الفكر الإسلامي
بقلم : معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السالم
الرياض / المملكة العربية السعودية
تتميز الشعوب في غالبيتها بكثير من الخصائص والسمات الدالة عليها، وهي خصائص وسمات مفضلة لديها تعتزّ بها وتصونها من التحوّل والابتذال. لأنها تمثل طابعها الأصيل وثوابتها التي تلتزم بها وتحافظ عليها بحكم أنها جزء من كيانها ولون من نسيجها وصفة من صفاتها .
ولعل من أخطر الاختراقات الحديثة والتيارات الوافدة ما يمس ثوابت أمتنا العربية الإسلامية ، ويتمثل ذلك في الاختراق الثقافي بما ينطوي عليه من سلب للخصائص ودمدمة للسمات وتهجين للثقافة وتهميش لدورها الفاعل ، وتحويل اتجاهها الصحيح إلى اتجاه مضاد ينتج عنه استخفاف بالقيم وانتهاك للمُثل في مقابل نمو الثقافة الغربية الوافدة وتجسيمها في اطار واسع المساحة عميق الأبعاد ، ومع مرور الزمان تطفو على السطح أفكار مهجنّة تنشط في إهالة التراب على وميض تراث الأسلاف في محاولة لفصل الحاضر عن الماضي لكي تعيش الأمة مبتوتة الصلة بماضيها ، واذا انقطعت صلتها بذلك التراث وبعُدت المسافة بين حاضرها وماضيها، فإن ذلك لن يؤهلها للمستقبل الواعد لأنّ مَنْ لا ماضي له فلا مستقبل له ، والعولمة الثقافية أحد روافد التيارات الوافدة في هذا العصر، وهي تنزع في غايتها إلى ابراز ما تحمله من أفكار وفي الوقت نفسه تحاول من جانبها صرف أنظار الأجيال الحاضرة عن مواريث أسلافهم ، والتهوين من اعتزازهم بالقيم التي نشأوا عليها وتوارثوها عَبْر مسيرة سلسلة عصور متتالية ، واذا استطاعت تلك التيارات إثارة الغبار في مواجهة التراث ومحاولة إطفاء وهجه في نفوس أبناء الجيل – الذي يفتخرون به ويرتبطون به ارتباط ثقافة وارتباط حياة – فإن ذلك قد يؤدي مع تتابع الأجيال إلى محوه من ذاكرة الشعوب .
* * *
والهدف الواضح من تصدير العولمة الثقافية إلى هذه الشعوب المحافظة – أو المتخلفة على حد تعبيرهم وتصنيفهم لها – يعني إحلال ثقافة وافدة لتكون بديلة عن ثقافة ثابتة في المجتمع المسلم ، وهذا السعي ينتهي بإلغاء الآخر وصهر القيم المعاصرة في بوتقة غربية تصبها في قوالب ليبرالية علمانية بعيدة عن تعاليم الدين وقيم المجتمع الملتزم ، وعلى هذا النهج يجري تعميم الأنماط السلوكية والثقافية لدىالغرب بتعدد أشكالها وتنوع ألوانها ، وهي في مجملها تهدف إلى أضعاف الحس الديني لدى أفراد المجتمعات التي تسودها المحافظة والتقليل من أهمية تفاعل الشعور الوطني ، وبذلك يتحقق لمصدّري تلك التيارات الانحسار الشعوري بأهمية الدين وتقلّص الإحساس بمكانة الوطن ، وحشد هذه التفاعلات كلها لتعمل على ربط الفرد في هذه المجتمعات العربية الإسلامية بالمادة مع إعراضه عن كل ما يربطه بالروحانيات التي يجسدونها له على أنها قد انحصر دورها في قرون مضت ولم يَعُدْ لها دور في عصر التقدم الحضاري ، فإذا استجاب لهذا التوجيه : جرى ترويضه بعد ذلك على تقبل ما يُلقَى إليه من تعليمات مبطنة بغايات يجهلها فينقاد إلى تلك التعليمات وكأنه حيوان مستأنس غايته العيش في هذه الدنيا بلا هدف ، وعندئذ يشغل وقته كله ويكرس كل جهوده لمتاع الجسد دون متعة الروح ، وبهذه الصورة التي وُضِع فيها والقالب الذي صُبّ فيه يصبح أشبه بترس في آلة تدور باستمرار دون إحساس .. وفي هذا التحوّل تهديد واضح لنمطية السلوك الأخلاقي ، وتهوين من أثر العقيدة والواجبات الدينية .. والعولمة في طابعها العام وفي نهجها الخاص تحشد جهودها لاستثمار كل الأشكال الحضارية التي تفوَّق فيها الغرب ، وتلك الجهود المعبأة بكثافة لجذب الأنظار إليها تمثل نمطية جديدة في الحياة المعاصرة تنطوي علىتجريد الفرد من معالم ماضي الأمة الذي تلتقي عنده الأمم ، وهي بهذا التوجّه تمثل تحديًا حقيقيًا للهوية الإسلامية وكينونة الإنسان المسلم الحضارية، وتكوينه الثقافي ودوره في هذا الوجود .
* * *
ولا تزال التحديات التي تواجه أمتنا تمثل هموم الصفوة من العلماء العاملين ونخبة من المثقفين الواعين: لماذا ثقافتنا بالذات هي المستهدفة بالتحجيم والمسخ والنفي من عالم الواقع الثقافي؟ هل لأنها إسلامية المنهج عروبية المنزع ؟ .. إن كثيرًا من الشعوب الأوربية تدافع عن ثقافاتها وتراثها أمام الهجمة الأمريكية ، فلكل أمة مواريث تعتز بها وهوية تنتمي إليها وعقيدة تصدر عنها .. وإذا كان لكل ثقافة إطارها الخاص بها وطابعها الذي يُميّزها باعتبارها ترجمة أمينة لمشاعر الأمة وتعبيرًا صادقًا عن وعيها فإن ثقافتنا العربية هي التي تحتضن الإسلام وتعبر عنه بحكم أنها لسانه المبين والحصن الذي تلوذ به هذه الثقافة ، وأي هدم لكيانها هدم لكيان الدين ذاته .
وبهذا الحس الإسلامي العروبي – الذي يجب استشعاره من جميع أفراد الأمة – تتعين مواجهة التغريب والثقافات الوافدة في ركاب الهيمنة العولمية. كما ينبغي في هذا المجال وضع مصدَّات للاغتراب الثقافي الذي تلقيناه مع المد الحضاري والذي يهدف الى تهميش الشعوب النامية وتحجيم دورها في مضمار الحياة .
وإذا أعدنا السؤال لماذا ثقافتنا وحدها المستهدفة بالتذويب والتهميش؟ نجد الإجابة تكمن في طبيعة العلاقة بين الدعوة الغربية الاستعلائية والاستجابة الفورية الشرقية لتلك الدعوة دون مراجعة ولا تدبر، وحينما نستعرض بعض نماذج من بلدان أوروبية : نجدها في تلاحم دائم مع وجدانات شعوبها والمحافظة على جوهرها وثوابتها من التميّع في ثقافات دخيلة عليها ولو كانت من أرقى شعوب الأرض، نلمس ذلك بوضوح في الشعوب الأوربية حيث نجد لكل شعب منها لغته التي يعتز بها وخصوصيّته الثقافية التي يحافظ عليها وايديولوجيته الفكرية التي يتبناها ، وعلى الرغم من ارتباطها بكتلة الاتحاد الأوروبي ، فقد ظل لكل شعب خصائص وخصوصية ينفرد بها ويحافظ عليها، فما ذابت لغاتهم ولا ثقافاتهم ولا مذاهبهم في هذا الاتحاد الذي ربطهم بنهج سياسي واقتصادي معين .
* * *
وقد بلغ اعتزاز فرنسا بثقافتها ان منعت الازدواجية بين ثقافتها والثقافات الأخرى. كما اهتمت بمنع تسرب أي كلمات مهما قلّت ، أو أدنى مصطلحات مهما كانت أهميتها أن تدخل لغتها أو تتطفل على ثقافتها العامة . حتى لقد بلغ الاهتمام بهذا الشأن الحيوي أن أصدر الرئيس الفرنسي قرارًا بمنع افتتاح مطعم (مكدونالد) في برج ايفل الذي يُعتبر أشهر المعالم في باريس . حيث يرى فيه الفرنسيون مَعْلمًا بارزًا في مدينتهم وتراثًا مميزًا خاصًا بهم، ولذلك حالوا دون فتح مطعم غير فرنسي في هذا البرج على الرغم من المغريات بفتح ذلك المطعم، وهم ينطلقون من نظرتهم هذه الى تأكيد محافظتهم على معالمهم وتراثهم من الغزو الخارجي لطابعهم الأصيل من أي اقتحام أجنبي، ومبعث ذلك الاعتزاز يعود إلى الاعتزاز بأنفسهم في مواجهة الغزوات الثقافية والحضارية التي تحمل رأيتها العولمة الجديدة في وضعها السائد الآن .. وإذا كان من حق فرنسا وسواها من البلدان الأوروبية المتقدمة أن تحرص على المحافظة على تراثها ولغتها وثقافتها من اختراقها على أي مستوى كان متقدمًا في الحضارة ومن أي دولة مهما كبرت ، فإنه كذلك من حق الشعوب الأخرى أن تقف هذا الموقف الذي وقفته فرنسا التي رفعتْ صوتها في وجه التحديات التي وفدت عليها من خارجها ، وقد ضربت مثالاً لمواقف وطنية مشرّفة حافظت من خلالها على صورتها في العالم كله ودافعت عن خصوصيتها ومواريثها ومعالمها حتى لا تصبح تابعة لأي توجيه إيديولوجي تذوب فيه ، أو تكون تابعة لأي تحوّل في طبيعتها وكيانها . لأنّ ذلك يعني أن تتنكر لماضيها وتخسر حاضرها .
* * *
إنّ شعوب العالم الثالث لم تكنْ بفطرتها منساقة إلى الثقافة الغربية التي تهيمن عليها بالدرجة الأولى أمريكا وتحاول صبغ هذه الشعوب بصبغتها والترويج لها وتسويق الأفكار التي تحملها ونشر ثقافة (البيتزا والهمبرجر) والوجبات السريعة المصنَّعة بمواد رخيصة، والتي من نتائجها كثير من أمراض العصر لدى الشباب الذين انصاعوا لإغراءاتها وسهولة الحصول عليها ، وقد تحوّلوا إلى ما يشبه الآلات التي تدور مع الوقت في سرعتها المادية وجفافها العاطفي .
ولتحقيق مواقف مواجهة صادقة وصامدة إزاء التحديات والظواهر الوافدة فإنه يتعيّن بناء الشخصية الثقافية للإنسان العربي المسلم : بناءً إيمانيًا يتشكل على أسس راسخة من العقيدة وخطط مدروسة من المواريث الفكرية والسلوكية، فنحن أمة لها ماضيها المشرّف وكيانها الثابت ، ويصعب تذويبها في نظرية وافدة أو ظاهرة مهجّنة، ومع هذا الشعور المتنامي بالإغراق في التيارات الثقافية الغربية ، فإنه من غيرالممكن اعتزال المجتمع الدولي ، أوعدم التعامل مع وسائل الحضارة كضرورة حتمية ، ولهذا فلا ندعو إلى إيصاد الطرق وسدّ الأبواب أمام عموم الثقافات – ولو أردنا ذلك ، لما استطعنا في عهد ثورة الاتصالات – وإنما الوضع الطبيعي : أن نُحسن الأخذ عن هذه الثقافات – التي تغمرنا بأشكالها ونظرياتها – بما يناسب توجهاتنا ولا يمس ثوابتنا ، وبما يحفظ لنا شخصيتنا في خضمّ أمواج التيارات الراهنة .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.