الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية الكبير معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
وعمر كان لايُشَقُّ له غبار في ضرب المثل في الحاكم العادل، والقدوة الحسنة؛ ولهذا ضرب به عبد الملك المثلَ، فقال وقد أشرف على أصحابه، وهم يذكرون سيرة عمر، فغاظه ذلك، فقال:
«إيهاً عن ذكر عمر، فإنه أزرى بالولاة»(1).
وعمر – رضي الله عنه – عندما يختار عاملاً، أو نصيحاً، أو مستشارًا، فإنه لا ينظر إلى السن فقط، ولا إلى نضج الكبر؛ ولكنه ينظر إلى العلم والعقل، وإلى الجذور التي يحكمها في خلقها أصلها؛ ولهذا اختار عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – لثقته به، وفي الخبر التالي ما يشرح جانب هذا الأمر:
«قال ابن عباس:
لما اختصّني عمر بن الخطاب، قال لي أبي:
هذا الرجل قد اختصّك دون من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عني ثلاثاً:
«لا يجربن عليك كذباً، ولا تعب عنده أحدًا، ولا تفشينَّ له سرًّا».
قال عكرمة: فقلت:
كل واحدة منها خير من ألف.
فقال: بل من عشرة آلاف»(2).
الجذر هنا تكلم، والأصل نطق؛ فوجها؛ إنها كلمات مليئة بالحكمة، وهي أصول لما يجب أن يكون عليه المستشار الحق، وكل جملة توزن بالذهب، وهي زرع ثمين، وضع في أرض خصبة، لا إخال إلا أنها أنبتت أحسن النبت، وأتت بأحسن الثمر.
وعمر يعجبه الذكي النابه؛ ولكنه أحياناً يكون منه على حذر، ويحتار أحياناً بين خوفه من زيادة ذكائه، والذكاء إذا زاد قد يؤدي إلى إتقان الحيل، والهروب بالظاهر عما يخفيه في الباطن، وبين الاستفادة من هذا الذكاء فيما ينفع المسلمين، وهناك قصة، إن صحت، فهي مثل جيد في هذا:
«أراد عمر أن يعزل المغيرة بن شعبة عن العراق بجبير بن مطعم، وأن يكتم ذلك، وأمره بالجهاز، فأحسَّ بذلك المغيرة، فأمر جليساً له أن يدس امرأته، وكانت تسمى: لقَّاطة الحصى، لتدور في المنازل، حتى دخلت منزل جبير بن مطعم، فوجدت امرأته تصلح أمره، فقالت:
إلى أين يخرج زوجك؟
قالت: إلى العمرة.
قالت: كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأعلمك، فجلست متغضبة، فدخل عليها جبير، وهي كذلك، فلم تزل به، حتى أخبرها، وأخبرت لقاطة الحصى، ودخل المغيرة على عمر، فقال:
بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه، وتوليته جبيرًا.
فقال: كأني بك يا مغيرة فعلت كذا، فقص عليه الأمر كأنما شاهد، وقال:
أنشدك الله هل كان كذلك؟
قال: اللهم نعم.
ثم صعد المنبر، فقال:
أيها الناس! من يدلني على المخلط المزبل ونسيج وحده؟
فقام المغيرة، فقال:
ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك.
فولاه، ولم يزل والى العراق حتى طعن»(3).
إذا صحت هذه الرواية دلت على أمور كثيرة، أبرزها ذكاء عمر، وقوة فراسته، في معرفة الحيلة التي لجأ إليها المغيرة، في أن يكشف السر الذي أراد له عمر ألا يظهر، وعمر يلفت نظرَه الذكاءُ، ولعله أراد عزله لإفراط ذكائه، وتوقع حيله؛ ولكن في نهاية الأمر رأى أن يستفيد من ذكائه فيما يفيد، وهو كفؤ في أن يتقي ذكاءه فيما قد يضر. وفي هذه القصة دليل على ذكاء عمر، فقد أراد أن يعذر نفسه أمام الناس، حين طلب منهم أن يرشحوا له من يصلح للعمل، فصمتوا، وتكلم المغيرة، فظهر أنه أبرزهم في الميدان، فعينه.
وذكاء المغيرة، وقوة حجته، وصفاء ذهنه، هو الذي جذب انتباه عمر له، في أول الأمر، وجعله يوليه الكوفة، والقصة تُرْوَىٰ كما يلي:
«قال عمر: أعضل بي أهل الكوفة، إذا وليت عليهم الفاجر القوي، فجروه، وإذا وليت الأمين الضعيف هجنوه.
فقال المغيرة: المؤمن الضعيف له إيمانه، وعليك ضعفه، والفاجر القوي لك قوته، وعليه فجوره.
قال: صدقت.
وولاه الكوفة»(4).
لقد كان المغيرة حصيف الرأي، حاضر الذهن، في هذا الموقف، وانتزع من عمر الإعجاب، ووجد فيه ضالة للكوفة التي يهمه أمرها، وله – رضي الله عنه – فيها أقوال تدل على ذلك، من تلك الأقوال قوله في مخاطبتهم:
«كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إذا كتب إلى أهل الكوفة، يكتب لهم: رأس العرب، ورمح الله الأطول»(5).
ويبدو أن عمر قد اتخذ استشارة الناس فيمن يريد أن يختاره ليوليه عادة له، ومبدأ يسير عليه، خاصة إذا استولت عليه الحيرة، وتعسر الأمر، وهو بهذا يحقق أغراضاً متعددة، أقلها أن الناس يعذرونه في قلة من يصلح للولاية، أو من يرغبها، أو من يعرفه منهم، وله موقف مثل موقفه في أمر الكوفة، وأمر المغيرة، وقصته تُرْوَىٰ على النحو التالي:
«قال عمر بن الخطاب لأصحابه:
دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني.
قالوا: فلان.
قال: لا حاجة لنا فيه.
قالوا: فمن تريد؟
قال: أريد رجلاً، إذا كان في القوم، وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم، كان كأنه رجل منهم.
قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي.
قال: صدقتم. فولاه»(6).
لم يكن أصحابه يعرفون المهم الذي عناه عمر، فاجتهدوا، فلما لم يعجبه رأيهم، طلبوا منه أن يحدد الصفة التي يريد أن تتوفر في من يريده، فأشار إلى أنها قوة الشخصية والتواضع؛ ولكنه قالها بطريقة نبهتهم إلى الشخص الذي تنطبق عليه، وهذه الصفات هي التي يريدها عمر في عماله: قوة في غير ضعف، ولين في غير خور.
وسياسة عمر أصبحت معروفة لأصحابه، ومن حوله؛ لأنها منتظمة ومعلنة، وقد وصفها أحدهم بالقول الآتي:
«قال الحكم بن عتبة: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :
«القاضي لا يصانع، ولا يصارع(7)، ولا يتبع المطامع»(8).
هذا عن القضاة، ومايرى أن يكونوا عليه، ولعل هذه الصفة تشمل ولاته، فهم في تصرفهم في نظره قضاة.
وقد خطب مرة فأبان سياسته، وحدد معالمها، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يخطب فيها، ويبين معالم سيره، بل إنه اتخذ هذا ديدناً له، يكرره في مواطنه المتعددة، وكأنه يريد أن يثبته، ويؤكده للناس، حتى لا ينسوه. وهذا نص إحدى خطبه:
قال أبوهريرة:
لما استخلف عمر، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني نظرت إلى الإيمان، فوجدته يقوم على أربع خصال.
فقام إليه عمار بن ياسر، فقال: ما هي يا أمير المؤمنين؟
قال: تقوى الله في جمع المال من أبواب حله، فإذا جمعته عففت عنه، وإذا عففت عنه وضعته في مواضعه، حتى لا يبقى عندي منه دينار ولا درهم، ولا عند آل عمر خاصة.
والثانية: أعرف للمهاجرين حقهم، وأقرهم على منازلهم.
والثالثة: الأنصار الذين آووا ونصروا، أحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [فيهم]، فأقبل من محسنهم، وأتجاوز عن مسيئهم، وأكون أنا عيالهم حتى ينصرفوا إلى منازلهم.
والرابعة: أهل الذمة، أفي لهم بعهدهم، وأقاتل من ورائهم، ولا أكلفهم إلا طاقتهم.
قال: إذا فعلت ذلك كنت معترفاً عند الله – جل اسمه – بالذنوب»(9).
لقد توقعت هذه الفئات المذكورة في الخطبة وبقية الناس أن يعرفوا سياسته العامة، وسياسته نحوهم، فعدد جوانبها، ووضع محور دورانها: الإيمان وتقوى الله، لتطمئن نفوسهم إلى أن منطلقه قوي، ونيته حسنة، ولقد وفى – رضي الله عنه – بما وعد به خير وفاء.
وفي خطبة أخرى دخل فيما ينفع الناس، وطمأنهم على أموال المسلمين، وهي ما يهمهم، بعد أن بدأت ثروات البلاد المفتوحة تنهال على المدينة المنورة، وأصبح كل محتاج يتطلع إلى فك عسرته منها، وقد حدد عمر رأيه في المال، وفيما يجب أن تكون عليه الطريقة التي يتبعها فيه:
«قال عمر على المنبر:
اِقْرَأُوا القرآن، تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقَرُّم البهمة الأعرابية: القضم لا الخضم»(10).
وأشهر خطب عمر خطبته الأولى بعد أن تولى أمر الناس، وقد حدد فيها معالم سياسته، بعبارات فصيحة، أصبحت قاعدة يسار عليها، ورددها الناس كأنها مثل، قال فيها:
«أيها الناس، والله ما منكم أحد هو أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه».
ثم نزل»(11).
وإذا كانت سياسته قد عُرِفَتْ من أفعاله وأقواله في خطبه ومجالسه، وفي أقوال معاصريه عنه، فإن هناك مصدرًا آخر، وهو كتاباته لعماله، ففيها رسم لسياسته، لما جاء بها من توجيه سديد، ومنها:
«من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى أبي عبيدة بن الجراح.
سلام عليك، أما بعد:
فإنه لم يُقم أمر الله في الناس إلا حصيف العقدة، بعيد الغرّة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يحنق في الحق على جرة، ولا يخاف في الله لومة لائم.
والسلام عليك»(12).
لقد رسم لأبي عبيدة السياسة التي يريد أن يراها فيه، ويراه عليها، يريده أن يكون عميقاً، فلا يسبر الناس غوره، فيعرفون المداخل عليه، ويكتشفون نقط الضعف فيه؛ ويريده نبيهاً متنبهاً، فلا يؤخذ على غرة، أو يختل جانبه، ويريده نزيهاً في سيره، فلا يمسك الناس عليه عيباً مشيناً، يقلل من هيبته، ويجرئ الناس عليه، خاصة وأنه القدوة لهم، ويطلب منهم الاستقامة، وكيف يطلبها منهم، وهي ليست فيه، فيذهب قوله هباءً، وجهده هدرًا، إذا هو أمر الناس بما لم يفعل، وطالبهم بما لم يأته، ولا يريده أن يكون سريع الانفعال، قريب الغضب؛ لأن هذا يجعل الناس يحجمون عن عرض مظالمهم، ويسقط مقامه عندهم؛ إذ أنه لا يمسك نفسه عند الغضب، بل يقوده الغضب إلى تعدي الحدود المقبولة إلى ما يخرجه إلى الحيف والظلم؛ ويريده أن يكون قويًّا في الحق، يأخذه من الظالم، ويعطيه المظلوم، دون تفرقة بين الناس، أو مراعاة لمقامهم، وعمر، وهو يقول هذا، كأنه يصف سيره في حكمه.
ويتابع الإرشاد لأبي عبيدة في خطاب آخر بليغ يقول فيه:
أما بعد:
فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي فيه خيرًا:
إلزم خمس خلال، يسلم لك دينك، وتحظى بأفضل حظك:
إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول، والأيمان القاطعة، ثم أدْنِ الضعيف حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعاهد الغريب، فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته، وانصرف إلى أهله، وإذا الذي أبطل حقه من لم يرفع به رأساً، واحرص على الصلح مالم يتبين لك القضاء.
والسلام عليك»(13).
هذه أمور أربعة (وليست خمسة، إلا إذا كانت البينات واحدة، والأيمان أخرى) وضعها عمر أمام أبي عبيدة، وهي عصارة علمه في القضاء، ومخ تجربته في معالجة أمور الناس، وهي حاسمة في أمور الخصوم، راعت الأمور الرئيسة، فالتثبت بالبينات أمر يقوم عليه الحكم في القضاء، ويسنده إذا احتاج الأمر إلى سند الأيمان.
ثم ينتقل عمر إلى ناحية نفسية لا يتنبه لها إلا الأريب؛ وهي أن الضعيف يهاب، وينكمش في ثيابه، ولا يقدم في المطالبة بالحق إقدام القوي؛ والضعيف هنا يشمل الضعيف في صحته، والضعيف في ماله، والضعيف في جاهه ومجتمعه، والمهتم في أول الأمر، وقبل أن ترفع التهمة عنه ضعيف أيضاً، وعمر يريد من أبي عبيدة، وهو في كرسي القضاء، أن يعطي الضعيف فرصة يتجرأ فيها على قول ما يريد، مما يبسط أمره.
ثم لا ينسى عمر – رضي الله عنه – أمرًا نفسيًّا آخر، وهو أمر الغريب، الذي جاء من مسافة بعيدة، فهو ضيف ثقيل على نفسه في بلاد الغربة، وضيف ثقيل على غيره، فإذا طال بقاؤه، دون أن ينظر في شكواه، فإنه يجد أنه أربح له أن يعود أدراجه، ويترك أمر ظلامته، وحينئذ يقع الإثم – وما أكبره – على المتسبب، وهو الحاكم القاضي.
وعمر يعرف أن المتقاضيين عند الحكم، لن يكونا راضيين كلاهما، بل لابد أن يكون أحدهما ساخطاً، ولهذا فهو يحثه على أن يصلح بينهما ما أمكن ذلك، مالم يكن الصلح يحرم صاحب حق حقه الواضح. وهذه نظرة عميقة من عمر إلى من ولي أمرهم، وأصبح فكره مشغولاً بما يصلح شأنهم.
وعين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لاتغمض عن أمور الناس تحت حكم عماله، فهو يتابع تصرفاتهم، ويتحرى عن إدارتهم لأمور الرعية، وإذا رأى خللاً سارع بسد ثغرات الخطأ فيه، وحتى يكون قوله منفذًا باقتناع، فإنه يعطي الأسباب التي بنى عليها رأيه، وخالف بها رأي عامله، وهذا يتبين من تصرفه مع أبي عبيدة عامر بن الجراح في القصة الآتية:
«شرب أبو جندل الخمر بالشام، فحبس عنه أبو عبيدة بن الجراح عطاءه، فكتب إليه عمر:
أما بعد:
فإني لا إخالك إلا قد كنت عوناً للشيطان على أخيك، فإذا أتاك كتابي هذا فرد عليه عطاءه.
وكتب إلى أبي جندل:
﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتٰبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَآ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إلَيْهِ الْـمَصِيرُ﴾(14).
لقد اجتهد أبو عبيدة في صرف أبي جندل عن شرب الخمر، ورأى أن مما يساعده على شربها وفرة المال في يده، فظن أنه بحرمانه منه يساعده على التخفيف منه، ثم الإقلاع. إلا أن عمر تنبه إلى ما قد يكون غاب عن أبي عبيدة، وهو أنه قد يلجأ إلى ما هو أسوأ من شرب الخمر، فيكسبه الشيطان في صفه، وأقل الأمور سوءًا أن يستدين أو يستجدي، لهذا عمر أعطى أمرًا جازمًا بإعادة ما اقتطع منه.
ولكن عمر لم ينته من العلاج، ولابد من الالتفات إلى الجانب الآخر في هذا الأمر، وهو أبو جندل نفسه، لقد وجد أنه يكفي أن يذكره بأوامر الله، ويبصره بنواهيه، من قرآنه الكريم، والحر تكفيه الإشارة.
عمر في المدينة، وذهنه فيها، وفي الشام، وفي العراق، يتتبع تصرف العمال، وما يهم الناس، فيأتي بالدواء الناجع، ولو كان مرًّا، ولو كان هو شاربه.
ويقظة عمر، ونباهته، تجعله يلاحظ أدق الأمور، ويبدو أنه كان حريصاً أن يضع لعماله نظاماً متناسقاً يسيرون عليه، حتى تسهل متابعته لتطبيقهم إياه، والسير في هديه، فيقل الاجتهاد من قبلهم؛ لأنه قد يأتي منه زلل. أما هو فلا يصدر منه إلا ما محص، وانتقي من بين آراء عديدة.
وقد حرص عندما بعث أبا موسى الأشعري عاملاً على البصرة، أن يوجهه إلى الطريقة التي اختارها له في إدخال الناس مجلسه، والنص كما يلي:
«كتب عمر إلى أبي موسى، وهو بالبصرة:
بلغني أنك تأذن للناس جَمًّا غفيرًا، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف، وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة»(15).
ذهن عمر مرتب، وما يأتي منه يأتي مرتباً، ولهذا فهو لم يرض عن الطريقة التي اتبعها أبو موسى، لما في ذلك من خلل، أوضح مسالكه أنه يعطي فرصة لبعض العامة أن يزاحم العلماء، ويأخذ مكانهم، وهذا سوف يؤدي بخيرة القوم إلى هجر مجلس أبي موسى تدريجاً، رفعة بأنفسهم عن أن يزاحموا العامة الذين أقدر منهم على ذلك.
والعامل والقاضي، وعملهما في زمن عمر يتداخل، هما مسقط نظر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فهو يحرص على أن يوصيهما، وأن يرشدهما إلى ما وصل إليه من رأي، جاء بعد تفكير عميق، واستشارة حفية، ومثل ما أوصى أبا موسى الأشعري عن جانب من جوانب عمله، أوصى شريحاً القاضي وصية ثمينة، تخص القضاء، وكيفية اتخاذ الأحكام، وهذا جانب يشغل ذهن عمر، والأمر الذي أصدره جاء النص فيه هكذا:
«قال الشعبي:
لما بعث عمر – رضي الله عنه – شريحاً على قضاء الكوفة، قال له:
ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله، ومالم يتبين لك في السنة فاجتهد رأيك»(16).
ويعيد ما قاله لقاض آخر، ويزيد بعض ما وجد أن من المفيد إضافته، وقد يكون هذا جاء بعد تجربة بعض القضاة والعمال، مما تبين له أن ينبه إليه، وله في هذا وصية لابن مسعود، تجري ألفاظها هكذا:
«لما وجه عمر ابن مسعود على الكوفة قال:
إني وجهتك معلماً، ليس لك سوط ولا عصا، فاقتصر على كتاب الله، فإنه كفاك وإياهم، ولا تقبل الهدية – وليست بحرام – ولكني أخاف عليك الغالة»(17).
إن هذه النصيحة لم تفقد قوتها إلى اليوم، فهي صالحة لكل زمان؛ لأنها أساس لأي قاض يطلب التوفيق والنجاح. وعمر جعل نصب عينه التسلط على الرعية من قبل المسؤول عن أمرهم، فليس كل عامل أو كل قاض واسع الصدر، يتحمل جفاء المتداعي مع خصم، وقد يخرجه اللجج عن الحد المرسوم له، وتأخذه العزة بالإثم، فيتصرف بقسوة، وهو ما يود عمر من منصوبيه أن يحاذروه.
ثم ينبه إلى أن مركزه لا يصلح معه قبول الهدية، ثم يسارع عمر – رضي الله عنه – خوفاً من أن يفهم أحد أن قوله مناقض لما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، من أنه قبل الهدية، فيستدرك عمر، ويؤكد أن الهدية ليست حراماً، ولكن حماية للقاضي من القيل والقال عليه ألا يقبلها، والقول في القاضي يجرح جرحاً عميقاً، وما قد يقال يسري بين الناس مثل النار في الهشيم، «وما اعتذارك من قول إذا قيلا».
* * *
الهوامش:
- ربيع الأبرار: 4/347.
- ربيع الأبرار: 1/496.
- ربيع الأبرار: 4/249.
- محاضرات الأدباء: 68؛ البصائر: 3/94.
- البصائر: 1/189، ومن أقواله في الكوفة: كنز الإيمان، وجمجمة العرب، ورمح الله الأطول. ربيع الأبرار: 1/308، وقد يكون موضوعاً على لسانه من أهل الكوفة في منافستهم مع البصرة.
- المحاسن والمساوئ: 271.
- يصارع يميل إلى أحد الخصمين.
- البصائر: 6/139.
- البصائر: 6/139.
- البصائر: 6/140.
- ربيع الأبرار: 3/67.
- الإشراف: 156، قارنه بما جاء في الذهب المسبوك: 205.
- الإشراف: 156.
- ربيع الأبرار: 1/390.
- أخبار القضاة: 1/286.
- البصائر: 6/32.
- أخبار القضاة: 2/188.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1433هـ = يوليو – سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36