أشهر الدعاة في العصر الحديث السيد محمد بن علي السنوسي وخلفاؤه والدعوة السنوسية

دراسات إسلامية

بقلم: أ. د. محمد إبراهيم الجيوشي

       السيد محمد بن علي السنوسي مؤسس الدعوة السنوسية، ولد في قرية واسطة بالقرب من مستغانم بالجزائر عام 1202هـ – 1800م في بيت عريق في المجد الإسلامي يتصل نسبه بالحسن بن علي – رضي الله عنهما – ويعرف رحمه الله بالسنوسي الكبير.

       عرف منذ صغره بحبه للعلم، وأخذ نفسه بطريق الأتقياء الصالحين في سلوكه وأخلاقه وتعامله مع الآخرين.

       وفي أيامه الأولى تلمذ على عدد من شيوخ بلدته، ثم تطلعت نفسه إلى اكتساب المزيد من العلم فرحل إلى فاس بالمغرب حيث تلقى العلم على شيوخ القرويين لمدة سبع سنوات اتجه فيها إلى التصوف ودراسة قيمه، ومناهج شيوخه ورجاله وفي خلال إقامة الشيخ في فاس اكتسب شهرة واسعة، ونال ثقة طلابه بما رأوه من غزارة علمه وإخلاصه وتقواه.

       وبعد أن تم له ما أراد في القرويين اتجه إلى جنوب الجزائر مدرساً وداعياً وناشرًا للعلم ضارباً المثلَ بالاستقامة والقدوة والصلاح والتفاني في إصلاح الناس. ولم يطب له المقام بالجزائر، ووجد أنه لن يستطيع تحقيق ما بدأ يعتمل في نفسه من إيقاظ المسلمين، ودعوة العالم الإسلامي إلى الوحدة، والوقوف صفاً واحدًا، أمام الزحف الاستعماري والأطماع الغربية في بلاد المسلمين، فاتجه إلى طرابلس داعياً ومدرساً وموقظاً للمسلمين، ثم بدا له أن يزداد معرفة بالعالم الإسلامي، فرحل إلى مصر، واتجه إلى الأزهر معلماً ومتعلماً، ثم شد الرحال إلى بيت الله الحرام حاجّاً، واستقر بمكة مدة من الزمن، واختلط بعلماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلقى عنهم، فازداد علماً، ووقف على قضايا العالم الإسلامي بصورة أوضح من خلال لقائه بوفود الحجيج في مواسم الحج وحدث أن نشب خلاف بين الشيخ أحمد بن إدريس أحد أساتذة الشيخ السنوسي بمكة وبعض علماء المالكية رحل الشيخ ابن إدريس على أثر هذا الخلاف إلى اليمن فصحبه الشيخ السنوسي، وظل باليمن حتى تُوفي الشيخ أحمد بن إدريس فعاد السنوسي إلى الحجاز وكان قد استقر في ذهنه الخطة التي سيعمل من خلالها لتنفيذ منهجه الدعوي، والعمل على إيقاظ العالم الإسلامي، من خلال الزوايا التي أخذ في إنشائها، وعمل على أن تكون مراكز علم وعمل وإعداد للأجيال وتربية لشباب المسلمين على الجهاد إلى جانب اكتساب السلوك الإسلامي الصحيح والأخذ بأخلاق الإسلام في كل مناهج الحياة، وتدريب المنضمين إلى هذه الزوايا على العمل في الزراعة والصناعة وإصلاح الأرض وتحويل الصحارى إلى مزارع وواحات وكان ذلك في عام 1252هـ، ويمكن اعتبار هذا التاريخ البداية العملية لنشأة الدعوة السنوسية، وظل بالحجاز بعد ذلك ثلاث سنوات أنشأ فيها عددًا آخر من الزوايا. ويلاحظ هنا أن الشيخ السنوسي طور فكرة الزوايا التي كان يتخذ منها الصوفية أماكن للإقامة والطعام والشراب والانقطاع عن النشاط الإنساني العام ما عدا التفرغ للعبادة فقد طورها وجعلها مراكز للإعداد والتوجيه والتربية والتعليم والتدريب على الجهاد واستفادة الخبرات الصناعية والزراعية.

       ثم غادر الحجاز؛ ولكنه لم يتمكن من الذهاب إلى الجزائر لاحتلال الفرنسيين لها قبل هذا التاريخ بوقت قصير، فولى وجهه شطر فاس، وأخذ يمارس الدعوة إلى منهجه الجديد، ولكن الحكومة هناك آنذاك نظرت إلى نشاطه بقلق فضيقت عليه الخناق، فتوجه إلى طرابلس الغرب، وهناك أخذ في تنفيذ خطته فأنشأ الزاوية البيضاء في الجبل الأخضر عام 1259هـ وكانت تسمى أم الزوايا، ومن خلال إقامته في طرابلس أخذ في الإسهام في ثورات الجزائر ضد الفرنسيين، وتابع السيد السنوسي نشاطه في أنحاء البلاد الليبية برقة وطرابلس، وأنشأ عددًا من الزوايا واتسعت الدعوة وصار لها أتباع في كل قرية وقبيلة وانتقل الشيخ السنوسي إلى واحة جغبوب، ويعلل الأمير شكيب أرسلان سبب انتقاله إلى جغبوب، فيقول كان السيد محمد رجلاً شديد الهيبة، بعيد الهمة، عظيم الاقتدار على التنظيم والإصلاح، فقصده الناس أفواجاً من كل صقع من الأصقاع الأفريقية الشمالية، بيد أنه لم يمض غير اليسير من الزمن، حتى باتت الحكومة التركية في طرابلس تخشى أمره، وتقوم وتقعد لشأنه، فساءت العلاقات والشؤون بينه وبينها، فنقل مقامه إلى واحة «جغبوب» الواقعة للجنوب من صحراء ليبية، وجعل مقره هناك، ولما توفى سنة 1859م كانت الطريقة التي أنشأها قد انتشرت انتشارًا عامًّا في معظم الرقعة الأفريقية الشمالية وتاريخ وفاة الشيخ بالهجري 1276هـ.

       السيد المهدي الخليفة الأول:  لما تُوفى السيد محمد السنوسي كان ابنه لايزال صغيرًا، فأقيم مجلس وصاية من عشرة شيوخ للعناية بأمر الدعوة حتى يبلغ السنوسي المهدي، ويروي الأمير شكيب أرسلان قصة ذات مغزى عن سبب تولي السيد المهدي قيادة الدعوة بعد أبيه على الرغم من أنه لم يكن أكبر أبنائه وخلاصة هذه القصة أن السنوسي الكبير كان له ولدان هما الشريف والمهدي أصغرهما، وأراد أبوهما أن يختبرهما ويتعرف مدى استعداد كل منهما وكانا لايزالان صغيرين فدعاهما أمام جمع من أهل الزاوية وأمرهما بأن يتسلقا نخلةً باسقةً فلما بلغا قمتَها استحلفهما بالله ورسوله الكريم أن يهويا في الحال بنفسيهما إلى الأرض، فهوى المهدي بنفسه وأدرك الأرض سالماً ولبث الآخر في قمة النخلة، فقال السيد لمن حوله «الخلافة من بعدي إنما هي لولدي هذا المهدي الذي لم يتردد في تسليم نفسه لمشيئة الله عز وجل».

       والسيد المهدي ولد في الزاوية البيضاء، ولماتسلم قيادة الدعوة قام بها على خير وجه وسار على طريقة أبيه وبلغت الدعوة في عهده أقصى ازدهارها، وقد رأى السيد المهدي أن ينقل مركز الدعوة إلى واحة الكفرة جنوب الجغبوب؛ لأنها كانت ملتقى القوافل من جميع أنحاء أفريقيا الوسطى والشمالية(1).

       وكانت القوافل والتجار الذين يلتقون بواحة الكفرة سببا في نشر الإسلام في جهات أفريقيا النائية، وأرسل السيد المهدي دعاته إلى أنحاء أفريقيا، حتى استشعر الأوروبيون مدى خطر الدعوة السنوسية أيام السيد المهدي على نفوذهم في أفريقيا، فشكوا إلى السلطان عبد الحميد، وأخذ الأوروبيون يضغطون على السلطان ليستدعي المهدي إلى الآستانة، ويأمره بالإقامة فيها، ولا يسمح له بالعودة إلى وطنه، وكان السلطان يماطلهم، وينتحل المعاذير، واهتم السيد المهدي بعمران الكفرةحتى صارت جنة وارفة الظلال في أعماق الصحراء، وكان من أسباب انتقاله إلى الكفرة إلى جانب ما سبق أن سقناه أنه أراد أن يوغل في الصحراء ويكون بعيدًا عن نفوذ الدول الاستعمارية، وكان بجهوده ودعاته المزاحم الأكبر لجمعيات المبشرين الأوروبيين المنتشرين في أفريقيا، وعلى يدي السيد المهدي وبسبب دعايته النشطة ودعاته الذين أرسلهم إلى أعماق القارة الأفريقية اعتنق الإسلام الملايين من الزنوج من سكان بلاد النيجر والكونغو والكاميرون وديار بحيرة تشاد، ولهذا ضجت جمعيات المبشرين وأخذت تشكو حزنها وتبث أساها من نجاح الإسلام في أواسط أفريقيا وعن مسلك السيد المهدي يقول الأمير شكيب أرسلان: «فقد كان السيد المهدي يهدي هديَ الصحابة والتابعين»، لا يقتنع بالعبادة دون العمل، ويعلم أن أحكام القرآن محتاجة إلى السلطان، فكان يحث إخوانه ومريديه دائما على الفروسية والرماية، ويبث فيهم روح الأنفة والنشاط، ويحملهم على الطراد والجلاد ويعظم في أعينهم فضيلة الجهاد، وقد أثمر غراس وعظه في مواقع كثيرة لاسيما في الحرب الطرابلسية التي أثبت بها السنوسية أنهم قوة مادية تضارع قوة الدول الكبرى وتصارع أعظمها جبروتاً وكبرًا، وليست الحرب الطرابلسية وحدها هي التي كانت مظهر بطش السنوسيين، بل سبقت لهم حروب مع الفرنسيين في مملكة كام ومملكة واداي من السودان استمرت من سنة 1319 إلى 1332هـ(2) يعني أربعة عشر عاماً.

       وكان السيد المهدي عنده خمسون بندقية خاصة به، كان يتعهدها بالمسح والتنظيف بيده، يفعل ذلك متعمدًا ليقتدى به أتباعه ويهتموا بأمر الجهاد.

       وكان يخصص يوم الخميس من كل أسبوع للأعمال اليدوية فيترك الطلاب الدراسة، ويشتغلون بأنواع المهن من بناء ونجارة وحدادة ونساجة وصحافة، وكان السيد المهدي يشاركهم ليبعث فيهم النشاط والمنافسة.

       وكان يوم الجمعة مخصصاً للتمرينات الحربية، من طراد ورماية، وكان طلبة العلم نتيجة لذلك فرسانا ورماة لكثرة ما يأخذهم به من المران.

       ولم يكن أمر الزراعة بأقل شأناً مما سبق، فكان السيد المهدي وأبوه من قبله يعملان على تحويل الصحراء إلى جنات، فكانت الزوايا تحيط بها البساتين وتزرع فيها أصناف الأشجار المستقدمة من أقصى البلاد، إلى جانب الاهتمام بتأمين المياه للشرب والزراعة فكانوا يحفرون الآبار ويتعارفون على أماكن العيون في جوف الصحراء يقيمون من حولها زواياها حتى إن الأمير شكيب أرسلان قال إنه قام مع غيره برحلة من الإسكندرية إلى بنى غازي في الصحراء في طريق يعرف بالطريق السطاني، فكانوا يجدون زاوية من حولها البساتين والآبار كل ثلاث ساعات أو أقل عدا الزوايا المنبثة في أماكن أخرى بعيدا عن الطريق.

       وقد بلغ عدد الزوايا في أيام السيد المهدي 146 زاوية وكان السيد المهدي يشجع الشباب على الجد والعمل فكانوا يسألونه أن يعلمهم الكيمياء، فيقول لهم، الكيمياء تحت سكة المحراث، وأحيانًا يقول، الكيمياء هي كد اليمين وعرق الجبين، وكان يدعو إلى الحياة العملية، ويقول «يكفيكم من الدين حسن النية والقيام بالفرائض الشرعية، وليس غيركم بأفضل منكم، وظل هكذا داعياً عاملاً موجهاً قدوة في العلم والعمل والسلوك الأخلاقي حتى لقي ربه راضياً مرضيًّا عام 1902م(3).

الدوافع التي دعت السنوسي الكبير إلى القيام بدعوته

       أثر عن السنوسي الكبير – رحمه الله – كلام سجل فيه الأسباب التي دفعته إلى القيام بدعوته والعمل على نشرها فقال:

       أفكر في العالم الإسلامي، فعلى الرغم من سلاطينه وأمرائه ورؤسائه وعلمائه، فهم لا يزيدون عن أن يكونوا كقطيع من الغنم لا راعي له، في كل محال من محلات الإسلام تجد المسلمين وعلماء الدين، ولكنك لا تجد في العالم الإسلامي مرشدًا حقيقيًّا تكون غايته سوق الجميع إلى هدف واحد؛ ولكن الخلاف والتفرق قد سادا جميع النواحي؛ لأن العلماء والمشايخ ليست لهم غيرة دينية حتى ينشروا العلوم والمعارف، انظروا أحوال أهل السودان والصحراء تجدوا أمواجاً من الشعوب يعبدون الأوثان، ويوجد في كل مسجد من مساجد المعمورة جماعة من العلماء غير العاملين، ولا هم لهم غير راحة أجسادهم، حريصين على لذاتهم، غير قائمين بواجباتهم، لا ضمائرهم تؤنبهم على إهمالهم إرشاد هؤلاء المساكين، وقد اتصل بنا خبر أحوال العالم الإسلامي من القوافل التي ترد إلى بلادنا، وإننا مغلوبون في كل محل وأن المقاطعات والخطط المعمورة تذهب من أيدي المسلمين في كل وقت وبسرعة البرق، فالإسلام في حالة من التدهور المخيف وقد فكرت فيه.

       من هذا النص نتعرف أن الدوافع التي دعت السنوسي ليقوم بدعوته هي:

       1 – الفرقة وعدم الاتحاد بين قادة المسلمين وعلمائهم.

       2 – عدم وجود دعاة حريصين على تبصير الناس بدينهم.

       3 – انعدام الغيرة الدينية عند العلماء والشيوخ.

       4 – الانصراف إلى خدمة الذات وعدم الاهتمام بالمسلمين.

       5 – تغلب أعداء المسلمين على بلادهم وانتزاعها منهم.

       انطلاقاً من الإحساس بواقع المسلمين السيئ الذي شخصه السنوسي في كلماته السابقة فإنه أخذ يضع الأسس لدعوته التي يحاول أن يجمع الناس من حولها ليسترد المسلمون حقوقهم، وتعود إليهم مكانتهم، وقد وضع أسسا أربعة لدعوته.

       1 – العودة بالإسلام إلى منابعه الأولى.

       2 – فتح باب الاجتهاد.

       3 – نشر الإسلام في البلاد التي لم ينتشر بها.

       4 – مقاومة النفوذ الأجنبي والتصدي له حتى لا تقع بلاد المسلمين ومقدراتهم لقمة سائغة في أيديهم.

السيد أحمد الشريف السنوسي

       هو خاتم المجاهدين من هذه الدوحة المباركة دوحة السنوسية الذين قاموا على خدمة الإسلام والمسلمين وقد آلت إليه قيادة الحركة السنوسية بعد وفاة عمه المهدي عام 1902م، فنهض الرجل بعبء الدعوة وإعداد الرجال على خير وجه، وكافح القوى الاستعمارية من فرنسيين وإيطاليين وإنجليز وكانت له مواقف مشهودة تحتاج إلى مجلد ضخم لتسجل مواقف ذلك الرجل العظيم وجهاده، وقد كتب عنه الأمير شكيب أرسلان فقال: هو خاتمة مجاهدي الإسلام إلى هذا الوقت.. ولولا السيد أحمد الشريف – رحمه الله – لكانت إيطاليا استصفت قطر طرابلس وبرقة من الشهر الأول من غارتها الغادرة عليهما، وإننا لانزال نتذكر كلام القواد ورجال السياسة الأوروبية عن الحملة الإيطالية يوم جردتها على ذينك القطرين إذ قال بعضهم: إن إيطاليا ستقبض على ناصية الأمر وتستكمل هذاالفتح، في مدة خمسة عشر يوماً، وقال أشدهم تشاؤماً وأقلهم تخيلاً وأبصرهم بأمور الشرق، وهو اللورد كتشتز المشهور إن هذاالفتح الذي يستسهله الناس على إيطاليا أمامه من الصعوبات أكثر مما يظنون وقد يستغرق ثلاثة أشهر بالأقل فليتأمل أولوا الألباب كيف أن هذه الأشهر الثلاثة امتدت عشرين عاماً ورزأت الدولة الإيطالية بمائة وخمسين ألف عسكري قتلى عدا الجرحى، وبثلاثمائة مليون جنيه من الذهب الوضاح.

       وقد واجه السيد أحمد الشريف السنوسي هذه القوة الغادرة وحاول الاستعماريون استمالته وخطب وده ولكنه اعتصم بإسلامه ودينه الذي نذر حياته من أجله، وظل يحارب حتى كاد يقع في الأسر، وبعدها ذهب إلى «تركيا» في غواصة ركبها من شواطئ البحر الأبيض وظل في «تركيا»، وعرضت عليه الخلافة فأبى ولما تحولت «تركيا» إلى العلمانية كادوا له وطلبوا خروجه منها، فاتجه إلى «سوريا»ثم إلى الحجاز وظل هناك حتى لقي ربه عام 1933م فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا بما قدم من قدوة حسنة ومثال فذ لشباب المسلمين كي يحذوا حذوه ويعيدوا لأمتهم مجدها.

*  *  *

الهوامش:

راجع حاضر العالم الإسلامي ج1، ص295، 296، الطبعة الثالثة.

راجع حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص162.

راجع حاضر العالم الإسلامي، ج6، ص146.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1434 هـ = أبريل – يونيو 2013م ، العدد : 6-7 ، السنة : 37

Related Posts