إلى رحمة الله
بقلم : محمد شاهنواز القاسمي البلياوي
أستاذ مادة اللغة العربية “الكويت”
كان فضيلة الشيخ محمد ظفير الدين المفتاحي ـ رحمه الله ـ ذا تجارب واسعة، حلب الدهر أشطره، سديد الرأي، بعيد غور الحجة، واسع العلم بالدين، قوي البصر بالفقه، بعيدًا عن السمعة الكاذبة والرياء، متساميًاعن الزخرف والصنعة، رقيق القلب، وافر الحنان، كاتباً قديراً بالأردية، مؤلفًا نابهًا لأكثر من عشرين كتابًا قيّمًا، جميل الخط اليدويّ كسلك اللؤلؤ، بسيطًا في المقال، عميقاً في المعنى، يخزن لسانه فيما لايعنيه، كثير الترديد للتسيبيح والتحميد، يملك لسانًا ذربًا، يتعامل حتى مع الصغار برفقٍ، ويسدي إليهم النصح في إخلاص، ويولي إياهم العطف والحدب، ضابطًا للأوقات، متحليًا بالورع والتقى، يتمتع بعلو الهمة وثبات الجنان مما يعينه على التخلص من المكاره، والمواقف الصعبة، صابرًا محتسبًا جليدًا على الشدائد، علاوة على جمال خلقه ونبل معدنه.
وُلد في عام 1344هـ = 1926م في أرض وطنه «فوره نوديها» بيهار الهند. وتخرج في مفتاح العلوم بمدينة مئو، على العلماء الكبار وأساطين الفضل والنبوغ ولاسيما الشيخ الجليل المحدث الفريد والمحقق الضليع حبيب الرحمن الأعظمي – رحمه الله – 1412هـ = 1992م) الذي استفاد من علومه الغوالي وأفكاره العوالي واستزاد من عوارفه النوادر، وتشرَّب روح البحث والدراسة لديه مدة لايستهان بها.
وألف أكثر من عشرين كتاباً نافعاً في مختلف الموضوعات خاصة الدين والتأريخ، والسيرة للأعلام النبلاء بالإضافة إلى مئات من المقالات القيّمة الدسمة التي دبّجها يراعه بين آونة وأخرى.
كان المفتي رحمه الله – على جانب كبير من جمال الخلّة وحسن الخلق، وسلامة دواعي الصدور ودمائه النفس، ونعومة الحديث وألمعيّة العقل، وصدق النية وصلاح الطويّة، وصفاء النفس وبهاء الوجه، كما كان يكره النفاق والازدواجية في مناحي الحياة، من لقيه رجع عنه بانطباع جميل، حتى إذا زرته وهو مكب على إنجاز أعماله اللازمة التفت إليك بكل كيانه، فلا تلمح في جزء من أجزاء حياته الخيلاء، والشموخ بالأنف والتكبر، ويتعامل حتى مع الصغار بدقة وحكمة، ويولي العطف والحدب لمن يتلمذ أو يقرأ عليه، ويصدر عن الإخلاص في أعماله الموكولة إليه، ويشير على من استشاره في أمر بتعقل وكياسة، وينقطع إلى أعمال الدراسة والبحث في شغف ونهم بالغين، ويكب على أعماله الإفتائية في مواعيدها المحددة، ويواظب على الحضور في الصف الأول في الصلوات الخمس، والتلاوة على كلام الله العزيز، والترديد للأوراد المأثورة بكل عناية، ويعتني بأداء صلاة التهجد بالاستمرار، ويحب التقيّد بالنظام في مناشط الحياة ويكره الفوضى والإخلال بالنظام، وكان جميل الخط إلى رشاقة المعنى وجودة الصياغة، كما كان يضرب في الخطابة بالسهم الوافر ضرباً أعانه على فتح الثورة ضد الاحتلال الإنجليزيّ. كان واسع العينين المتقدتين ذكاءً وألمعيّة، عريض الجبهة، أسمر اللون، كبير الفم، خفيف العارضين، يعلو وجهه النور.
وقد أسندت إليه – رحمه الله – مسؤولية رئاسة مجمع الفقه الإسلاميّ بالهند في أعقاب وفاة مؤسسه الفقيه الهنديّ الجليل في العصر الأخير العلامة القاضي مجاهد الإسلام القاسمي – رحمه الله – (1355-1423هـ = 1936-2002م) إثر تشاور تداوله الأعضاء في الاجتماع، فنشط المفتي – رحمه الله – وهو طاعن في السن وركض وجال، وسعى جاهدًا في تطوير الفقه، وتوسيع نطاق الإفتاء، كما نفخ روح البحث والدراسة في قلوب خريجي الجامعات الإسلامية في الهند، ونشّط العلماء ذوي الكفاءة النادرة من أجل إيجاد حلول صائبة سليمة للقضايا الحديثة التي تتطلب النظر والدراسة، وأهّل العلماء الشباب للتأليف والترجمة في الموضوعات الفقهيّة الساخنة خصوصاً والموضوعات الإسلامية عموماً، مما أسفر عن ظهر كوكبة من الفقهاء يقدرون على تبديد الظلام من الشبهات وجلاء النور من الدين والعقيدة، والكشف عن الضلال والعمى، ودفع الأوهام وإعادة الثقة بالإسلام وأحكامه والحفاظ على الدين في أصله.
وأكبر ميزاته أنه كلما وجد نفسه يقابل الشدائد ويواجه المحن، والطريق محفوفة بالشوك والقتاد، والساحة مكتظة بالحشد الغفير من البشر فشمّر عن ساعد الجد، وتسلّح بالعتد والعتاد، وملأ جعبته وراش سهمه، مما مكّنه أن يزاحم الناس بالمناكب ويتصدر الموكب فصرف جل هممه في أعماله النوادر ووضع طاقاته في القضايا الشوارد، وعصر مؤهلاته كافة في إنجاز الفتاوى الشواغل، مهما نبا به الزمان وتخاذل عنه الموقف.
أوتي قدرًا كبيراً من فصاحة المنطق وبلاغة الأداء وثبات الجنان، فساهم في تحرير البلاد من أيدي الإنكليز الغلابة، بكلماته الحماسيّة وخطبه المدوّية التي تهزّ العواطف وتدق المشاعر، وتوقع على أوتار القلب، فهاج الناس وماجوا، وامتلؤوا غيرةً ونخوةً على وطنهم مما أثار الغضب لدى الظالم الغشوم، فأمر بحبسه، ولكن القضاء والقدر أنقذه من أيديه الظالمة فارتدّ إلى وطنه سالماً معافىً.
انقطع خلال حياته إلى ممارسة شؤون التدريس فتقلبت به الوظائف في مختلف المدارس الإسلامية في أرجاء الهند، حتى قاده حظه الموفور إلى كبرى الجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية دارالعلوم/ ديوبند. وتقلد فيها عدة وظائف رئيسة أثبت من خلالها تميزه ونبوغه وتفرده، وظل مفتياً لها عدة سنوات.
لم أر من هذا العالم الجليل أيام إقامتي بمدينة ديوبند ولاسيما لدى قراءتي عليه الدر المختار على رد المحتار إلا تلك العبرات التي تساقطت حباً لله وحبيبه، كما لم أر إلا النور الساطع من شيبات رأسه التي أفناها في طاعة الله وحسن عبادته، وقضاها في الإفتاء والقضاء وهداية البشر إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولم أجد بين عينيه إلا التقوى التي تحتضن تلك الجبهة العاشقة للسجود. ليس له من حظ يديه إلا العلم والفقه وحب العلم وأهله، وليس في حجرته إلا كتابه وقلمه، كان داعية بصيرًا لايخرج من حروف صوته إلا همسات إيمانية عذبة تشجو بها النسمات والعبرات قبل الآهات الحانية.
جاءني نبأ وفاته يوم الخميس 25/ربيع الثاني 1432هـ = 30/مارس 2011م وأنا بعيد عنه في دارالغربة فاحرق قلبي وأدماه. وذلك في أعقاب تداعيات الشيخوخة المتكاثرة التي جعلته طريح الفراش لمدة مديدة، وجرى التشييع له وسط حضور علمي ودعوي وديني وشعبي ورسمي بعد ما صلى عليه في أرض وطنه.
فرحمه الله رحمةً واسعةً، وغفر له زلاته، وبوأه فسيح جناته، وألهم أبناءه وذويه الصبر والسلوان.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36