الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
وكذلك ، فقد تعودنا ابتداع تقاليد وطقوس على كل خطوة في حياتنا الاجتماعية الفردية ، بما فيها مناسبات الزواج ، التي نرى أنها لاتتم إذا لم نتبع التقاليد والطقوس ، وهي تنطوي على أضرار ومفاسد لاتُعَدّ ، ولستُ بسبيل إحصائها ههنا ؛ ولكن لا يسعني إلاّ أن أؤكد أن المسلمين لم يصابوا بهذا القدر من الدمار ، إلاّ بسبب تبنيهم هذه الطقوس والتقاليد ؛ لأن دخولهم محدودة جدًّا كما يعلم الجميع ، أما الإنفاق الذي تقتضيه التقاليد وترغمهم عليه يعلمه الجميع كذلك ، وأدّى ذلك إلى ما لم يكن بدّ منه ؛ حيث يحتاجون إلى اليوم إلى رهن الأراضي ، وتُصَادَر غدًا منازلهم، ويتم بيع الأثاث والحلي بعد الغد بالمزاد العلني ، وفي اليوم الرابع يصبحون ولا شيء عندهم . ويقول بعض الناس : إنهم في سعة من العيش ، ولا يحتاجون إلى الاستقراض ؛ ولكني أولاً لا أسلّم هذه المقالة ؛ لأن كل ذي سعة يهوى الإنفاق فوق ما تسمح به سعته ؛ فيضطر أن يستدين . ولو سلمنا أنه لايضطر إلى الاستدانة ، فيتعين عليه أن يراعي على الأقلّ إخوانه الفقراء ، الذين يندفعون وراءهم مقلّدين إيّاهم ومحاكين صنيعهم ، فيلحقهم أذى لم يكن ليلحقهم إذا لم يحاكوهم حاذين حذوهم ؛ فينبغي لذوي السعة أن لا يقدموا على ذلك نجاةً بالفقراء ، وثانيًا : ينبغي أن يحترزوا من ذلك لأنه معصية ، وإن لم يروا فيه مضرة دنيوية .
تقاليد الأحزان
وكذلك تقاليدُ الأحزان ؛ حيث يُرْتَكَبُ فيها ما يُرْتَكَبُ جريًا وراء الشهرة ، ولا يُوْتَىٰ ابتغاءَ وجه الله تعالى ؛ لأنه إذا كان الغرض ابتغاء وجه الله لقاموا به اختفاءً ، وما اهتمّوا بإظهاره وإعلانه؛ فعُلِمَ أنه ليس الغرض إلاّ الشهرة ، ويمكن اختبار ذلك بأنه إذا اُمِرَ المتقيد بشيء من هذه التقاليد أن يوزّع خمسين روبية على عشرة مساكين بدلَ أن ينفقها فيما يحبّه من التقاليد ، وأن لايخبر بذلك أحدًا من الناس ؛ فلن يرضى بذلك ، ظنًّا منه أن الخمسين روبية تضيع سدى، وسيقول : ما أغرب ما يأمر به هذا العالم من أن أنفق الخمسين ولا أخبر بها أحدًا من الناس . فتلك هي حالة الناس ، ومع ذلك يقولون : إن العلماء ينهون عن إهداء الثواب للموتى . أفرأيتم إذا كسبتم الثواب حتى تهدوه للآخرين ؟! ألا ! إن العلماء يدلّونكم في الواقع على ما تنالون به الثواب وتهدونه إلى الآخرين ، ولا يمنعونكم عن كسب الثواب كما تزعمون . فإهداءُ الثواب سبيلُه أن تهدوه باليمين بشكل لاتعلمه شمالكم، ثم الواجب أن تنفقوا من مالكم الحلال ، ولا تنفقوا المال الذي يرثه البالغون والذين لم يبلغوا من الورثة ، فلو أنفقتم وجب عليكم أن تقوموا بتوزيعه بينكم حسب ما أمر به الشرع ، فأنفقوا ما يكون نصيبكم ولاتنفقوا الأنصبة المشتركة . فذلك هو الطريق الصحيح للفوز بالثواب ، وما يتبعه الناس ليس طريقًا إلى ثواب . إن الناس يودّون أن يكسبوا الشهرة ولا يُحْرَموا الثوابَ ، فلا ثواب مع الرياء ، لأنه المؤدي إلى العذاب .
هذه إشارة إلى الدلائل العقلية . أما الدليل النقلي ، فقد دلّ النبي ﷺ على الطريقة المرضية في الشرع للزواج ، وذلك بتزويجه بنته سيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، وكذلك دلّ على الطريق المسموح به للحزن ، عندما حزن على ابنه إبراهيم رضي الله عنه ، فلو لم نتبع الطريقين ، وتدخّلنا فيهما بأهوائنا ، وثقل علينا ما يوافقهما ، لدلّ ذلك على أننا ما رضينا بإطاعته ، ولم تثبت أننا نحبه ﷺ ، لأن اتباع سنته شق علينا ، ومخالفة سنته سهلت علينا ، فأين الحبّ الذي ندعيه ؟.
الطرق غير الشرعية لإهداء الثواب :
لكسب المال اخترع كثير من الناس بذكائهم طرقًا لإهداء الثواب ، لا يعلمها غيرهم من العوام ؛ فقرروا مثلاً : أن تُقرأ أولاً : قل هو الله أحد ، ثم تقرأ تبارك الذي بيده الملك ، ثم تقرأ سورة كذا وسورة كذا . ثم قرروا أن تقرأ بسم الله في بداية بعض السور ، ولا تقرأ في بداية بعضها . فذلك شيء لايعلمه حتى العلماء فضلاً عن الجهلاء . فبما أن ذلك الشيء لايعلمه إلاّ الذين اخترعوه ، فالعوام لايتجهون إلاّ إليهم ؛ فلا يكسب المال الذي يبذله العوام إلا هؤلاء . وهناك مكايد لايتبينها غيرهم . هناك ضابط للشرطة ، قال لي ذات مرة : إني كنت مُوَظّفًا في أحد مكاتب الشرطة ، فجاءني أحد يملي عليّ البلاغ قائلاً : إن أحدًا قد سرق «فاتحتي» فارتبكت جدًّا وتساءلت في نفسي : ماذا عسى أن يكون معنى سرقة «الفاتحة» وساءلته هو الآخر ، فقال لي : إصحبني إلى مكان الحادث ، فبلغتُ المكانَ ، فعلمتُ أن أحد المشايخ يرتاده ويقرأ الفاتحة لمدة عام وينفثها في أنبوبة ويسدّها ، ويأمره أن يستخرج منها قدرما يحتاج إليه كلما تمسّ به الحاجة ، ويتقاضى الشيخ لقاء ذلك روبية واحدة. فحدث أن أحدًا احتاج إلى الفاتحة ، ولم يكن عنده نقود ، فسرق الأنبوبة . فوق كل حازم حازم ! .
قصـــة
وكان الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (1244-1323هـ = 1829-1905م) يقول : كان بمسجد عالمٌ ، يقصده الجمهور لإقامة طقس قراءة الفاتحة ، وحدث أنه جاءت المسجدَ ذات مرة عجوز تحمل معها الطعام لأداء تقليد قراءة الفاتحة عليه ، واتفق أن العالم المقصود للقيام بهذا التقليد كان غائبًا ، وكان بالمسجد مسافر غريب ، فوهبته الطعام قائلة في نفسها : إن الغرض هو الثواب ، وقد يحصل لي إذا أهديته إلى المسافر ، وراحت تخرج من المسجد إذ ألفت العالمَ بباب المسجد ، فسَألَهَا عن مجيئها إلى المسجد ، فقصت عليه القصص كله ، فاستشاط غضبًا ودخل المسجدَ وجعل يضرب أرضه وحُصُرَه بالعصا ضربًا شديدًا وجعل يصيح، وظل يقوم بضربها حتى سقط عليها كأنه مغشيّ عليه ، فتجمهر الناس من صياحه وسقوطه ، وجعلوا يسائلونه أحواله ، فقال: إخواني! إني ساكن بالمسجد منذ زمان طويل ، فأعرف جميع الموتى ، فظلتُ أهدي الثوابَ إليهم ، ولا أدرى أن هذا الغريب إلى من أهدى اليوم الثواب ؛ لأن جميع الموتى التفّوا حولي بمجرد أن دخلتُ المسجد ، وقد حاولتُ جهدي أن أدفعهم ؛ لكني لم أستطع أن أواجهم جميعًا ، لأني كنت واحدًا وكانوا كثرًا ، فسقطت على الأرض مجهودًا مكدودًا كما رأيتم . وإن حدث ذلك مرات ، فسأموت دونما شك ، فها أنا ذا أغادر المسجد، لآوي إلى مكان آخــر . فقالوا بصوت واحد : سيدنا ! لا تغادر المسجدَ إلى غيره ، إننا لن نهبَ أحدًا غيرك شيئًا ، وإنما نخصّك بجميع الأشياء ، حتى لايضيع الثواب سدىً ، ولا يسخط الموتى!.
فعُلِمَ أن الغرض من هذه التقاليد إنما هو جمع الدنيا ، فإن لم يجدوا شيئًا تجاهَ القيام بتقليد قراءة الفاتحة ، يشق عليهم – القائمين بالتقليد – أن يقوموا به مُهْدىً إلى شتى العناوين ، فسينتهي التقليد ويمّحى بدوره عما قريب . وذلك ما يدلّ على أنه مما زيد على الدين وليس منه ؛ لأن ما يكون من الدين يبقى في كل حال . وقد شاهدتُ أن كثيرًا من التقاليد البدعية عادت متروكة عندما دهم الناسَ الطاعون ، فعادوا لايقومون إلاّ بما يوجبه الشرع . وقد قلتُ للناس : لماذا لا تقومون بما كنتم تقومون به من التقاليد من قبل ؟ قالوا: سيددوا لايقومون إلاّ بما يوجبه الشرع . ئمين موتىنا ! أي تقليد نقوم به وأي لانقوم به ، والناس يموتون كلَّ يوم ، فقلتُ لهم : إن ذلك يؤكد أن هذه التقاليد مزيدة على الدين ، لأن ما يأمر به الدين لم يُتْرَكْ في حال ؛ فلم يتركوا تجهيز الموتى ، ودفنهم والصلاة عليهم ، على حين أنهم تركوا التقاليد التي كانوا يأتونها لدى الموت من «التيجة» و «العاشر» وما إلى ذلك . على كل ، فقد اخترعوا كثيرًا من الأشياء التي ظنّوها من الدين ومما يحقق رضى الله تعالى ، والدين منها براء.
تقليد «بارات»:
إن تقليد «بارات» – موكب العريس – من ابتكارات الهندوس ؛ حيث لم يكن في ماضي الأيام أمن ، فكانوا يكوّنون بمناسبة الزواج جماعةً لحراسة العروس ، وكانوا يطالبون فردًا من كل بيت ، حتى إذا حدث حادث أتى على أرواح الجماعة ، فلا يخلّف إلاّ أرملة واحدة في كل بيت. أمّا الآن فانّ الزمان زمان الأمن ، فما الحاجة إلى الجماعة الحارسة . وإذا كان هناك خوف على العروس ، فلماذا يجهزونه بكثير من الحليّ والألبسة الثمينة . وإذا قلتم : إن مصاحبة هذه الجماعة في هذا العهد أيضًا مما تقتضيه المصلحة . قلنا : إن المصلحة لا تتحقق لأن أعضاء الموكب يتوجهون إلى بيت والدي العروس مجتمعين ، ويعودون متفرّقين . وكثيرًا ما يحدث أن العروس ومن يحملون مركبها الخاص من الحمّالين يبقون مُفْرَدِيْنَ لايصاحبهم أي من أعضاء الموكب. فعُلِمَ أنه ليس الغرض هو الحراسة ، وإنما الغرض هو العمل بالتقليد الذي جرى اتباعه كابرًا عن كابر ، كما أن الغرض هو طلب الشهرة . ومن سوء الحظ أن العروس ربما تُوَدّع من بيت أبويها لدى وقت العصر ، ولا يخافان عليها ، وإنما يرضيان بتوديعها في مثل هذا الوقت من النهار الذي يكاد ينقضي فيخيم ظلام الليل، كأنهما يحسبان أن البنت لم تعد بنتهما ، وإنما عادت ملكاً للعريس وأسرته ، وإلاّ فكانت الحاجة الآن أمس من ذي قبل إلى حراستها وإجراءات الحفاظ عليها ، لأنها في كامل زينتها .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.