذوقًا مرهفًا وحسًا علميًا نقيًا، ودقّة نادرة في الفهم، وقوة بالغة في الحفظ وقدرة عجيبة في التأليف بأسرع وقت وأنصع أسلوب حتى إنك لاتكاد تلمح في كلامه أثر العجمة مع أنه هندي الدار والمولد واللغة، ولا يمكن أن تشكّ مرة واحدة في ذوقه فيما يكتب أو ينقل أو يناقش حتى في ثورته على مناوئيه ومخالفيه، ويتجلى لك من أسلوبه التزام الأدب وتحكيم العلم في ميدان المناقشة غير السفسفة والإقذاع، وكان له حرص نادر بالغ في الاستفادة من الوقت، وإنك لتدهش حين تراه مثلاً في كتابه «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» يعدّ مؤلفات العلماء، ثم يترجمهم ثم يقول: طالعت من كتبه كذا وكذا، ثم يسرد كتباً كثيرة للمراجعة، وإن مما يلاحظ القارئ في كتبه أنه لايبدو فيها أثر العجمة أو الاستعلاء أو انتفاخ في العلم، بل يلمس فيها القارئ مسحة التصوف الرقيق البصير، والتواضع الجم النبيل، المصحوب بالعلم والأدب الشرعي الحنيف، ومن ثم يقول الشيخ عبد الفتاح أبوغدة:
«إذا ذكر المؤلفون أصحاب التصانيف الكثيرة ما يجاوز عددها مأة وأكثر كتاب فإن الإمام عبد الحيّ في طليعتهم ومقدمتهم غير مدافع، ذلك لأن تصانيفه بلغت نحو مأة وعشرة كتب، وإذا قيست كثرتها بجانب عمره القصير الذي كان نحو تسع وثلاثين سنة فحسب، فإنها تبدو كثيرة جدًا»(10).
وقد كان لدى العلامة عبد الحيّ مكتبة شاملة عامرة غنية في كل فن وعلم وتبدو ضخامتها واستيعابها من تآليفه بل حسبك شاهدًا على هذا كتابه «الرفع التكميل»، ومع أن هذا الكتاب صغير في حجمه ولكنه كبير في فوائده وفرائده، واستقاه من نحو 150 كتابًا تقريبًا، وقد أهديت هذه المكتبة بعد وفاة سبطه الشيخ محمد أيوب لمكتبة مولانا آزاد بجامعة عليكره الإسلامية، وقد اكتحلت عيناي ببعض تلك الكتب النفسية مرارًا وتكرارًا بالمكتبة المذكورة.
والآن نستعرض المحاولات التأليفية والتصنيفية التي أنجزها العلامة عبد الحيّ في مجال الحديث.
1– الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة:
تفرّغ الإمام عبد الحيّ من تأليف هذا الكتاب في رجب سنة 1303 للهجرة، وقد ذكر المؤلف نفسه عن سبب تأليف هذا الكتاب في بدايته، فقال إنه بدأ يدوّن في يوم من الأيام رسالة شاملة في الأحاديث الموضوعة تأييدًا للشريعة المرفوعة، وقصدًا لجمع ما اتفق المحدّثون على الوضع وما اختلفوا فيه، مع ذكر الأسباب والأدلّة خلفه، ولكن لم يتيسّر له إتمام هذه الرسالة مسرعًا بسبب اشتغاله نحو إعداد كتب أخرى(11).
ويبدو من هذا التصريح أن الإمام اللكنوي كان يريد بتأليف كتاب شامل في هذا الباب ولكن أوجزه ببعض الأسباب والعلل المجهولة على الأحاديث المتعلقة بالصلوة، وكذلك كتب في موضع آخر أنه جرت بينه وبين بعض أعزاءه مناقشة ومناظرة لطيفة حول يوم عاشوراء في 1303 للهجرة، ثم سأله بعض الناس عن كمية وكيفية صلوة يوم عاشوراء وما كتب عليها من ثواب وجزاء، فكان جواب الإمام عبد الحيّ أنه لاتوجد في أية رواية محكمة موثوقة كميّة الصلواة المعينة أو كيفيتها في هذا اليوم، وكل ما يذكر إنما هو شائعات وضعية ليست لها حقيقة واضحة في أصول الدين الإسلامي، وفي نفس الحين أراد الإمام أن يؤلّف رسالة خاصة في الأحاديث الموضوعة، فألف هذا الكتاب واقتصره على الأحاديث الموضوعة في صلوات أيام السنة ولياليها موضحًا اختلافها ووضعها ليتنبّه به العلماء والدارسون ويستفيدوا منه استفادة تامة(12).
والآن اتضح وضوح الشمس أن العلامة عبد الحيّ كان يهدف بهذا التأليف إبطال البدع السائدة في المجتمع آنذاك لاسيما في صلاة يوم عاشوراء وغيرها من الأيام السّنوية التي لم تثبت في الآثار والنصوص الإسلامية الأصيلة والصحيحة، وطبع هذا الكتاب في عدّة بلاد أخرى غير الهند منها باكستان وبيروت كما حقّق وعلّق عليه محمد بسيوني زغلول، وطبع بدار الكتب العلمية ببيروت سنة 1404 للهجرة(13).
ويستهلّ المؤلف في هذا الكتاب كعادته في بقية مؤلفاته بالحمد والثناء في أسلوب مؤثّر رصين وها هو ذا نموذجه: «الحمد لله الذي أخرج عباده من شفا حفرة من النار ببعثة خاتم أنبيائه وسيّد أصفيائه الأخيار، وهدى به فرق الباغية والطوائف الطاغية من الكفار والفجار، وفضّل أمته بالأمم الماضية، فيا لهم من عزّ وافتخار، ووهب لهم علمًا غزيرًا وفهماً كبيرًا فاقوا به على من مضى من الصغار والكبار… الخ»(14).
وبعد ذلك يذكر المؤلف سبب تأليفه وما جرى بينه وبين أصدقاءه من المناظرات والمناقشات التي مرّبنا تفصيلها سابقًا، ثم يورد الإمام أجوبة عن الأحاديث التي تظن أنها موضوعة في بعض كتب أئمة الصوفيين مثل الإمام الغزالي والشيخ عبد القادر الجيلاني وغيرهما(15). ثم يأتي بذكر أقسام الوضّاعين وأنواعهم موجزًا والتي يبلغ عددها إلى السبعة، ثم يستعرض أغراض الوضّاعين ودوافع وضعهم فيوزّع هذه الأسباب في ثمانية أقسام مع تحليل وتوضيح شامل. وما يجدر بالملاحظة هو ما ذكره اللكنوي في مقدمة هذا الكتاب حيث يقول: «نقدّم مقدمة تشتمل على ذكر أحاديث الترهيب عن الكذب على النبي ﷺ، وذكر بعض القصص الموضوعة والحكايات الكذبة ممّا أولع الوعاظ بذكرها في مجالسهم ومحافل وعظهم، والعوام يعتقد صدقها عند سماعها، وكذلك يشتمل على ذكر حكم نقل الأحاديث الموضوعة وروايتها والعمل بها، كما قدمت بعد ذلك الأحاديث المقصودة ذكرها مع مالها وما عليها من الأحكام عند الإيقاظيين، وكذلك تنتهي الرسالة بخاتمة تشتمل على كثير من الصلات المسطورة في كتب المشائخ المستندين مع ما ورد فيها عن الوضع»(16).
ويكشف العلامة عبد الحيّ في هذا الكتاب ثمانية أقسام من الوضّاعين ثم يعرض كل منها منفصلاً بالشرح الوافر على نحو ما يلي:
النوع الأول قوم من الزنادقة وهم يقصدون إفساد الشريعة وإيقاع الفساد في الأمة وقد شبّههم اللكنوي باليهود والنصارى الذين أحرقوا الكتب الإلهية، والنوع الثاني هو قوم يقصدون وضع الأحاديث زهوًا وتأييدًا لمذاهبهم، وقد حلّل ذلك المؤلف بتحليل بسيط وأمثلة وافية، والنوع الثالث قوم يضعون الأحاديث ترهيبًا وترغيبًا ليحثّ بها الناس على الخير والصواب وقد أفهمهم بأمثلة كثيرة، والنوع الرابع قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن ظنًا من أن الحسن كله أمر شرعيٌ، ولا حاجة لنسبته إلى الرّسول ﷺ، والنوع الخامس قوم حملهم على الوضع غرض من أغراض الدنيا كالتقرب إلى السلطان أو حصول الثروة أو نيل الشهرة والصيت وغيرها، والنوع السادس قوم حملهم على الوضع التعصب الديني والتجمد التقليدي، والنوع السابع قوم حملهم على الوضع عشق الخلق وجنونه الذي أعماهم وصمّمهم تمامًا، ومن أمثالهم قوم وضعوا الأحاديث عن أهل البيت، والنوع الثامن قوم وضعوا الأحاديث هدفًا منه الإعجاب والإغراب وهذا النوع يحوي كثيرًا من أقسام القصّاصين والوعاظ.
وبالجملة أقول إن هذا الكتاب فريـدٌ في بابه وممتازًا في موضوعه، ولابد لكل من يهتم بالعلوم الإسلامية وخاصة بالحديث أن يطالعه.
2– التعليق الممجد على مؤطا الإمام محمد:
سمّاه العلامة عبد الحيّ «التعليق الممجد على مؤطأ الإمام محمد» إلا أن الكتّاني صرّح عنوانه «حاشية الإمام اللكنوي على مؤطا الإمام محمد بن الحسن»(17)، ونشر هذا الكتاب غير مرّة في الهند باللغة الفارسية.
تفرّغ العلامة من تأليفه عام 1295 للهجرة، وطبع أوّل مرّة بالمطبع المصطفائي بلكناؤ سنة 1297 للهجرة ثم أعيد طباعته سنة 1306 للهجرة من نفس المطبعة، كما طبع مرة أخرى بالمطبع اليوسفي بلكناؤ سنة 1346 للهجرة كذلك طبع أخيرًا سنة 1412 للهجرة بدار القلم بدمشق مع تحقيق وتحليل الدكتور تقي الدين الندوي الأستاذ الحديث وعلومه بجامعة الإمارات.
وهذا الكتاب حقًا شرح رائع يتجاوز مقداره من المتن الأصلي أضعافًا مضاعفًا، ومن اللافت للنظر هو أن المؤلف أوضح فيه اختلاف المذاهب وتضادها بتقديم الأدلة القوية والشهادات القيمة، وقد تلقى هذا الكتاب قبولاً فائقًا بين الدارسين والقرّاء والعلماء حتى طبع بعد ذلك مع المؤطا الأصلي للإمام محمد غير مرة بشبه القارة الهندية.
فالكتاب يتناول ببدايته بعض الأمور والملاحظات الهامة التي تمثل غاية أهمية هذا الكتاب، ولاشك أن الكتاب ينفرد ويمتاز بكثرة فوائده التي يحتاج إليها العلماء والدارسون ليتيسر لهم توضيح معاني الحديث وحلّ مشكلاته وضبط مصطلحاته المعقدة الغامضة، وعلم أسماء الرجال، وتراجم الرواة وما يتعلق بذلك من التوثيق والتضعيف وغيرها، فهذا الكتاب يحوي فوائد جمة(18). وكذلك يلاحظ الإمام عبد الحيّ أمورًا كثيرة في شرح هذا الكتاب النبيل وذكر بعضها نفسه في مقدمة الكتاب، والأول منها أنه لم يبال بتكرار بعض المطالب والأهداف المفيدة التي وردت في مواضع متعددة فيه ظنًا منه أن الإعادة لا تخلو من الإفادة غير أنه كلّما أعاد أمرًا أضاف فيه فائدة بطريق ما، والثاني أنه التزم بشرح مذاهب الأئمة المختلفة مع الإشارة إلى دلائلهم بقدر الضرورة، وترجيح بعضهم على البعض، وهذه الطريقة طريقة إبداعية تحقيقية دقيقة قلّما توجد عند بقية معاصريه، والثالث أنه أسند على البلاغات والأحاديث المرسلة و شيد الموقوفة بالمرفوعة، والرابع أنه أكثر من ذكر مذاهب الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الأئمة والمجتهدين والفضلاء، والخامس أنه ذكر تراجم الرواة وأحوالهم وما يتعلق بثقتهم وضعفهم دون أي تعصب مذهبي أو حمية جاهلية، وربما يوجد فيها التكرار ولكن هذا التكرار لا يخلو من فائدة متزايدة، والسادس أنه وجد بين نسخ المؤطا اختلافًا كثيرًا، فعالج هذه الاختلافات حازمًا وشرّحها مفصلة، ثم قام بتمييز بين الصحيح والقبيح دون أي اعتساف. والسابع أنه نبّه على السهو والمزلات التي يرتكبها الدارسون أثناء شرح المقصود ونقد الرواة خوفًا من أن يرتكبها أحد ممن ليس له حظ في هذه الفنون.
فاتضح الآن أن هذا الكتاب لا يخلو من كثرة الفوائد الغالية ربما يحتاج إليها العلماء والدارسون وكل من يهتم بهذه الفنون، كما تلقى هذا الكتاب تقديرًا كاملاً وتبجيلاً كبيرًا وقبولاً جيدًا بين الأوساط العلمية وحلقات العلماء واستفاد منه كثير من العلماء البارعين مثل الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (ت 1346هـ) والشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف والشيخ محمد يوسف البنوري والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وغيرهم الذين استفادوا منه في إعداد كتبهم(19)، ومن ثم حين رأى الشاذلي هذا الكتاب فاقترح أن هذا الشرح من أحفل الشروح، مسحون بعيون المسائل وقدّم فيها مقدمة أودع فيها فوائد عديدة للكتاب(20).
* * *
هامش المراجع والمصادر:
عبد الحيّ الحسني: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، دائرة المعارف الهند، الطبعة الأولى 1390هـ، ج:8، ص: 234.
العلامة عبد الحيّ: مقدمة السعاية في كشف ما فيالشرح الوقاية، المطبع المصطفائي بلكناؤ، 1307هـ، ص:41، وانظر: النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير للعلامة عبد الحيّ، ص: 150.
الشيخ محمد عبد الباقي: حسرة الفحول بوفاة نائب الرسول ص:3.
علامة عبد الحيّ: مقدمة السعاية في كشف ما في شرح الوقاية، ص:41.
محمد حفيظ الله البندوي: كنز البركات في سيرة مولانا أبي الحسنات، ص:33.
محمد حفيظ الله البندوي: كنز البركات، ص:36، وانظر: نزهة الخواطر للعلامة عبد الحيّ، ص:239.
الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: مقدمة التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة 1384هـ، ص:16.
السيد سليمان الندوي: علم الحديث بالهند، ص:63.
العلامة عبد الحيّ: النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير ص:151.
الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: مقدمة التعليقات الحافلة الأسئلة الكاملة، ص:13.
العلامة عبدالحيّ: الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، ص:8، وانظر: الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام للعلامة عبد الحيّ الحسني، ج:7، ص:313.
العلامة عبد الباري: آثار الأول من علماء فرنجي محل، ص:19.
العلامة المحقق محمد السوني: مقدمة كتاب الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للعلامة عبد الحيّ ص:5.
العلامة قيام الدين عبد الباري: آثار الأول من علماء فرنجي مجل، ص:7.
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج:4، ص: 216، وانظر سير أعلام النبلاء للذهبي ج:19، وص: 322، وانظر النجوم الزاهرة لابن ثغري بردي، ج:5، ص:371.
العلامة عبد الحيّ: أكام النفائس في أداء الأذكار بلسان الفارس، المطبع اليوسفي بلكناؤ، 1337هـ، ص:63.
عبد الحيّ بن عبد الكبير الكتاني: فهرس الفهارس، ج:2، ص: 729، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1402هـ/1982م ج:2، ص:729.
العلامة عبدالحيّ: مقدمة التعليق الممجد على مؤطا الإمام محمد، ص:407.
الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: بذل المجهود، ج:2، ص:110، وانظر: معارف السنن للعلامة البنوري ج:2، ص:109-110، وانظر: أوجز المسالك للشيخ زكريا الكاندهلوي، ج:1، ص:130، وج:8، ص: 40، 60.
مقدمة الشازلي على مؤطأ بن زياد، ص:71.
* * *
(*) طالب في الدكتوراة بجامعة عليكرة الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37