محليات
الهند في ظاهرها دولة علمانية ديموقراطية؛ بل دستورها رَاعَىٰ جميع الطوائف من سكانها على اختلاف الديانات والتوجهات؛ لكنها المأساة الخطيرة جدًّا أن الأقلية المسلمة فيها عوملت دائمًا بالعصبية؛ ولذلك لاتزال هي أشدّ تخلفاً حتى من الطبقة المنبوذة لدى الهندوس. المسلمون المسحوقون في كل مجال من مجالات الحياة البالغ عددهم في البلاد 180 مليون نسمة، يظنون في أنفسهم أنهم يشكلون 15٪ من مجموع فيطالبون دائماً بحجز مقاعد لهم في المناصب الحكومية على حين إن العاملين منهم في المناصب الحكومية حالتهم تثير عبرة ودرسًا قاسيًا. وقد حدثت في هذا الصدد في الماضي القريب حوادث جديرة بالتأمل والدراسة. والذين كان لهم سابق عهد بالمناصب الرسميّة يعلمون جيدًّا أنه ليس في البلاد مصلحة مجردة من العصبية والكراهية ضدّ المسلمين.
فقبل أن يشهد الزمان تمزيق زيّ شرطي المرور المسلم على مرأى ومسمع من الناس بميدان «وِجَيْ» ببوابة الهند بساحة القصر الجمهوري الهندي بدهلي الجديدة، وقبل الاغتيال الوحشي لكل من الـ«دي إيس بي» ضياء الحق المسلم، والمسؤول الهامّ في الشرطة المسلم محمد رياض، تحمل الميجر السابق في الجيش الهندي المسلم «محمد علي شاه» من الإهانة والإساءة البالغة رغم عمله ضابطاً في اللجنة المخصصة للخدمة القصيرة، ما شكاه فعلاً إلى «لجنة الأقليات».
وهذه الأمثلة أَجْلَتْ أن المناصب والأزياء الرسميّة هي الأخرى لا تغني غناءً. ومن أجل جهله بهذا الاتجاه الخطير المعمول به في البلاد، تجرأ مسؤول في شرطة المرور بدهلي مسلم على أن يوقف شخصًا هندوسيًّا كان على دراجة ناريّة بميدان «وِجَيْ» ببوابة الهند كان يحاول اقتحام موكب نائب رئيس الجمهورية الهندي. وتجرؤه على إيقافه في ظهيرة 10/مارس 2013م في الساعة الثانية، كان غاليًا عليه جدًّا؛ حيث هجم عليه الهندوسي الراكب دراجته من سكان منطقة «كهجري بور» بدهلي الشرقية المدعو بـ«مهندرا سينغ» ومزّق زيّه الرسمي الذي كان يرتديه، وأصابه بجروح!!
فما هي قصة المسؤول الكبير في شرطة «أترابراديش» السيد «ضياء الحق» الذي كان يشغل منصب (D.S.P.) ؟. إن اغتيال المسؤول الكبير في الشرطة في مديرية «برتاب كره» بولاية «أترابراديش» لم يكن اغتيالاً لمسؤول أمين فقط؛ بل إنه اغتيال لجميع محبّي الإنصاف الذين كانوا يرون في «ضياء الحق» شخصية مثالية؛ فلم يرثِ له بيته وأسرته وإنما رثى له كذلك الرواق الإسلامي في جامعة «الله آباد» الذي أنهى نازلاً فيه دراسته العليا.
إن «ضياء الحق» – المسؤول الكبير في الشرطة – البالغ من عمره 30 سنة فقط لدى الاغتيال كان والده «شمس الحق» يعمل عاملاً في مصنع في مدينة «ممباي» وكان ضياء الحق أنهى دراسته الجامعيّة العامّة في مديرية «ديوريا» بولاية «أترابراديش». وعندما لمس في ابنه الرغبة في الدراسة بعثه إلى مدينة «الله آباد» على حين بقي هو في «ممباي» يعمل حتى خارج وقت الدوام؛ حتى يكتسب من المبالغ ما يغطّي به مصروفات ابنه الدراسيّة والسكنية بالجامعة. وقد أثمر إخلاص الوالد «شمس الحق» واجتهاد الابن «ضياء الحق» الذي اختير لصالح خدمة الأمة والوطن في (P.P.S.) وعُيِّن أولاً في مديرية «أمبيدكرنكر» بينما عُيِّن ثانياً كضابط للمنطقة في بلدة «كندا» بمديرية «برتاب كره». كان الضابط المسلم «ضياء الحق» يحلم بأن يكون ضابطاً بمستوى (I.A.S.) وكان يستعد لذلك؛ ولكنه لكونه من الأسرة البائسة، التحق معجلاً بمصلحة الشرطة، ورغم أن المصلحة سيئة السمعة في البلاد؛ ولكنه كضابط في الشرطة أثبت أنه شخص أمين مثاليّ رغم كونه منحدرًا من الأسرة الفقيرة، فظل يجتنب الارتشاء الذي تستحله الشرطة في البلاد، وظل يناصر الحق ويعمل بالعدل والإنصاف، مما أطار صيته وحبّبه إلى جميع المسؤولين الكبار في الشرطة وعامة الشعب الذي مست به الحاجة إلى التعامل معه في غرض من الأغراض، والمسؤولين الذين عايشوه في العمل الذين كانوا يتباهون بأمانته وشعوره بالمسؤوليّة، وكانوا يقدمونه كمثال للبساطة والتواضع، وكان قد توجّه ليحضر مناسبة زواج بدراجة عادية؛ ولكنه احتاج أن يدفع ثمن أمانته ونزاهته بالتضحية بنفسه، إِنَّ الضابط الذي كان قد ذهب لِيُصْلِحَ بين طائفتين كانتا تَتَشَابَكَان تَشَابُكاً دَمَوِيًّا، ذهب هو ضَحِيَّةً لعمله النبيل. إنَّ التفاصيل الواردة بهذا الشأن تُؤَكِّدُ أنَّه قد نُسِجَتْ ضِدَّه مُؤَامَرةٌ شنيعةٌ: إنّ أمير (كُنْدَا) الذي يشغل مَنْصب وزيرٍ في حكومة «أترابراديش» المدعو بـ«ركهوراج براتاب سينغ» المعروف بـ«راجه بهيّا» وأتباعه يُعَدُّون مُتَوَرِّطِين في الاضطراب الطائفي الذي وقع في القرية المجاورة المسماة بـ«أستهان». وكان الضابط «ضياء الحق» يقوم بالتحقيق في ذلك وكما يقول «بروين آزاد» زوجته أنه كان يواجه تهديدات مُتَّصِلةً؛ حيث إن مجموعة «راجه بهيّا» كان لايحبّ أن يأتي تقرير أمين عن الحادث، فظلّت تضغط عليه. وحسبما تقول السيدة «بروين» إن ضياء الحق كان ينقل لديها دائماً ما كانوا يقولون وكان يقول إن أتباع «راجا بهيا» يُمارسون الضغط لكي أعد تقريرا يرضي هواهم؛ لكنه ليس ليقول ما يحبونه. خلال ذلك حدث أن عمدة قرية «بلي بور» «ننهي يادوف» وخصومه تنازعوا على أرض، وأدّى التنازع إلى مقتل «ننهي» وأخيه، ولمباشرة الحادث والتحقيق فيه توجّه الضابط ضياء الحق بمجموعة من الشرطة، فاغتنم أتباع «راجه بهيّا» الفرصة. وكانت مجموعة الشرطة التي تصاحبه تشتمل على خمسة ضباط وعلى عدد من المسؤولين؛ لكنه عندما وصل القريةَ المذكورة وجد نفسه مُفْرَدًا لا يصاحبه أحد من الشرطة؛ حيث انفضّت عنه وهربت إلى حيث لم يَدْرِ بها أحد.
وبعد مضي ساعتين عُثِرَ على جثة الضابط «ضياء الحق» وحسبما تقول التقارير، تناوله المغتالون أولاً بضرب شديد وسحلوه على الأرض لمسافة بعيدة، ثم أطلقوا عليه الرصاص. وحسبما تقول زوجته «بروين آزاد»: إنه أطلقت عليه ثلاث رصاصات؛ ولكن تقرير التشريح، لم يُجْلِ إلاّ إطلاق رصاصة واحدة. والغريب أنه عندما غُيِّب في القرية، انغلق جوّاله، وعندما عُثِرَ على جثته انفتح وبدأ يعمل. وهناك تساؤل حائر يطرحه الناس: لماذا فرّ ا لضباط والمسؤولون في الشرطة المصاحبون لضياء الحق من الموقف؟ وإن الوقت هو الذي سيكشف أن التحقيق الذي تقوم به الـ«سي بي آئي» هل سيسفر عن شيء، أو أنه إنما يتم إجراؤه للاستهلاك فقط ولطيّ الملفّ إثره للأبد.
أما قصة اغتيال المسؤول في الشرطة السيد «رياض حسن» فهي أنه قد اغتيل في صباح يوم 24/يناير 2013م البارد؛ حيث خلف أسرته المنكوبة من 11 شخصًا، تبكيه وتندبه. إنه قام بمسؤوليته على الرصيف الأول من أرصفة محطة دهلي الجديدة في الفترة ما بين 1978-2012م وفي الصباح الباكر عند ما كان المسلمون يتوجهون لأداء صلاة الفجر، قد انتهت عملية قتل المسؤول في الشرطة «رياض حسن» في المدة ما بين الساعة 6 والساعة 6 والدقيقة 25 خلال اشتباك تفجر بينه وبين عُمّال إدارة تزويد الركاب بالأطعمة في القطر. إنه خلال أقل من ساعة مَرَّ بسكان دهلي حادث حيّ لممارسة التعصب الأعمى ضد المسلمين؛ حيث إنه خلال شحنِ قطارِ «شتابدي إيكسبريس» المسافر بين «دهلي الجديدة» و «لدهيانه» بمواد الأطعمة حدث نزاع بين مفتش في إدارة تزويد القطر بالأطعمة وبين مسؤول في الشرطة مسلم اسمه «رياض حسن» فتناوله المفتش بضرب شديد أدّى إلى موته في مكانه. ولم تقع الكارثة في مكان قفر لا داعي فيه ولا مجيب، وإنما وقعت على الرصيف(1) من أرصفة محطة دهلي الجديدة، التي تظل مائجة بالأناسي كل لحظة من لحظات الليل والنهار، ولم يكن ذنب «رياض حسن» إلاّ أنه انتقد أسلوبَ العمل الذي انتهجه عمال إدارة تزويد القطر بالأطعمة؛ حيث بدأوا يحملون المواد على القطار الواقف بالرصيف الأول من المحطة بطريقة غير شرعيّة تتمثل في مخالفة مبادئ الأمن المقررة التي كان الواجب عليهم التقيّد بها؛ حيث لم يختاروا لعبورهم إلى الرصيف الثاني طريق الرصيف المخصص للمشي، وإنما عبروا إليه عبر الخطّ الحديدي؛ ولذلك انتقدهم المسؤول الشرطي «رياض حسن»فاشتبك معه المفتش في إدارة تزويد القطر بالأطعمة المدعو بـ«دهانبات» ولم يكن ليصنع معه هذا الصنيع إذا لم يكن مسلمًا؛ حيث كانت بطاقة اسمه الإسلامي مثبتة على صدره، وتناوله بضرب مبرح ولم يدعه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولإجراء اللازم من الإجراءات القانونية حُمِلَتْ جثة «رياض حسن» إلى مستشفى «الليدي هاردنك» حيث أجمع الأطباء على أنه فارق حياته.
إن «رياض حسن» البالغ من عمره 50 ظل يقوم بالخدمة في الفترة ما بين 1978-1998م في الجيش الهندي، وكان قد عين جنديًّا في مدينة «ميروت». إن «رياض حسن» بن «فياض الدين» استقال من الجندية عام 1995م، ليتعين في الشرطة، ومؤخرًا عين في خدمته في الرصيف الأول من محطة دهلي الجديدة. كان «رياض حسن» ينوي تزويج بناته، وكان يوفر لذلك ما يلزمه من الوسائل والتسهيلات؛ ولكن الموت لم يمهله لذلك، وما إن تسامع أهل قريته بموته حتى صاروا واجمين. والغريب أن أرصفة المحطة كلهامزودة بآلات التصوير التلقائية ذات القدرة القوية، ولكن أيًّا منها لم تلتقط صورة ما للصدام الذي حدث بين المفتش الهندوسي وبين المسؤول الشرطي المسلم، على حين إن الرصيف الأول كان مزودًا بتسع كاميرات، والرصيف الثاني كان مزودًا بكاميرتين، والكارثة وقعت بالرصيف الأوّل، والذي يثير الاستغراب بنحو أشد أن أرصفة المحطة تعمل عليها في الأيام العادية 80 شرطيًّا على الأكثر؛ ولكن الأيام التي حدثت فيها الكارثة كانت أيام 26/يناير الذي تحتفل فيه الهند باليوم الوطني، فكانت قد عينت بشكل استثنائي على الأرصفة 500 شرطي ذوي مستويات مختلفة؛ ولكن أيًّا من هذا العدد الكبير من الشرطة لم يشاهد كارثة قتل المسؤول الشرطي «رياض حسن» بيد مفتش في إدارة تزويد القطر بالأطعمة هندوسي!!.
الإساءة إلى الميجور المسلم السابق:
ولم يقتصر الأمر على قتل هؤلاء الشرطة المسلمين؛ بل هناك قصة مؤلمة تثير تساؤلات عريضة للإساءة إلى المسلم المثقف البارز الذي شغل منصب «الميجور» سابقًا؛ حيث إن طاقم طائرة تناوله بالإساءة الشديدة إليه؛ لأنه كان مسلماً.
إن السيد الميجور «محمد علي شاه» كان قد عمل ضابطاً في لجنة الخدمة القصيرة في الجيش الهندي. حدث معه في يونيو 2012م عندما ركب طائرة من طائرات الـ«إسبائس جيت» في دهلي ليصل إلى مدينة «غوهاتي» عاصمة ولاية «آسام» الهندية، وعندما تبوأ مقعده من الطائرة قال له الطاقم أن ينزل منها ويُعَرِّف بعفشه الذي كان قد مُرِّرَ من ماكينة الفحص، الأمر الذي لم يكن عملاً مُتَّبعًا، فلما وصل إلى عفشه وجده مبعثرًا في كل مكان، قال «محمد علي شاه» إن هذا الموقف إنما مورس معه فقط لأنه كان مسلماً، وإن طاقم الطائرة لم يكتف بتبادل الضرب معه، وإنما تناوله بإساءة لاذعة.
يوم الجمعة 20/يوليو 2012م أحاط «محمد علي شاه» مدير لجنة الأقليات السيد «وجاهت حبيب الله» بما جرى معه من قبل طاقم الطائرة. وتحرك السيد «وجاهت» في هذا الشأن لأن «محمد علي شاه» هو نجل مدير جامعة «عليجراه» الإسلامية حاليًّا، وقد زعم أن طاقم الطائرة ضغط عليه أن يوقع على ورق مكتوب فيه أنه من أجل موقف شاه السَّيِّء الذي تعامل به مع طاقم الطائرة لم يُسْمَح له بركوب الطائرة. وعندما سئل الطاقم عن ذلك تبرأ منه بأسره وقال لم يحدث شيء من ذلك، قائلاً: إن موقفه قد ساء جدًّا عندما أُمِرَ بالتعرف على حقائبه، ولم يستعد أن يساعد الطاقم على ذلك، ولم يكتف بذلك بل إنه بدأ يلتقط صورًا لمبنى المطار بنحو غير شرعيّ.
لا تُجْمِع فقط المنظمات الإسلامية وحدها؛ بل منظمة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، أن الهند قد كثر فيها التعامل السيّء مع المسلمين على أساس كونهم مسلمين. بينما يقول قادة الأحزاب السياسيّة إن العلمانية متجذرة في تراب الهند، وإن المتعصبين والطائفيين لن يغيروا طبيعتها مهما حاولوا.
ولكن الواقع يردّ مزاعمهم؛ حيث إن العصبية قد تعمقت وتوسعت في الأعوام الأخيرة بنحو خطير جدًّا، والقادة والساسة ليس لديهم أي خطّة عملية لعلاجها واستئصالها، مما يُـخَوِّف المسلمين على مصيرهم في البلاد، من حيث كونهم أمة لها هوية ولها رغبة جامحة في العمل بدينها وثقافتها. (مقال «إيس إي ساكر» صحيفة «منصف» الأردية اليومية، الصادرة بمدينة «حيدر آباد» الهندية، ص4، العدد 84، السنة 37، الثلاثاء: 13/جمادى الأولى 1434هـ = 26/مارس 2013م).
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1434 هـ = يونيو – يوليو 2013م ، العدد : 8 ، السنة : 37