إلى رحمة الله
بقلم : رئيس التحرير
كنتُ في رحلة إلى مدينة «مَدْرَاس» – تِشَنَّئي حاليًّا – عاصمة «تامل نادو» بجنوبي الهند، لعلاج عيني اليسرى في مستشفى «شنكر نيتراليا» وكان يوم الإثنين: غرة جمادى الأخرى 1433هـ الموافق 23/أبريل 2012م هو اليوم الأول الذي قصدتُ فيه المستشفى للفحص الطبّي للعين؛ حيث وصلتُ المدينةَ بالقطار قادماً من «دهلي» في نحو الساعة 8:30 من الليلة المتخللة بين الأحد والإثنين: 29/جمادى الأولى – 1/ من جمادى الثانية الموافق 22-23/ أبريل. وكان الوقت نحو الساعة 2 ظهرًا، وكنا قد خرجنا من المستشفى نقصد مسجدًا لأداء صلاة الظهر، مغتنمين فترةَ تناولِ الأطباء والموظفين الغداءَ، إذ رنّ جرس الجوّال في جيبي، وانتزعتُه منه – الجيب – وضغطتُ على زرّ التلّقي فإذا بإحدى بناتي تقول في صوتٍ مُتَهَدِّج: أبي! إنّه منذ دقائق توفي الشيخ الحكيم عبد الحميد بنوبة قلبيّة أصابته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وقد دُهِشْت لهذا النعي المفاجئ لموته رحمه الله؛ فقد غادرتُ «ديوبند» وكان صحيحاً ليس به أيُّ شيء يشير إلى أنّه سيفارقنا عاجلاً إلى رحمة ربّه؛ ولكن الموت إذا جاء أجله لايستأخر ساعةً ولا يستقدم، وقد عاودني لوقت طويل كيفيةٌ مركبة من شدة الحزن والأسف، وهاتفتُ عددًا من الأساتذة بالجامعة، الذين كنت أتوقع أنهم سيحيطونني علماً بسبب موته المفاجئ، ولكنهم ما استجابوا، إلاّ الشيخ عبد الخالق السنبهلي الذي أحاطني ببعض التفصيلات بهذا الشأن.
وكان حزنُنا على وفاته أشدّ من غيرنا من كثير من الأساتذة والمنسوبين في الجامعة؛ لأنه كان قد صار جارًا لنا منذ شعبان 1432هـ؛ حيث سكن الدور الأرضيّ من السكن العائلي الجامعي المعروف بـ«أفريقي منزل قديم» الذي نسكن دوره الفوقانيّ نحن منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان رحمه الله يسكن مع عائلته من ذي قبل في سكن جامعي عائليّ داخلَ الجامعة. وذلك في الجانب الشرقي الشمالي من السكن الطلابي الجامعي المعروف بـ«الدار الجديدة» الذي يعاد بناؤه منذ سنوات.
وأقيمت الصلاة عليه بعد صلاة العشاء من الليلة المتخللة بين الإثنين والثلاثاء: 1-2/جمادى الأخرى 1433هـ في محيط «مولسري» بالجامعة، وأمَّ بالناس فيها فضيلة الشيخ نعمة الله الأعظمي أحد أساتذة الحديث بالجامعة، ودفن بالمقبرة الجامعية المعروفة بالمقبرة القاسميّة.
كان رحمه الله من معاصرينا في الدراسة في الجامعة؛ حيث كان قد تخرج من الجامعة حاملاً شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية وكان يتعلم في الكلية الطبية التابعة للجامعة عندما التحقنا بالجامعة؛ ولكنه كثيراً ما كان يحصل لنا التلاقي معه في محيط الكلية الطبية الواقعة في الجانب الشمالي من مباني الجامعة المركزية؛ حيث كنا كثير الاختلاف إليها – الكلية – للاغتسال، وغسيل الثياب، وزيارة الشيخ عزيز الرحمن رحمه الله (1336-1430هـ = 1918-2009م) الذي كان من كبار أساتذة الكلية، وكان يسكن غرفةً في محيطها. كما كان يتم لقاؤنا معه في غرف بعض زملائنا في الدراسة الذين كانوا من مديريته «بستي» إحدى المديريات الشرقية بولاية «يوبي» وكانت بيننا وبينهم صلاتُ ودّ عميقة جدًّا، فكثيرًا ما كنا نتزاور، ونتآكل ونتشارب، ونتنازه ونتماشى، ونتشارك في كثير من الأشغال ذات الاهتمام المشترك والرغبة المتبادلة. وكان الفقيد رحمه الله ضحوك السنّ، حليم الطبع، كثير المشاطرة في الرأي والمشورة، سمح النفس، سليم دواعي الصدر، فكنّا نرتاح كثيرًا في الحديث معه، وتلقّى الرأي والمشورة منه؛ حيث كان يكبرنا سنًّا، فكان يزيد عنّا تجربة للحياة، وخبرة بالناس، وإصابة في الرأي.
بعد ما تخرّج رحمه الله من الكلية الطبية بالجامعة، عُيِّن أستاذًا معالجاً بها، لكونه مؤهلاً قد بذل جهده ووقته في دراسة الطبّ، فكان من الشامّين بين زملائه في الدراسة في كلية الطب إلى جانب ما كان يتمتع به من الصفات الإنسانية التي تُؤَهِّل الإنسان للعمل في مهنة تُحْوِجُه للاحتكاك بكثير من الناس كلّ يوم، وعلى رأسها – الصفات – سماحة النفس، والحلم والصبر. وقد أثبت بتعامله مع الطلاب والأساتذة والمسؤولين وعامّة المرضى الذين كانوا يقصدون عيادة الكلية، أنه رجل مناسب في مكان مناسب، وأنه اختير له عن جدارة وأهليّة.
وعندما أتينا إلى الجامعة في شوال 1402هـ الموافق أغسطس 1982م أستاذًا للغة العربية وآدابها ورئيسَ تحرير لمجلة «الداعي» العربية الشهرية، ألفينا الفقيدَ أستاذًا في الكليّة محبوباً، لكونه يتقن المواد الطبية التي كان يقوم بتدريسها، ولكونه يتمتع بالحلم والكرم وسعة الخلق وسماحة الصدر، الصفات التي تُحَبِّب حاملَها في كل مجتمع يعيشه ويتعامل معه، وكان كثير من أعضاء المجتمع الجامعي بمن فيهم الأساتذة والمنسوبون والطلاب كانوا يستشيرونه في شأن الأمراض العامّة الموسميّة التي كثيرًا تصيب الناس إذا حلت الشتاء أو الصيف أو ما إلى ذلك؛ فكان يتلقاهم بترحاب وخلق حسن، ويفحصهم ويصف لهم الأدوية بنحو مجّاني، لايطلب منهم رسماً ماديًّا أو معنويًّا، وكان يُسَرُّ برجوعهم إليه وعرض مشاكلهم الصحيَّة عليه.
إنّ كلية الطب التابعة للجامعة، كانت قد أُنْشِئت عام 1380هـ الموافق 1960م، والتحق بها الشيخ عبد الحميد رحمه الله عام 1387هـ/1967م وإثر تخرجه منها عُيِّن أستاذًا بها في يوم الأحد: 29/ربيع الأول 1392هـ (14/أبريل 1972م) وظلّ يعمل بها حتى أُلغيت في 10/مارس 1986م الموافق 27/جمادى الثانية 1406هـ لعوائق قانونية حكومية اعترضت سبيلَها، فعُيِّنَ مديرًا للمكتبة الجامعية المركزية في 24/ ذوالحجة 1406هـ (2/يوليو 1986م) وكان مجلسه في المكتبة عيادته العامّة التي كان يقصدها الطلاب والأساتذة وعامّة الموظفين من وقت لآخر للاستشارة معه في خصوص الأمراض التي كانوا يشكونها هم أو عضو من أعضاء عائلاتهم، فكان يصف لهم ما يراه من الأدوية التي كان يعالج بها المرضى حسب الطريقة العلاجية المُتَّبَعَة في الطب اليوناني العربي الذي دارسُه والمتخرج فيه يُسَمَّى بـ«الحكيم» بينما يُسَمَّى الدارس للطب العصري الغربي الحديث بـ«الطبيب» من ثم كان الشيخ عبد الحميد يُدْعَىٰ بكلمة «الحكيم» التي كانت قد صارت جزءًا من اسمه، فلو دُعِيَ بغيرها لما تبادرت الأذهان إلى شخصه.
ظلّ الشيخ الحكيم عبد الحميد رحمه الله يسكن مع عائلته في سكن جامعي عائلي قديم البناء في إحدى نواحي السكن الطلابي الجامعي المعروف بـ«الدار الجديدة» الواقعة بجانب «رفيع منزل» في الجانب الشرقي الشمالي من السكن الطلابـي المذكور. ولما حان وقت هدمه لإعادة بنائه، انتقل على أمر من الإدارة الجامعيّة إلى جزء من الدور الأرضي من «أفريقي منزل قديم» في شعبان 1432هـ. وقد عُنِيَ رحمه الله كثيرًا بتجهيزه له حسب ما شاءت واقتضت طبيعته فأجرى فيه لمسات تحضيرية دقيقة في أرضية الغرف وفي أخشاب النوافذ والأبواب، حتى أعاد تدهينها، وجمع إلى سكنه الجديد كلّ ما كان يحتاج إليه من الوسائل المتاحة له إلى جانب ما نقله إليه من الأغراض التي كان يستخدمها في سكنه القديم داخل الجامعة، ولا زال معنيًّا بتوفير ما كان يراه أنه لابدّ للعيش الكريم في هذا السكن؛ وكان لايدري أن ذلك كله لاينفعه، لأن حياته فيه قصيرة، وكأن هذا السكن الجديد نبا به ولم يواته ولم يسعد به هو كما سعد بالسكن الأول الذي سكنه نحو أربعين عاماً.
في يوم السبت 2/ربيع الثاني 1433هـ الموافق 25/فبراير 2012م مات أحد زملائنا في الدراسة في الجامعة، في مدينة «مُمْبَاي» – «بمباي»سابقاً – وهو الأخ الشيخ الحكيم أسلم البستوي القاسمي. وقد نعاه إليّ أحد زملائنا في الدراسة وهو الأخ الشيخ نثار أحمد البستوي القاسمي الذي يقوم بالتدريس في مدرسة في مدينة «بستي» فكنت على علم بذلك؛ لأنه أخبرني بموته في الوقت الذي كان يجرى تورية جثمانه في التراب في مدينة «ممباي»في نحو الساعة العاشرة صباحاً. وعندما نزلت من الدورالفوقاني الذي أسكنه في «أفريقي منزل قديم» والذي كان يسكن دوره الأرضي الشيخ عبد الحميد رحمه الله، وكان راجعًا من المسجد بعد أداء صلاة الظهر، وكنت متجهاً إلى الجامعة لتدريس الحصة الخامسة، فأمسك بيدي في الطريق أمام سكنه وقال: هل تعلم أن زميلك في الدراسة الشيخ الحكيم أسلم البستوي قد انتقل اليوم إلى رحمة الله. قلت له: نعم بلغني الخبر بذلك في الصباح عن طريق الشيخ نثارأحمد. وجعلنا نتبادل التعزية حول المصاب؛ لأن الفقيد كان من سكان مديريته – الشيخ عبد الحميد – وكان لنا زميلاً في الدراسة محبًّا لنا، ومشاركاً لنا في كثير من القضايا ذات الاهتمام المشترك. قال الشيخ: إن الموت حق، ولايعلم أي منّا متى يداهمنا؟ قلت له: بارك الله في عمرك وأدام لك الصحة والعافية، ولا أراك سوءًا ولامكروهاً. قال: إننا نحن أيضاً متجهون إلى ذلك المنزل، لأننا قد تعدَّينا الستين، وبعد الستين لايُعْتَمد على الحياة، لأن عمر الإنسان ينضج بعد ذلك؛ وما يعيشه من العمر بعده إنما يعشه أكثر من اللازم، يعيشه نافلةً له. فأعدت له الدعاء المذكور، وقلت: إنك ستعيش إن شاء الله طويلاً، لأنك طبيب تعرف ما يجب أن تلاحظه للإبقاء على الصحة واجتناب ما يضرها ويقصّر العمر. قال: إن الطبيب يكون كثير الشك في كل ما يأتي ويذر من المأكولات والمشروبات، وهذا يضر على الصحة كثيرًا. أما غير الطبيب، فيكون غير مهتم بأي شيء يتناوله؛ لأنه لايعرف مضاره ومنافعه، فذلك يترك على صحته آثاراً إيجابيّة ويبقى صحيحاً ومعافى، ممدودًا له في العمر.
عندها لم ندرِ أنه يخبرنا بمفارقته للحياة بعد شهرين أو ثلاثة شهور. رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
عندما كان الفقيد يسكن سكنه الأوّل داخل الجامعة، وكنت أدخلها لتدريس الحصه الخامسة، فكنت أمرّ دائمًا بمحيط «باغ» الشهير في الجامعة، وربما كان دخولُه المحيط يزامن دخولي إيّاه، لأنه كان يكون متجهاً إلى المكتبة الجامعية التي كان يعمل مديرًا لها، وكنت أكون متجها إلى فصل الصف السادس لتدريس ديوان المتنبئ، فكثيرًا ما كنا نتبادل قائمين استخبار الأحوال والحديث حول القضايا الساخنة بعد ما كنا نتبادل السلام، ولا نزال نحفظ المواقف التي كنا نقف فيها متبادلين مستخبرين الأحوال.
لم يكن الفقيد كاتباً أو مُؤَلِّفا، وإنما مَارَسَ فقط التدريسَ والعلاجَ؛ حيث عمل أستاذًا لمادة الطب ومعالجاً في كلية الطب الجامعيّة لفترة غير قصيرة، كما كانت له عيادة خاصة في حيّ «بتهانبوره» بمدينة ديوبند، ظلّ يتناول فيها المرضى بالفحص والعلاج على طريقة الطب اليوناني العربي لآخر لحظة من حياته، حيث كان يمضى فيها وقته من بعد صلاة العصر حتى أذان صلاة العشاء، وكان يقصده فيها بصفة خاصّة الفقراء والطبقة الكادحة من المسلمين وغير المسلمين؛ لأن العلاج بالطريقة الطبية اليونانية رخيصة بالنسبة إلى العلاج بالطريقة الطبيّة العصرية كما أن الأدوية اليونانيّة لاتحمل مضارّ جانبية. وكان ذلك وسيلة اتصال له بالشريحة العريضة من الشعب، فكان يعرفه كثير من الناس ويحبّونه. وكلهم قد حزنوا كثيرًا على وفاته، وتذكروا الحبّ والعطف اللّذين كان يتناولهم بهما خلال معالجتهم وفحصهم وتشخيص أدوائهم، ووصف الأدوية لهم.
وكان كثير الدراسة للكتب والمجلات الإسلامية الأردية التي كان يتوفّر على دراستها في غرفته في المكتبة كلما كان يجد فرصة من الأشغال الرتيبة. وكان معجباً بما كان يكتبه كاتب هذه السطور بالأرديّة، وكان يدرسها في حرص بالغ، وربما كان يبدى انطباعه الجميل نحو فكرة خاصّة أو نقطه ذات اهتمام لديه أو رأي كان يعجبه، وكان يذكره لي لدى أول لقية معي بعد قراءة مقال أو بحث لي. ولكثرة دراسته كان كثير الاطّلاع على الأوضاع الحاضرة والقضايا المعاصرة التي يهم الإسلام والمسلمين في العالم عموماً وفي الهند خصوصًا. وتكوّن لديه في هذا الاتجاه مذاق خاصّ، فكان يبدي آراءه في بعض القضايا الساخنة، مما كان يدلّ على نضج آرائه في بعض القضايا.
موجز ترجمته:
هو عبد الحميد بن لعل محمد، من سكان «بنجريا» بمديرية «بستي» بولاية «يوبي». ولد في 1/يناير 1948م (17/صفر 1367هـ). تلقى الدراسة الابتدائية في مدرسة نورالعلوم بمدينة «بهرائج» بولاية «يوبي» والتحق بالجامعة الإسلامية الأهلية الأم في شبه القارة الهندية: «دارالعلوم/ ديوبند» عام 1383هـ، وتخرج منها في الفضيلة في الشريعة الإسلامية عام 1387هـ، ثم التحق بكلية الطب التابعة للجامعة حيث تخرج منها طبيباً حاملاً لشهادة الطب اليوناني العربي 1392هـ، حيث عين بها أستاذًا ومعالجاً بها في 29/ ربيع الأول 1392هـ. وبعد ما ألغيت كلية الطب لعوائق قانونية حكومية، عين مديرًا للمكتبة الجامعية المركزية في 24/12/1406هـ.
وقد خلف رحمه الله وراءه زوجته وابناً وثلاث بنات تولاها الله برعايته وعنايته.
كان رحمه الله ربعة من الرجال مائلاً إلى القصر، وكان معتدل الجسم لاسميناً ولا نحيلاً، أسمر اللون، وقد شابت أشعار لحيته ورأسه، فكان يخضب لحيته بالحنّاء، وكان حلو المنطق، طلق الوجه، كان يحبه مخالطوه ومنادمون وكل من عمل تحته في المكتبة من الموظفين، وكان رجلاً يألف الناس ويألفونه، لحسن خلقه وكريم شيمته وعذوبة منطقه وكونه نافعاً للخلق من حلال مهنته الطبية التي كان ينفع بها الخلق، ولم يكن يكسب منها المال الكثير، ولم يتخذه ذريعة إلى امتصاص ما عند المرضى من الثمالة الباقية من الدم، كما يصنع معظم الأطباء بالطب الحديث الذين يشكلون «فريق قطاع الطريق» الذي ينهب أموال الناس ويروعهم بأساليب ماكرة.
جزاه الله خيرًا، وأدخله جنة الفردوس، وغفر جميع زلاته، وزاد حسناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
(تحريراً في الساعة 6 من مساء يوم السبت: 27/ جمادى الثانية 1433هـ الموافق 19/مايو 2012م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36