دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ حسن حسن منصور
إن المتأمل في: كلمة «لتسكنوا» في قول الحق تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً …﴾ (الروم:21)، تبرز له كثير من المعاني المفيدة، منها أن أصلها من الفعل «سكن»، وهو من السكون الذي لايكون إلا بعد حركة، فكأن هذه الكلمة، تفيد أن الزوج المكلف بالحركة في الحياة، سعياً في مناكب الأرض، لتحصيل الرزق لمن يعول، لابد له بعد هذه الحركة أن يسكن، ولا يتحقق له هذا السكون، إلا مع زوجته داخل البيت الذي يضمهما.
والسكن الزوجي ضروري لاستقرار كيان الأسرة؛ ومن هنا كان حرص الشريعة الغراء على وضع مقومات بقاء هذا الاستقرار، وطلبت من الزوجين معًا العمل على قيام موجبات استدامة هذا السكن بينهما. وهذه الموجبات كثيرة ومتعددة، ومنها على سبيل المثال، الآتي:
أولاً: المحافظة على كيان الأسرة:
من الواجب على كل من أطراف العلاقة الزوجية، أن يحافظ على كيان الأسرة التي ينتمي إليها، تحقيقاً للغايات السامية من وراء استقرارها للفرد والمجتمع على السواء، وإذا كانت الشريعة الغراء، قد أباحت الطلاق كوسيلة لعلاج بعض المشكلات الزوجية، التي يعجز الزوجان عن حلها، ولا يكون أمامهما من سبيل إلا الاستجابة لمقتضى قول الحق تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ (النساء:130)، إلا أن هذه الإباحة جاءت في إطار من القيود والضوابط، التي جعلت من الطلاق أبغض الحلال، كما أخبر بذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو حق لكل من الزوجين، ولا ينفرد به أحدهما دون الآخر، كما قد يتصور البعض أنه خالص للزوج وحده؛ ولكن كل ما في الأمر، أن الزوجة تملك الطلاق عن طريق القاضي، الذي يحل محل الزوج في إيقاعه.
وليس هناك في الشريعة الغراء ما يمنع الزوجة، من أن تطلب الطلاق عن طريق القاضي؛ بل ولها أن تطلبه من زوجها؛ ولكن بشرط أن يكون هناك السبب الذي يبرر هذا الطلب، وإلا كانت آثمةً شرعاً، وعقابها في الآخرة على الله تعالى، فقد روى أبوداود والترمذي وابن ماجة وابن حبان عن ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها، من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة»، وفي الحديث المعلوم لكل مسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال عند الله الطلاق». ومن الملاحظ أن نص هذا الحديث عام مطلق، يشمل كلاً من الزوجين، بحيث إذا لجأ الزوج إلى الطلاق من تلقاء نفسه، أو طلبته الزوجة منه دون مبرر، فإن كلاً منهما يكون قد ارتكب أبغض الحلال إلى الله تعالى، ويكون آثماً، ويستحق العقاب من الله تعالى في الآخرة.
والذي عليه جمهور الفقهاء أن الخلع هو نوع من الطلاق. وعلى هذا فلا يجوز للزوجة أن تخالع زوجها دون أن يكون هناك ما يحملها على ذلك؛ فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفعل ذلك بالنفاق، فقد قال فيما رواه الترمذي بسنده عن ثوبان رضي الله عنه: «المختلعات من المنافقات»، ولفظ المختلعات في هذا الحديث، وإن كان قد جاء عاماً، إلا أنه ليس مطلقاً، بل هو مقيد بشرط، هو ألا تكون الزوجة قد قالت الطلاق خلعاً من غير بأس، لأنها تكون في هذه الحالة، قد أظهرت خلاف ما تبطن؛ إذ إن من شروط الخلع أن تقرر الزوجة أنها تبغض زوجها، وأنها لا تستطيع أن تقيم حدود الله معه، وهذه أمور باطنية تنطوي عليها سريرتها، فإن أبدتها على خلاف الحقيقة والواقع، كانت منافقة حقاً، وكما هو معلوم أن جزاء النفاق في الآخرة عظيم، كما أخبر الله عنه بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ (النساء:145).
ثانياً: الرعاية المادية والمعنوية:
فمن الواجب على رب الأسرة تحقيق هذه الرعاية، سواء الإعالة المادية، وقد جاء ذلك النهي عن تضييعها، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «كفى بالمرء إثماً، أن يضيع من يعول»، وهو مُوَجَّهٌ إلى كل زوج لا يرعى أسرته، مادياً أو معنوياً، فمثلاً لا ينفق عليها، فهو زوج مستهتر، يفرط في حق نفسه، وحق أسرته، وحق مجتمعه كله؛ بل وفي حق الله تعالى الذي كرمه، ومنحه حق الولاية على أفراد هذه الأسرة.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم، من يعولهم الزوج، بقوله الشريف الذي رواه الحاكم والدارقطني والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: «خير الصدقة، ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، فقيل: يا رسول الله: من أعول؟، قال: إمرأتك ممن تعول، تقول: أطعمني وإلا فارقني، جاريتك تقول: أطعمني واستعملني، ولدك يقول: إلى من تتركني؟».
ولكن لايجب لمثل هذا الزوج البليد أن يترك وشأنه، وينتظر جزاء إثمه في الآخرة، بل يتحتم تعجيل هذا الجزاء في الدنيا. وذلك بأن تلجأ هذه الزوجة وأولادها إلى القاضي لإلزامه بالإنفاق عليهم، وإلا حكم بحبسه ويجوز للزوجة، أن تطلب التطليق على هذا لعدم الإنفاق عليها، حتى لا يتمادى في غيه واستهتاره، فيضيع من يعولهم.
ولا تقتصر إعالة أفراد الأسرة على النواحي المادية، فهي تتعدى إلى كل ما يصلحهم معنوياً، كالتربية والتوجيه، وغرس القيم والأخلاق الحميدة في نفوسهم؛ بل إن هذه الرعاية وإن كانت مادية، فيجب أن تراعى فيها الجوانب المعنوية، فمثلاً، في السعي على الرزق المادي يجب تحري الحلال فيه؛ لأن الحرام يؤدي إلى إحباط الأعمال، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: «إن الرجل يقذف باللقمة الحرام، لا يقبل له عمل أربعين».
ثالثاً: العدل بين أفراد الأسرة:
إذا كان العدل ضرورة إقامة التوازن في الحياة، بل هو- كما قيل – أساس الملك، فإن أحوج ما يكون تطبيقاً بين الرحماء من الأهل والأقارب، فإن الأب الذي يفرق بين أبنائه لأي سبب، يخالف صريح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله الشريف: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم في العطية…»، وفي بعض الروايات، أمر الرسول بالتسوية بين الأبناء حتى في القبلة، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الظلم بالجور، والرفض الشهادة على عمل به في الوصية لأحد أبنائه دون الآخرين، فقال: أشهد عليه غيري، فأنا لا أشهد على جور»، والجور هو الظلم الشديد، وهل هناك ظلم أشد، من ظلم الرحماء وهما الولدان، وليت الأمر يقف عند حد مخالفة صريح أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهناك ما هو أفظع من ذلك في الدنيا، من تقطيع الأرحام، وبذر البغضاء والشحناء بين الأحياء، وفضلاً عن اللعنات التي يصبها الأحياء على الأموات، وفي الآخرة نار السعير التي تنتظر المخالفين لشرع الله الحكيم وما هي من الظالمين ببعيد.
ومن ينظر في واقع الحياة، يجد أن غياب العدل بين الأفراد يؤدي إلى أوخم العواقب، وقد يتسبّب في إزهاق أرواح أقرب الأقربين، فكثيرًا ما تحمل صفحة الحوادث أخبارًا عن جرائم قتل عمد من أخ لأخيه، لتفضيل المقتول على أخيه القاتل في الميراث أو في بعض الأشياء الأخرى وغير ذلك.
رابعاً: القدوة داخل الأسرة:
والقدوة تستمد مصدرها من إنسان، حاز قدرًا كبيرًا من السمو والقيم والمثل العليا، بحيث يكون محط أنظار الآخرين، يلتمسون السير على دربه، بغية الوصول قريباً من مرتبته في الحياة؛ ولهذا كان الرسل والأنبياء، هم الأئمة للناس جميعاً، في استلهام القدوة الحسنة، ويأتي على رأسهم، سيد الخلق، الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة الحسنة للبشرية جمعاء؛ لأنه كما وصفه ربه تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾، وقد نبه الله تعالى المؤمنين إلى هذه الدرجة العالية من القدوة في رسوله صلى الله عليه وسلم، بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب الآية 21)، ومنه استمد الصحابة والتابعون والقادة والمصلحون، ما يؤهلهم لأن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم في مناحي الحياة.
وإذا كانت القدوة على هذه الدرجة من الأهمية في الحياة، فإنها أحوج ما تكون في مجال الأسرة، حيث بداية مقومات التربية السليمة لأفرادها المقبلين على الحياة، ومن بين الطرق التربوية التي يركز عليها علماء التربية وما يعرف بالتربية عن طريق القدوة، وإذا كان رب الأسرة هو القدوة لباقي أفرادها، والمكلف بالقيام بأعبائها، إلا أنه يحتاج إلى تعاون جميع أفراد الأسرة معه للقيام بهذه المهمة، لتحقيق النجاح والمستوى الأفضل لمؤسسة الأسرة.
والقدوة الأسرية تفرض على صاحبها، أن يبدأ بنفسه في كل شيء، ولا يطلب من غيره القيام بعمل هو لم يفكر فيه، أو ينهاهم عن إتيان فعل هو يقوم به، فيكون كما قال الشاعر:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَه عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيم
فمثلاً: الأب المدخن للسجائر، إذا رأى ابنه يدخنها، لايتصور أن يطلب منه الإقلاع عن التدخين، وإذا طلب ذلك، فلا يتصور أن يجد أذناً صاغية من هذا الابن، وأيضاً الأب الذي يسهر الليل خارج البيت، لايتصور أن يطلب من ابنه الذي لايعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل، البقاء فيه وعدم مغادرته، وهكذا في كل أمر، لا يقدم فيه رب الأسرة القدوة الطيبة لباقي أفرادها، حتى يسيروا على نهجها.
ولكن إذا ما تحقق رب كل أسرة بهذه القدوة، كان له الدور الفعال في حسن رعايته لأفرادها، فمثلاً، رب الأسرة الأمين على مال الدولة أو المؤسسة أو المنشأة التي يعمل بها، ويستقر في يقين أفراد أسرته، أنه يتصف بهذه الأمانة، يكون قدوة لهم، حتى إذا ما توجه إليهم بسؤال عن مصدر ما يكتسبه أي فرد منهم من مال، فإنه لا حرج في ذلك، سواء بالنسبة للسائل، أو من يوجه إليه السؤال، مادام السائل لا يبغى إلا الخير والمصلحة، وكان المسؤول متأكدًا من مشروعية مصدر ما يكسبه من مال، كما كان نبي الله زكريا عليه السلام، مع السيدة الطاهرة مريم، عندما سألها عن مصدر الرزق الذي وجده عندها، فقالت على الفور: «هُوَ مِنْ عِنْدِ الله».
وهذه القدوة تؤتي ثمارها، بالممارسة الدائمة داخل الأسرة، كما قال الشاعر:
ويَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَىٰ مَا كَانَ عَــوَّدَه أَبُوهُ
رابعاً: نبذ العنف داخل الأسرة:
من صور العنف في حياة الأسرة، ما يقع من وقائع ضرب متبادل بين بعض الأزواج، أيّاً كانت الوسيلة المستعملة فيه، وأيا كان الغرض منه، حتى ولو كان ذلك بغرض التأديب، والأصل المقرر في الشريعة الغراء عدم إباحة هذا الضرب؛ لأن الأساس الذي تقوم عليه الحياة الزوجية، هو المودة والرحمة، وفي الضرب تقويض لهذا الأساس، وفي بيان هذا الأصل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والنسائي والبيهقي عن أبي ذباب الدوسي رضي الله عنه: «لا تضربوا إماء الله، قيل: فذئر (تمرد) النساء، وساءت أخلاقهن على أزواجهن، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ذئر النساء، وساءت أخلاقهن على أزواجهن، منذ نهيت عن ضربهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاضربوهن»، قال: فضرب الناس نساءهم تلك الليلة، قال: فأتى نساء كثير يشتكين الضرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبح: «لقد طاف بآل محمد الليلة سبعون امرأة، كلهن يشتكين الضرب، وأيم الله لا تجدون أولئك (أي الأزواج الذين يضربون زوجاتهم) خياركم».
إن صفة الأخيار إذا توافرت في كل من الزوجين، فلا يتصور أن يكون هناك عنف في حياتهما؛ لأن كلاً منهما عرف ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، فيؤدي ما عليه من واجبات، ويأخذ ما له من حقوق، فيسود بينهما التسامح، فيما قد يقع من أي منهما من تجاوز في معاملة الآخر، ومن ثم يقوى الأساس الذي تُبْنَى عليه الحياةُ الزوجية، فإذا وقع أي اعتداء بالضرب من الزوج على زوجته بعد ذلك، فإنه يكون بلا مبرر، وتنزع من المعتدي صفة الأخيار، بل يكون من الأشرار، ويستحق العقاب المناسب، الذي يقرره ولي الأمر لهذا الفعل.
إن الحياة الزوجية إذا ما توافرت لها مقومات الرعاية المادية والمعنوية، والخدمة داخل البيت، والمحافظة على أسرارها، والبعد عن العنف الأسري، فإنها تنعم بالاستقرار الدائم، وهذا ما تحرص عليه الشريعة الغراء بما ينشده الفرد والمجتمع..
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1433هـ = يوليو – سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36