حادث الهجرة سيظل محيرًا لجميع العقلاء الذين يعتمدون على مجرد العقل

كلمة العدد

          يهلّ علينا شهر المحرم ليذكرنا بالحدث الإسلامي الكبير الخطير الذي غيّر مجرى التاريخ، وحيّر جميع العقلاء الذين عاشوه وعاصروه وسيظلّ يحير العالمَ ما دامت السماوات والأرض؛ لأنّه يمثل مواقف عجيبة طريفة كلما يقرؤها ويذكرها المؤمن يلذّها، ويعتبر بها، ويدهش منها ويتخذ منها دروساً لا تنتهي وعبرًا لا تنقضى.

       ويحلو لنا أن نذكر بالمناسبة قصة الهجرة كما وردت في كتب السيرة.

قصة المؤامرة في دارالندوة ليلة الهجرة:

       عن ابن عبّاس – رضي الله عنهما – قال: اجتمعت قريش في «دارالندوة» في يوم يُسَمَّى «يوم الزحمة» ليتشاوروا في أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعدما هاجر من هاجر من أصحابه إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة، فاعترضت إبليس – لعنه الله – في صورة رجل جليل، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفاً على بابها، قالوا له: مَنِ الشيخُ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم من أجله، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يَعْدَمَكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل، فادخل. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشرافُ قريش.

       فقال بعضهم لبعض: إنّ هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بِمَنْ قد اتبعه من غيرنا؛ فأجمعوا فيه رأياً.

       قال ابن عبّاس: فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: اِحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربّصوا به حتى يموت.

       فقال الشيخ النجديُّ – وهو إبليس عليه اللعنةُ – لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم. ما هذا لكم برأي.

       فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنّا، فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنّا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

       فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله إن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحلّ على حيّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليك حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديرا فيه رأياً غير هذا.

       فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.

       قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

       قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كلَّ فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضِرْبَةَ رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها؛ فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً؛ فرَضُوا منّا بالدية، فدفعناها لهم.

       قال ابن عبّاس: قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا أرى غيره.

       فتفرّق القومُ على ذلك، وهم مُجْمِعُون على هذا الرأي.

       فأتى جبريل – عليه السلام – رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تَبيت عليه.

       قال ابن عبّاس: فلمّا كانت عتمة الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه.

       فلما رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكانَهم بالباب، قال لعلي بن أبي طالب: «نَمْ على فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا الحضرميّ الأخضر، فنم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم». وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينام في برده ذلك إذا نام.

       ثم خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم نثرها على رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات: «يٰس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَـمِنَ المرسلين على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

       إلى قوله تعالى:

       «وَجَعَلْنَا مِنْم بَيْنِ أَيْدِيْهِم سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»(سورة يس/1-9).

       وَلَمْ يَبْقَ منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.

       فأتاهم آتٍ ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. فقال: خيّبكم الله، قد خرج والله عليكم محمد، وما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع التراب على رأسه، وانطلق لحاجته. أفما ترون ما بكم؟.

       قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب. ثم جعلوا يتطلعون من ثقب من الباب، فيرون عليًّا على الفراش مُتَسَجِّياً ببرد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام عليّ عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صَدَقَنَا الذي كان حَدَّثَنا.

       قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له، قوله تعالى:

       «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ» (الأنفال/30).

       عن عروة بن الزبير، عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: كان لايخطئ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يأتي بيتَ أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإمّا عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أُذِنَ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.

       قالت: فلما رآه أبوبكر، قال: ما جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الساعة إلاّ لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخّر له أبوبكر. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَخْرِجْ عني مَنْ عندك. فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك – فداك أبي وأمي – فقال: إنّ الله أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبوبكر: الصحبة يا رسول الله!. قال: الصحبة.

       قالت: فوالله ما شعرتُ قطّ قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيتُ أبابكر يبكي يومئذ. ثم قال: يا نبي الله! إن هاتين راحلتان قد كنتُ أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أريقط من بني الديل ابن بكر – وكان مشركاً – ليدلّهما على الطريق.

       قال ابن إسحاق: ولم يعلم بخروج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد حين خرج إلاّ علي بن أبي طالب وأبوبكر الصديق وآل أبي بكر.

       أمّا عليّ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الودائع التي كانت عنده للناس.

       وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده؛ لما يعلم من صدقه وأمانته – صلى الله عليه وسلم – .

كانت الهجرة أمرًا ربانيًّا وتقديرًا إلهيًّا قبل أن تكون تدبيرًا بشريًّا:

       و من الخطأ الفاحش أن يظن أحد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان ينتهز الفرصة ليهاجر خفية خوفاً من مشركي مكة وتجنباً أن يبطشوا به – صلى الله عليه وسلم – وكذلك يخطئ الخطأ كلَّه من يرى أن حبّنا الزائد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الذي يجعلنا نعتقد أن هجرته التي تمت خفية لم تواكبها ذرة من الخوف؛ ذلك لأن هجرته – صلى الله عليه وسلم – لم يكن أمرها بيده – صلى الله عليه وسلم – لأنها كانت تقتضي إذناً مسبقاً بها من قبل الله تعالى الذي بعثه في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وبدون هذا الإذن الإلهي لم تكن لتتم مهما اشتدت مشقة إقامته بمكة بين ظهراني مشركيها؛ ولهذا ظلّ – صلى الله عليه وسلم – ينتظر الإذن الإلهي؛ فليس من الصواب في شيء أن يظن أحد أن الإعداد البشري للهجرة هو الذي ضمن لها النجاح؛ لأن البشر ربما يخططون ويقدرون لما هم مقبلون عليه من الأعمال؛ ولكن النتائج تأتي مخالفة لما خططوا وقدروا ورتّبوا أنفسهم عليه؛ لأن تخطيطهم وترتيبهم لايحظيان بالعناية الإلهيّة؛ ولكن الأمر اختلف عن ذلك كل الاختلاف في هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ لأنها لم تكن محض اختيار منه – صلى الله عليه وسلم – وإنما كانت أمراً وتكليفاً من الله – عز وجلّ – فتمت كما أرادها الله – تعالى – في الوقت الذي أرادها فيه.

       فلم يأمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة إلاّ بعد ما تمكن أصحابه جميعاً من الهجرة واستقروا بالمدينة، ولم يبق بمكة إلاّ مستضعف مغلوب أو مفتون ممن لم يكن يتجاوز عددهم الأصابع.

       ولم يأمره – تعالى – بالهجرة من مكة إلاّ عندما شاءت حكمته؛ حيث علم – تعالى – أن مكة لن يؤمن فيها إلاّ من آمن، وأنها صارت لحين مستعصمةً بالكفر متمسكة بالشرك، وأكّد – تعالى – ذلك لنبيه – صلى الله عليه وسلم – في الآيتين من كتابه: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ» (الصافات/174) «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ» (الصافات/178).

       يعني تعالى أنك بعد هذه الفرصة الطويلة التي بذلتَها في دعــوتهم إلى الله – تعالى – لستَ ملوماً – يا حبيبي – على ترك هؤلاء المشركين المكيين؛ لأنك قد أديت نحوهم الواجب، فدعهم إلى وقت يكون لك معهم شأن. ودلّت الآيتان على أن بقاءه – صلى الله عليه وسلم – بعد هذه الفترة الزمنية بمكة لا معنى لها؛ لأن الدعوة الإسلامية ليست للمكيين وحدهم؛ وإنما هي لهم ولغيرهم في العالم كله.

       ثم نزلت الآية الكريمة: «وَقُلْ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا» (الإسراء/80).

       فأمره الله أن يدعو بهذا الدعاء، ليجعل – تعالى – له  – صلى الله عليه وسلم – فرجاً فريباً مما هو فيه، فأذن له بالهجرة إلى المدينة؛ حيث سبقه إليها أصحابه الذين هاجروا إليها على توجيه ورضى منه – صلى الله عليه وسلم – .

       وإذا كانت الهجرة أمرًا إلهيًّا وتكليفاً ربَّانيًّا، فإن ذلك لا يعني أن يخلد الإنسان إلى ترك الأمور تجري كما تجري، بل يجب أن يعد العدّة حسب ما يستطيع، ويختار ويحتاط، ويظلّ يقظاً واعياً مدبرًا، يصدر في أمره عن التوكل على الله والثقة بنصره، ويجتنب في الوقت نفسه التواكل الذي يدعو لترك الجهد والعمل.

       إنّ حادث الهجرة خير مثال للحكمة الإلهية والعناية الرّبانية في جانب والتدبير البشري في جانب آخر؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – يدبران ويختاران ويحتاطان، ويتخذان ما ينبغي أن يتخذه الحكيم الذكي لإنجاح خطة عظيمة حاسمة مصيرية فاصلة، فيتم إعداد الرواحل للسفر مسبقاً، واستئجار دليل يعرف الطريق معرفة دقيقة وهو عبد الله بن أريقط، وترتيب من يحمل الزاد في الغار، ومن يُعَفِّى آثار قدميهما حتى لا تهتدي قريش إلى مكان لجوئهما في الغار، ويتم اللجؤ موقتاً إلى الغار للتضليل والتمويه، وقريش تستقدم الأدلاء الأذكياء قصاصي الأثر ليتتبعوا آثارهما ويعرفوا مكانهما؛ ولكن العناية الإلهيّة تخيب قريشاً، وتفشل كل مجهود تبذله في الظفر بمحمد وصاحبه، فالعنكبوت ينسح بيته عاجلاً على باب الغار، والحمامتان تضعان بيضتين على فم الغار، مما أكّد أن الغار ليس به أحد.

       مشركو مكة لم يهدأ لهم بال بعد ما ضاعت عليهم فرصتان «ذهبيتان» لقتل محمد – صلى الله عليه وسلم – فرصة خروجه من داره وفرصة لجوئه مع صاحبه في الغار؛ حيث كانت آثار الأقدام تنتهي إلى فم الغار؛ ولكن العناية الإلهية منعتهم عن دخوله عن طريق نسج العنكبوت بيته عليه، و وضع الحمامتين بيضتين عليه، مما أكد لهم أن ذلك أمر يحتاج إلى وقت طويل، فلو دخل الغار أحد من البشر، لما كان نسج العنكبوت ولا وضع الحمامتين للبيضتين، فاتخذوا خطة أخرى وجرّبوها وأعلنوا أن من يأتيهم بمحمد حيًّا أو ميتاً فله مئة ناقة، وتسمّع الإعلانَ سراقةُ بن مالك، فتعقّب بفرسه محمدًا وصاحبَه ليظفر بالجائزة الغالية إلى جانب الشهرة الواسعة، وظاهرُ الأمر كان يؤكد أنه سيظفر بمحمد وصاحبه وسيقتلهما، لأن لديه سيفاً بتّارًا، ورمحاً طاعناً، والنبي وصاحبه أعزل من السلاح؛ ولكن فرسه كَبَا مرتين وغاص في الرمال بدون مقدمات، فتشاءم وأدرك أن النبي تحرسه قدرة خارقة وأنه نبي معصوم في الواقع، فينادي عليه وعلى صاحبه: أنظراني فإني لا أتعرض لكما بسوء، وسأضلّل أهل مكة عن طريقكما، مقابل عهد من الرسول: إذا نصره الله وعاد إلى مكة ألاّ يتعرض له بسوء.

       إنّ حادث الهجرة معجون بالحكمة الإلهية والتخطيط البشري كليهما، وسيظل دليلاً ما دامت السماوات والأرض على أنّ التوكّل على الله ينجح وينفع إذا صاحبه الجدّ والعمل والتخطيط الحكيم والصبر والثبات على الطريق والتمسك بالمبدإ. وسيظلّ درساً لكل دارس، ونبراساً لكل عامل، ومنارة نور لكل داعية إلى الحق، ومددًا لكل باحث، ورافداً لكل كاتب، وموضوعاً دسماً لكل مؤرخ، وموضع عبرة لكل مفكر يقارن بين الأسباب والمسببات، والمقدمات والنتائج.

       وفوق ذلك سيبقى أسوة حسنة لكل مسلم يودّ أن يأتسي برسوله – صلى الله عليه وسلم – في كل قول وفعل.

(تحريرًا في الساعة 8 من صباح يوم الأربعاء: 6/محرم 1434هـ = 21/نوفمبر 2012م)

نور عالم خليل الأميني

nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37

Related Posts