إشراقة
الانحطاط السياسي يُؤَدِّي إلى انحطاطات كثيرة وتداعيات خطيرة لا تُعَدُّ و لا تُحْصَىٰ، على رأسها الانحطاط الثقافي والانحطاط الحضاري والانحطاط الفكري الشامل إلى جانب الإنحطاط العسكري والانحطاط الاقتصادي اللذين يواكبانه – الانحطاطَ السياسيّ – خطوةً بخطوة، ويلازمانه في جميع مساراته، وكأنهما إفرازٌ طبيعيٌّ له لايمكن تصوّرهما إلاّ في إطاره وبشعاره.
نظرةٌ عُجْلَىٰ على ما عاناه العالم الإسلاميّ منذ سقوط الدولة العبّاسيّة (132-656هـ = 750-1258م) وما عاناه من الإفلاس الشامل الذي جعله يشعر كأنه صار يتيماً لاوليَّ يرعاه ولا مُناصِرَ يقف بجانبه بعد سقوط الخلافة العثمانية التي امتدت فيما بين (922-1342هـ = 1516-1924م) وإذا وضعنا في الاعتبار عهد مؤسسها الأول السلطان عثمان الأول (680-724هـ = 1281-1324م) الذي بعده بقليل أسست إمارةً عام 1326م (726هـ) على عهد خلفه السلطان أورخان (724-761هـ = 1324-1360م) وتحوّلت عام 1516م (922هـ) خلافةً؛ فإن الخلافة العثمانية تكون قد حكمت العالمَ الإسلاميَّ طَوَالَ ستة قرون متتالية، ولم تسقط إلاّ بمؤامرة من الصليبية الحاقدة والصهيونية اللتين صارت منذ أمد بعيد صديقتين حميمتين لا تنفكّان في ساحة من ساحات العمل والتفكير والتنفيذ.. نظرةٌ عُجْلَىٰ على الوضع المُتَرَدِّي المُرْدِي الذي يعيشه اليوم العالم الإسلاميّ في مشارق الأرض ومغاربها، تُؤَكِّد ما يودّ كاتبُ هذه السطور أن يُجْلِيه، أن الانحطاط السياسيَّ يستتبع انحطاطات لا تُعَدّ تتفاقم مع مرور الأيّام، وتشتـدّ وطأتُهــا بالأمــة التـي تُمْنَـى بالانحطاط السياسي، ولايتغيّر الوضعُ مهما حاول المصلحون والزعماء، والمُهْتَمُّون بحال الأمة، الحريصون على مصالحها، المُتَأَلِّمون على حالتها المُرْدِية، من العلماء والقادة والمفكرين، والكُتَّاب والخطبـاء والمُــؤَلِّفين، مالم يتغــيّر الوضع السياسيّ، ويتحوّل السقوط السياسيّ إلى الصعود، والتخلف السياسي إلى التقدم.
وأسوأ وأخطر إفرازات الانحطاط السياسيّ على الإطلاق هو ما تُمْنَىٰ به بشكل طبيعيّ محتم الأمةُ المصابة بالانحطاط السياسي من مُرَكَّب النقص أو الدونيّة (Inferiority complex) والخضوع المطلق لمُرَكَّب الاستعلاء أو التفوّق (Superiority complex) الذي تَتَمَلَّأ منه الأمةُ المنتصرةُ سياسيًّا فعسكريًّا واقتصاديًّا؛ حيث إن الأمة المنحطة تعود تؤمن بأن ما مُنِيَت به من الانحطاط وتداعياته، إنما هو نتيجةٌ حتميةٌ لما لـديها من ثقافة وحضارة، وعادات وتقاليد، ومنهج حياة، حتى ما تعتقده من عقيدة، وما تعتنقه من ديانة، وما تتعامل به من قيم ومثل، وما تنطق به من لغة ولهجة، وما تتعوده من أخلاق وشمائل، وما تعيش عليه من طراز الملابس وتشكيلات الثياب وأساليب المكياج؛ فيأتي عليها حينٌ تحتقر فيه هذه الحُرَمَ القوميّةَ الوطنيةَ احتقارًا لا نهايةَ له، حتى تنخلع عنها أو تشك في حرمتها وقيمتها لحدّ أنها تغيّر فيها تغييرًا كبيرًا يجعلها لايبقى منها إلاّ رسمُها أو اسمُها.
وغنيٌّ عن القول: إنّها تصبح تفقد غيرتَها تُجَاهَها؛ فلا تتحمّس لها ولا تهتمّ بالحفاظ عليها واتخاذ التدابير دون ضياعها؛ لأنّها لاترى لها قيمةً، وإنما ترى القيمةَ كلَّها لما لدى الأمة المنتصرة عليها سياسيًّا وعسكريًّا، فتحاول جهدَها أن تصير نسخةً طبقَ الأصل منها – الأمة المنتصرة – في كل من العادات والتقاليد، واللغة واللهجة، والثقافة والحضارة، ومنهج الحياة، والأسلوب الاجتماعي والفردي، وطراز ما ترتديه من الملابس، وما تتناوله من الأطعمة والأكلات. وقديمًا أكد المؤرخ والفيلسوف الاجتماعي المسلم العربي الكبير العلامة أبوزيد عبد الرحمن بن خلدون (732-808هـ = 1332-1406م) في مقدمته التي أسس فيها علمَ العمران والاجتماع أن المفتوح والمغلوب يكون مُولَعاً بمحاكاة الفاتح والغالب.
ومن ثم ترى المسلمين حتى العرب الذين عُرِفُوا بغيرتهم ونخوتهم – حتى في الجاهلية فضلاً عن عهدهم بالإسلام – تجاهَ موروثاتهم ومقوماتهم الحضارية والثقافية والاجتماعية، وما عاشوا عليه من تقاليد عريقة، وعادات شريفة، ولغة افتخروا بها على الأمم كلها، حتى طنّوها – الأممَ – أعاجمَ لايقدرون على الإفصاح عما في ضمائرهم والإعراب عن أفكارهم، تراهم عادوا يحتقرون مالديهم من لغة وتاريخ، وتقليد وعادة، وحضارة فريدة، وثقافة نبيلة، ولغة سيدة اللغات، اختارها رب العالمين وعاءً لكتابه الأخير، ولساناً لنبيه الأعظم الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. إنهم عادوا يرون أن ما يعيشون من التخلّف والضياع نتيجةٌ لما يَتَبَنَّوْنَه من التراث العريق، من اللغة والتاريخ، وأسلوب الحياة، والتقليد والعادة، والحضارة والثقافةِ، فيتسارعون إلى تبنّي ما لدى غيرهم ولاسيّما الغرب الذي فرض اليوم هيمنتَه و وصايتَه على العالم كله بما أحرزه من التقدم العلمي العسكري الذي وضع أساسَه أصلاً العربُ والمسلمون لدى اتصالهم بالغرب عند انتصاراتهم المتسارعة الكبيرة على العالم؛ فصاروا لايحاكونه في جانب الجذور: في جانب العلم والتكنولوجيا، والتقدم الناتج عنهما، وإنما يحاكونه في القشور: في العادة والتقليد، وفي أسلوب الحياة، وأسلوب الملابس، واللغة واللهجة، والأكلات وأسلوب تناولها، والملابس وتشكيلاتها، حتى في تحرره المطلق من كلّ من الأخلاق والقيم، وفي فجوره وسفوره، وشذوذه عن الأُطُر الإنسانية الصحيحة في الحياة، التي كانوا يمتلكونها هم وحدَهم دون غيرهم بفضل الإسلام الذي أَخْرَجَهم من الظلمات إلى النور عن طريق سيّدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وفي كلّ شيء يُحَوِّل الإنسان أقربَ شيء إلى البهائم؛ حيث إن الغرب بعد ما لم يقدر أن يكون إنسانًا سويًّا، قَرَّرَ أن يكون بهيمةً من البهائم، وعدوًّا لنفسه ولكل من أفراد الحنس البشريّ، فعاد يُجَـــرِّب كلَّ مــا اهتــدى إليه من الحيل، ليصير ذليلاً مهانًا يحاكي البهائم؛ بل يصير أخسَّ ما خلقه الله من الحيوانات.
لقد كان العَرَب منذ أعرق تاريخهم، ولاسيّما منذ أن مَنَّ الله عليهم بالإسلام، مضربَ المثل في الغيرة على ما لديهم من العادات والتقاليد التي هَذَّبَها الإسلام، واللغة والثقافة اللتين ثَقَّفَهما القرآن، وخَلَّدهما خلودَ الكون؛ ولكنهم في العصر الأخير منذ أن انهاروا أمام الغزو الغربي الفكري بعدما كانوا هم والمسلمون كلُّهم قد انهاروا أمام الغزو السياسي الغربيّ، يبدو أنهم قد فقدوا مزيّةَ الغيرة على هذه المقومات الدينية والحياتية؛ فلم يُولَعُوا فقط بمحاكاة الغرب في العادات والتقاليد؛ بل أُخِذُوا بسحره في اللغة والثقافة؛ ولذلك لايثير لدينا أيَّ شيء من العَجَب عندما نقرأ في الصحف أن الجيل الجديد من أولاد العرب بدأ يتكأكأ عندما يتكلّم بالعربية، ويتعثر بلهجتها الفصيحة؛ لأنّه منذ نعومة أظفاره يُلْحَقُ بالمدارس المُخَصَّصة التي تقام في البلاد العربية لتعليم اللغة الإنجليزية وتربية النشء العربي على تشرّب ثقافتها. وقد أفادت الأنباء خلالَ الأعوام الأخيرة بنحو متواتر أن اللغة العربية الفصحى: لغة القرآن والشريعة الإسلامية ولغة الإسلام الرسميّة تواجه خطرًا حقيقيًّا من الغزو الثقافي الأجنبي الغربي المُكَثَّف المُسَلَّح بأسلحة متطورة متنوعة، الذي يستهدف الثقافة العربية الإسلاميّة في عقر دارها، كما يُلاحقها في كل مكان في العالم؛ كما أن اطفال العرب منذ رضاعتهم يَتَلَقَّوْن الحضانةَ عن طريق الخادمات الأجنبيات اللاتي ينطقن بشتى لغاتهنّ ويُشْرِبنَهم ثقافاتهن التي تختلف عن الثقافة العربيّة اختلافَ المرضى بامراض قبيحة مُزْمِنَة عن الأصحّاء صحةً موفورةً.
والأجانب ولاسيما الأجنبيات بثقافاتهن ولغاتهن الكثيرة هن خطر كبير على الثقافة العربية الصميمة واللغة العربية التي نطق بها النبي الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم. ومن حين لآخر يُكْثِر الكُتَّابُ والمفكرون العربُ الغياري على لغتهم وثقافتهم حول الموضوع، ويلفتون الانتباهَ إلى الأخطار الحقيقية الكثيرة الناجمة عن كثرة الخادمات الأجنبيات اللاتي صرن حزءًا لايتجزأ من الأسر العربية الثرية المُتْرَفَة التي صارت أكثر تغربًا وفقدًا للغيرة والشعور بالذات، وأصيبت بالميوعة، وصارت إمَّعَةً تجري مع الرياح، وتهبّ مع الطقوس، وتتكيّف مع أي عادة وثقافةَ أجنبية، وتتباهى بأنها تقدر على التكيف مع الكل، ولا تؤمن بالانطوائيّة والمحدوديّة وضيق الأفق!
إنّه من المُحْزِن المُبْكِي دماءً لا دموعًا أن نجد في الإخوان العرب ولاسيّما في بعض السفارات العربيّة مسؤولين عربًا يُمَثِّلُون بلادَهم يتقزّزون من الملابس العربية والشارات الإسلاميّة، ويُعْجَبون بالملابس الغربية من الشورط والبنطلون وما إلى ذلك، ويحبُّون ذوي السحنات الفرنجية، ومن يتكلم بالإنجليزية وبغيرها من اللغات الأوربيّة، ويكرهون من ينطق بالعربية ولاسيّما بالفصحى التي هي لغة الإسلام واللغة التي أحبها الله تعالى وآثرها على جميع لغات الدنيا التي خَلَقها، ليُنْزِل بها كتابَه المُهَيْمِن على الكتب السماوية كلها؛ ولذلك لايهتمون بهذه اللغة التي شَرَّفَتْهم، وأعْلَتْ قدرهم بين الأمم، ولايُعْنَوْن بنشرها في البلاد التي يعملون بها مُمَثِّلِين لبلادهم، ولايفكرون في اتخاذ تدابير وإيجاد آليّات لترويجها بين الأعاجم الذين يرغبون فيها ويحرصون على تعلّمها بدافع مادّيّ أو بعاطفة دينية، وإذا طلبوا منهم موادَّ أو كتباً تُعينهم على تعلّمها فلا يستجيبون لطلبهم، بل يرون ذلك من الفضول الذي لاطائلَ تحته.
وبالعكس من ذلك نرى السفارات الغربيّة وغيرها من سفارات البلاد الأجنبية غير العربيّة تهتم اهتمامًا كبيرًا بنشر لغاتها الوطنية، وتضع لذلك نظاماً مستقلاً، وتُوَفِّر كلَّ الموادّ التي تعين على تعلّمها لمن يرغب في التعلّم، وقد تقيم لذلك مدارس مُخَصَّصَة، وتجلب لها مدرسين من بلادها ناطقين بلغاتها، بارعين في تعليمها باللغات التي تنطق بها البلادُ التي تعمل فيها، وتُوَزِّع مجاناً الكتبََ والموادَّ التي تُمَهِّد السبيلَ لتعلّم لغاتها على الراغبين في التعلم، وتُخَصِّص حكوماتُها لذلك مبالغ باهظة؛ لأنها ترى ذلك من صميم خدمة الوطن والشعب، على حين إن لغاتها الوطنية ليست مما نزل به كتاب من عند الله، ولا تعتقد هي بذلك، ورغم ذلك تؤمن بقداستها؛ لأنّها هي لغاتها الوطنية، فهي تحبها حبًّا جمًّا نابعًا من حبّها للوطن والشعب، وتحبّ كل من يحبّ لغاتها، ويحاول أن يتعلمها وينطق بها ويتعامل بها مع من يعنيه.
حقًّا إنّ الغزو الفكري الثقافي هو أخطر الغزوات على الإطلاق؛ لأنّه يستهدف أول ما يستهدف أن يقطعَ الأمةَ المغزوةَ عن أعزّ وأثمن ما لديها من المقومات القومية، والخصائص الثقافية، والمميزات الدينية، باستخدام أساليب ماكرة تُزَهِّدها فيها، وتجعلها تكرهها وتحتقرها وتنخلع عنها، وبإعمال حيل خلابة تُحَبِّب إليها ما لدى الأمة الغازية من المنهج الحياتي، والأسلوب الاجتماعي، والعادات القومية، والتقاليد الوطنية، والثقافة البائتة التي تعتزّ بها، والحضارة المتطفلة على مأبدة الأجانب، التي تتباهى بها بين يدي الأمة المغزوة التي تكون قد فقدت كلَّ ما كان لديها من الموروثات العريقة الموغلة في القدم.
الإعجابُ بما لدى الغير والأجنبيّ المَهِين الذليل، والكراهةُ لما لدى النفس، هما السرطان الخبيث الذي يصيب به الغزوُ الفكري الثقافي المُمَدَّ بالغزو والانتصار السياسيّ، الأمةَ المغزوةَ البائسةَ التي تفقد الشعورَ بالغيرة القوميّة، وبعظمة الذات.
الاستفادة مما لدى الأجنبيّ من النافع الجميل، شيءٌ كان الإسلام أحرص الديانات عليه، وقد حضّ عليه أتباعَه بنحو لم تعرفه ديانة من قبل ولا من بعد؛ فقد أكد أن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها؛ ولكنه ظل وسيظل أسبق الديانات على الحيلولة دون أن يفقد أبناؤه ما أكرمهم الله به من المزايا الخيرة النيرة التي خصّهم بها بفضل الإسلام ونبيه الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي بعثه من أكرم أرومة، وأشرف نسب، وأزكى حسب، وأصفى سلالة، وبين أمة أميّة لاتعرف تعقيد الحضارة الصناعية وعوج الأمم «المتنورة» التي يفتخر بها الظلام الدامس: «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ إِذْ بَعَثَ فِيْهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُــسِهِمْ يَتْلُوْا عَلَيْـهِمْ اٰيٰتِهِ وَيُـزَكِّيـهِمْ وَيُعَلِّمُهُـمُ الْكِتٰبَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لِفِي ضَلٰلٍ مُبِينٍ» (آل عمران/164).
ألا إن المسلمين كلهم والعرب أجمعهم لن يصلحوا إلاّ بما صلح به أولهم من الاعتزاز بالإسلام، وبحضارته وبلغته، وبثقافته وتعليمه، وبما أفاض عليهم الإسلام من عادات وتقاليد، ومناهج وأساليب، وتاريخ مجيد، وماض عتيق، وقيم عريقة، ومثل نبيلة، واخلاق هَذَّبَتْ البدوَ فكانوا أساتذة العالم ومعلمي الأمم.
أبو أسامة نور
(تحريرًا في الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت: 27-28/محرم 1433هـ = 23-24/ديسمبر 2011م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1433 هـ = فــــبرايـــر 2012م ، العدد : 3 ، السنة : 36