دراسات إسلامية
بقلم : حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
كتبتَ في خطابك يا بُنيَّ ! «إني أريد أن أدرسَ وأبحثَ موضوع حجاب النساء ، علَّنى أتناوله بالكتابة ؛ فإن سنحت لك فرصة فأرْسِلْ إلىَّ الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذات الصلة بالموضوع ، وأخبرني عن صفة ملابس نساء النبي ﷺ وبناته ، وشروط الحجاب ومواصفاته على عهده ، وبداية الحجاب المتبع اليوم المشَدَّد فيه .
فَنَصُّ الخطاب يتوزَّع على الأجزاء الآتية:
أوَّلاً : توطئة وتمهيد .
ثانيًا : طلب الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المتعلقة بالموضوع .
ثالثًا : صفة ملابس أزواج النبي ﷺ وبناته .
رابعًا : صفة الحجاب وشروطه في العهد النبوي.
خامسًا : بداية الحجاب المتبع اليوم .
فالرَّدُّ على الخطاب يتطلب بحث الأجزاء الخمسة ، فسأعالجها بالبحث والكتابة في السطور الآتية إن شاء الله .
أولاً: توطئة وتمهيد .
اعلم يا بُنَيَّ ! أنَّ دراسة موضوعٍ مَّا يشترط فيها أمران : الأول : أن يكون الموضوع غامضًا ونظريًا ؛ فإن كان بديهيًا وواضحًا فالدراسة لا تجدي فيه نفعًا . والثاني : أن أسلافنا القدامى الذين كانوا أعظم منا مكانةً ، وأوفر حظاً من الصفات الفاضلة من الرسوخ في العلم ، والتأئيد من الله ، وصدق الطلب ، وبعد النظر، وسداد الرأي ، وحب الدين ، وسلامة الطبع ، والنُصْفَة ، وتقوى الله ، واتباع الحق ، ومجاهدة النفس ، ومخالفة الهوى – لم يبحثوه ولم يَبُتُّوا فيه ، فإن بحثوا وقطعوا فيه أمرًا فلا شكَّ أن الموضوع كان قدعاد منقَّحًا ومحققًا للغاية .
ثم بحثُنا إياه كمثل جماهير الناس يعيدون النظر في القوانين التي وافق عليها أعضاء المجلس التشريعي ويأبون أن يخضعوا لها حتى يدركوها بعقولهم ؛ فلاشك أن ذلك نوع من الخروج عليها .
فإذا استعرضنا مسئلة الحجاب وجدناها يُعْوِزُها هذان الشرطان ؛ لأنَّ هذه المسئلة بديهية للغاية كما ستُعْرَفُ عما قريبٍ في ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وأنَّ أسلاف الملَّة الإسلامية وأئمة الشريعة الغراء الذين انعقد الإجماع على قدوتهم وإمامتهم قد بَتُّوا المسئلة وطووا بِساطها . أما إزالة شبهة سائل أو الرد على اعتراض معارضٍ في المسائل المقررة من قِبَلهم سواء كانت المسئلة منصوصًا عليها أو مجمعًا عليها أو مجتهدًا فيها فالعلماء : حماة الدين ، وخَدَمَة الإسلام لايزالون مشمِّرين عن سواعدهم لهذا العمل الإسلامي ، إذا طُرِحَتِ الأسئلة إليهم و وُجِّهَتِ الاعتراضات وَفْقًا للمبادئ الثابتة ، وبُعْدًا عن تقليد فرقة خاصَّة وتحقيق غرضٍ خاص طُرِحَتْ إليهم ووُجِّهتْ طلبًا للنصفة ، وسَمَاعًا للإجابات وفهمًا لها ؛ فهؤلاء العلماء لن يطو وكشحهم عن الإجابة أو المناقشة أبدًا؛ هذا إلى أنَّه لايستلزم اهتداء سائل أو معارض؛ لأنَّ هذا الأمر يفوق طاقةَ المجيب أو المصلح ؛ فلو اهتدى الناس بجهود مصلحٍ لكان الناس جميعًا على صراط مستقيم .
هذه السطور المذكورة ذات العلاقة بالتوطئة والتمهيد رغم وضوحها يجب أن يُفكَّر فيها .
ثانيًا: تزويد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
سقنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالموضوع ، وترجمناها إلى اللغة العربية ، ثم عقبنا الترجمة بتفاسير وجيزة واضحة ؛ حتى تكون ترجمتها وتفاسيرها عونًا على فهم المسئلة ، وكل ذلك كان يستدعي عدة مبادئ مقررة واضحة ؛ فهاكم أولاً تلك المبادئ المقررة .
المبادئ المقررة
1- شاءت حكمة الله – جليةً كانت خفيةً – على عهد نزول الوحي نسخَ وتغيرَ بعض الأحكام الشرعية ، والنسخ والتغير يَعُمّانِ ما إذا توقف نزول الوحي بحكمٍ لعدة أيام ، ثم نزل الوحي به ومثال النسخ في العادات المتبعة لدى الناس تغيرُ الطبيبِ الوصْفَةَ نطيرًا لاختلاف حال المريض .
2- إن الأحكام بعضها أو معظمها ، لها رُتبتان في الشرع ؛ إحداهما : العزيمة : هي الحكم الأصلي المطلوب في الشرع . وثانيهما : الرخصة: هي التسهيل المضاف إلى العزيمة ومن الخطاء باعتبار الرخصة حكمًا أصليًا كما أنه من الخطأ أن يظنَّ موظفوا المحكمةِ العطلةَ الأسبوعيةَ وظيفتَهم الأصلية، فيتبعوا في منازلهم وقصورهم ناعِمي البال مطمئنِّيْن، وإذا عرض عليهم أحد طلبًا ردُّوه ورفضوه .
3- إذا حُرمَ أمرٌ حرامًا أو اعتُبرَ جريمةً فالأعمال أو الأمور المؤدية إلى الحرام أو الجريمة تعود محرَّمة لكونها أسبابًا ووسائل ، مهما لم تُسمَّ ولم تخص بالذكر في عداد المحارم أو الجرائم ؛ فمثلاً: الاستغلال(1) جريمة من الجرائم ، فهو يشمل وجوه الاستغلال كلها : كالتخويف والترويع والحبس وما إلى ذلك . فهذه كلها جرائم ؛ وإن لم تذكر هذه كلها ضمن بنود جرِيمة الاستغلال . ومن الممكن أن تكون جريمة من الجرائم بحيث ذُكرِتْ منفردةً ، فهي تعود مجرمةً بهذا الأسلوب .
أما بعدُ ، فأسوق عددًا لابأس به من الآيات والأحاديث .
الآيات الكريمة
(1) قال الله عزَّ وجلَّ :
وَقَرْنَ فِيْ بِيُوْتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُوْلَىٰ .
إنَّ الخطاب في الآية وإن كان مُوَجَّهًا إلى نساء النبي ﷺ ، إلاّ أنَّ ما قبل الآية وما بعدها من الآيات ذات الأحكام يعُمُّ نساء المسلمين جميعًا ، مثلاً : «لاَتَخْضَعْنَ» و «قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوْفًا» و «أقِمْنَ الصَّلَوٰةَ» و «آتَيْنَ الزَّكَوٰة» إذَنْ فمن المستبعد أن يكون الخطاب في الآية المذكورة آنفًا خاصًا بنساء النبي ﷺ من جميع النواحي . ثم إنَّ التامُّل في الآية ينفي احتمال التخصيص ؛ لأنَّه جاء النهي عما يقابل «قَرْنَ» من «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلَىٰ» تتميمًا له ، و وَاضِح أنَّ المقابلة تقتضي النهي عن عدم القرار ، فعُبِّر عن عدم القرار بتبرج الجاهلية ، مما أفادَ أن عدم القرار يماثل تبرج الجاهلية في الذم والقبح ، ومن المؤكَّد أن ذلك تتمةٌ لـ«قرن» و تتمة الشيء تساويه في الحكم . فإذا اعْتُبِرَ «قَرْنَ» خاصًا، كان النهي عن «تبرج الجاهلية» خاصًا كذلك . مع أنه ليس متدين أو عاقل يقول بأن نساء المسلمين يجوز لهن التبرج . فإذا كان حكم والتبرج عامًا فحكم «قرن» – بوصفه ذا تتمة – يكون عامًا كذلك .
علاوةً على ذلك فإنَّ العقل يقضي بعدم تخصيص الحكم ؛ لأنَّ كل حكمٍ يحوي في ثناياه حكمةً ، طورًا تكون خفيةً ، لسنا مأمورين بالبحث عنها ، وطورًا تكون جليةً ، لها عبرة في استنباط الأحكام . فإذا تأملنا في الآية وما حولها وجدنا بجانبها جملة وهي : «لاَتَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ» أي لا تحادثن بلهجةٍ ليِّنَة ، ثم عقبها بتعليلها بقوله : «فَيَطْمَعَ الَّذِيْ في قَلْبِه مَرَضٌ» أي أن المريضَ القلب والفاسدَ الطَّويَّة يداخله الهوى والطمع دونما حق؛ مما دلَّ دلالةً واضحةً على أنَّ تعليم آداب القول ، والأمر بالقرار في البيوت حكمتهما مكافحة فتنة المحادثة والمخالطة . فلما عُلِمتْ هذه الحكمة من الآية نفسها ، تدور الأحكام مع الحكمة .
وإنَّ أزواج النبي ﷺ هن أمهات المسلمين ، كما تَنُصُّ الآية الكريمة : «وَاَزْوَاجُه اُمَّهَاتُهُم» ؛ فعلى هذا حُرِّمَ عليهم الزواج منهن أبدًا ؛ فقد ورد النصُّ : «وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوآ اَزوَاجَه مِنْ بَعْدِه اَبَدًا» .
كما أنه من المعلوم طبيعيًا وعقليًا أنَّ علوَّ الشأن وعظم المكانة هو من أعظم الأسباب الطبيعية لمكافحة هوى النفس ، فلما أُمِرَتْ أزواج النبي ﷺ – رغم هذا الوازع الديني والطبيعي – بالقرار في البيوت ؛ فغيرهن من نساء المسلمين أولى منهن – أو على الأقل برتبتهن – بالأمر بالقرار في البيوت(1)؛ وإلا يلزم مكافحةُ فتنة خفيفةٍ وإهمالُ فتنة عظيمة؛ مما يؤدي إلى انقلاب الأمر رأسًا على عقِبٍ ؛ وذلك مالا يقول به أحد .
على أنه من السعة أن يُعْتَبَرَ علوَّ شأنهن «جزو علة» في أمرهِن بالقرار في بيوتهن ، أي : أنَّ علوَّ شأنهن يقتضي ألاَّ يواجهن كل من هبَّ ودبَّ من الناس ، والعلة الأخرى هي النابعة من النص ، المذكورة آنفًا ؛ فالعلة في خصوصهنَّ مؤلفة من علوِّ شأنهنَّ و مكافحة الفتنة جميعًا ، وأما العلة في خصوص عامة النساء هي مكافحة الفتنة وحدها فنظرًا إلى هنا التخصيص يصحُّ القول بتخصيص الخطاب في الآية ، إلاّ أنه لايلزم منه تخصيص وجوب القرار بهن ؛ بل تخصيص القرار بهن احترامًا لهن . وعلى هذا فلما كان «الاحترام» من مميزاتهنَّ ؛ لايجوز لهنَّ الخروج من البيوت دونما حاجة ، مهما لايؤدي ذلك إلى فتنة ، وأما غيرهن من نساء المسلمين فإن لم يكنَّ موضِعَ شهوةٍ و فتنةٍ يجوز لهنَّ أن يكشفن عن وجوههن وأكفهن ؛ ومن هنا قال بعض العلماء : إنَّ وجوب الحجاب من خواص نساء النبي ﷺ ومعنى ذلك : أن الحجاب في حقهنَّ واجب لعينه ، إلاَّ أنَّ الوجوب وحده يعم نساء النبي ﷺ ونساء المسلمين جميعًا . وهذا هو ما يريده المتصدون لإثبات الحجاب ، القائلين بأن الفتاة والكهلة يحرم لهما أن تواجها غير محرم ، مهما كان ذلك حرامًا لغيره .
(2) واِذَا سَئَالْتُموهُنَّ مَتَاعًا فَاسْئَلُوْهُنَّ مِنْ وَّرَآءِ حَجَابٍ ط ذٰلِكُمْ اطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ.(1)
كما تدل هذه الآية بوضوحٍ وجلاءٍ على أنَّ الحجاب الذي هو عبارةٌ عن النقاب المتبع في هذا العصر هو أولى بالأهمية وأجدر بالعناية ؛ ذلك أنَّ «سؤالَ متاعٍ» ضرب من الحاجة ، لكنه مع هذه الحاجة لم يُسمَحْ ب هو عبارةٌ عن النقاب المتبع في هذا العصر هو أولى بالأهمية وأجدر بالعناية ؛ ذلك أرفع الحجاب ؛ بل وُجِّهَ الخطاب في هذا الموقف كذلك بصيغة الأمر الدال على الوجوب شرعًا وعقلاً محافظةً على الحجاب ؛ فحيثما تنعدم هذه الحاجة أو توجد أخفَّ منها كالتنزه أو توسيع دائرة المعلومات الدنيوية فأنَّى يُسْمَحُ بالسعور .
إنَّ هذه الآية – كذلك نزلت بشأن نساء النبي ﷺ إلا أنَّ العلة المذكورة للحكم وهي كون الحجاب وسيلةً لطهارة القلوب تدل بدلالة النص على أنه حيثما لا يغلِب احتمال التلوث الفكري تجب فيه الحذر والحيطة ؛ فحيثما يغلب هذا الاحتمال فالأخذ بالاحتياط أولى وأجدر وألزم . أما انعدام التلوث الفكري لدى نساء النبي ﷺ ووجوده لدى غيرهن من نساء المسلمين فواضح وَبيِّن . وقد فَسَّرتُ الآيةَ المذكورة أعلاه تفسيرًا مدعمًا بالأدلة والبراهين . أما الفرق بين وجوب الحجاب لعينه ولغيره فالمجال في معدىً عنه ، وهذا الفرق لايُخِلُّ بمرادنا كما مرَّ آنفًا .
يـٰـآيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لاَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ونِسَآء الْمُؤْمِنِيْنَ يُدنِيْنَ عَليْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيْبِهِنَّ ذٰلك اَدنى اَنْ يُّعْرَفْنَ فَلا يُوْذَيْنَ.
تُزوِّد الآية بمبدأٍ وهو أنَّ النساء إذا مسَّتْهن الحاجة إلى الخروج من بيوتهن لرحلةٍ أو غيرها ، لايخرجن سافراتٍ ، وإنما يُدْنِيْنَ طرفًا من جلابيبهنَّ على وجوهِهنَّ ؛ فلا يراها أحد . فبعد هذا النصِّ لا مجالَ للقول بأن التنقُّبَ ليس فرضًا أو واجبًا ، فالنص قاطع ، ذو دلالة قاطعة ، يزيد عما يفوقه من الآيات بأنَّ كلمات النص تشمل نساء المؤمنين كذلك . فلا يُوْهِمُ للتخصيص مهما نظرنا إليه نظرةً خاطفةً ، إلا أننا لسنا في حاجةٍ إلى إنكار فرق «لعينه ولغيره» .
أما قوله تعالى : «ذٰلِكَ اَدْنى أَنْ يُّعْرَبْنَ» فخلفيّته أنَّ بعض المنافقين كانوا يُزْعِجُون الإماء لفساد طويتهم ، فبهذا النحو يمكن معرفة الحرائر من الإماء ، فالإماء مسموح لهن بالخروج سافرات الوجوه . وذلك ليس لأنَّ جسم الأمة ليس مما يُسْتَر ؛ فالحديث «المرأة عورة» (1) يدل على أنَّ المرأة – سواء كانت حرةً أو أمة – جديرة بالستر و الرغبة فيها ، بل ذلك لمجرد أنَّ ستر وجهها يُخِل بأداء الواجبات الموكولة إليها .
المبدأ الثاني
فنظرًا إلى هذه الحاجة رُوْعِيَ التسهيل في حكم الحجاب في حق الأمة ، ولما كانت حوائج الأمة أكثر من حوائج الحرة ، زِيْدَ عدد أعضائها المكشوفة . ففذلكة الآية أنَّ سفور الحرائر لايؤدي إلى صيانة الإماء وإنما يتضاعف بذلك الفساد ؛ فعلى الحرائر بطابعهن الأصيل وذلك أصْوَنُ لهنَّ ، أما صيانة الإماء فتلك بأسلوب آخر وهو أن الآية التالية وهدِّد فيها المنافقون تهديدًا قال الله عزَّ وجَلَّ: لئن لم ينته المنافقون …. فقد زال الشك وكفى التنظيم في جميع النواحي .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.
(1) الاستغلال : هو أخذ المال أوعِزه من غير رضىً من صاحبه .
(1) وإليه أشير في قوله تعالى : Mلَسْتُنَّ كَاَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِL .
(1) الأحزاب .
(1) رواه الترمذي في كتاب الرضاع 1/222 .