الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
تظهر روح أخلاق اليقظة في هذا الحلم، فيقترب الخطاب من العنف، والحالم انساق مع هذه الروح المتسمة بالعنف، ونسي ما رتب الله لخلقه وملائكته ما هم مخلوقون من أجله، وأن لكل منهم عمله.
وهناك حلم آخر ورد فيه من جملة ما ورد أن المسؤول تضايق من سؤال منكر ونكير له، والحلم هكذا:
«قال أحد رجلين في مجلس أحمد بن حنبل:
رئي يزيد بن هارون في المنام، فقيل له:
يا أبا خالد، ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي، وشفعني، وعاتبني.
قال: قلت: غفر لك، وشفعك قد عرفت، ففيم عاتبك؟
قال: قال لي: يا يزيد أتُحدِّث عن جرير بن عثمان؟
قال: قلت: يا رب ما علمت إلا خيرًا.
قال: يا يزيد، إنه كان يبغض أبا حسن علي بن أبي طالب.
وقال الآخر [في مجلس أحمد بن حنبل]:
أنا رأيت يزيد بن هارون في المنام، فقلت له:
هل أتاك منكر ونكير؟
قال: إي والله، وسألاني من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
قال: فقلت: ألمثلي يقال هذا؟ وأنا كنت أعلم الناس بهذا في دار الدنيا!
فقالا لي: صدقت، فنم نومة العروس، لا بؤس عليك»(1).
في الحلم الأول جمع عدة أمور، وخدم عدة أغراض، وظن أنه أدى مهمات كان عليه أن يؤديها، والرجل مجهول، ومعه آخر مجهول، قص حلماً آخر، جاء فيه بما أغفله صاحبه، فكملت الصورة التي أراد واضع الخبر – كما يبدو – أن يضعها.
ولأبي خالد يزيد بن هارون هذا خبر حلم آخر، رآه وهب بن بيان، قال فيه:
«رأيت يزيد بن هارون في المنام، فقلت:
يا أبا خالد، أليس قد متَّ؟
قال: أنا في قبري، وقبري روضة من رياض الجنة»(2).
ونأتي برواية عن حلم سبق أن مرَّ بنا مثله، ولعله مثل الذي مرَّ بنا يرمي إلى تعضيد أهل الحديث عموماً، وعالم واحد منهم بعينه، ربما كان يومًا هدفًا للنقد، ومحط ملاحظة، والقصة كما يلي:
«قال داود بن عمر الضبي:
رأى سليمان التيمي ربه تعالى في المنام، فقال له:
يا سليمان.
قال: لبيك، وسعديك، وأنا عبدك بين يديك.
فقال: أنت الذي تحدث الناس أنه من قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، غرست له شجرة في الجنة؟
قال: نعم، إي رب؛ حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك، خادم رسولك عن رسولك.
فقال الله تعالى: صدق حميد الطويل، صدق أنس، صدق رسولي»(3).
ونأتي إلى حلم من تلك الأحلام التي تتأرجح بين القبول والرفض، ففيها العنصران، وقد يكون أحدهما أصلاً، والثاني مزادًا، وقد حاول صاحب الرؤيا أن يجعلها منطقيةً، والجزء الخاص بموت العالم، يحتاج إلى توثيق، ومجال التوثيق انقضى بانقضاء حياة أهله.
والنص الذي نحن بصدده كما يلي:
«قال أبو تراب النخشبي:
وقفت خمساً وخمسين وقفةً، فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات، ما رأيت قط أكثر منهم، ولا أكثر خشوعاً وتضرعاً ودعاءً، فأعجبني ذلك فقلت:
اللهم من لم تقبل حجته من هذا الخلق، فاجعل ثواب حجتي له.
وأفضنا من عرفات، وبتنا بجمع، فرأيت في المنام هاتفاً يهتف بي:
أتتسخّى علينا، وأنا أسخى الأسخياء؟! وعزتي وجلالي ما وقف هذا الموقف أحد قط إلا غفرت له!
فانتبهت فرحاً بهذه الرؤيا.
فرأيت يحيى بن معاذ الرازي، وقصصت عليه الرؤيا، فقال:
إن صدقت رؤياك، فإنك تعيش أربعين يوماً.
فلما كان يوم أحد وأربعين جاؤا إلى يحيى بن معاذ الرازي، فقالوا: إن أبا تراب مات.
فغسله ودفنه(4).
ولا تبدوا لنا الصلة بين هذا الحلم وتفسيره من قبل الرازي!
وبعض الأحلام تجد الصلة واضحة بين ما رئي وتفسيره بعد أن يفسر، مثل الحلم الآتي بصرف النظر عن صحته أو عدم صحته:
«قيل إن أبا نعيم خرج في شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة ومئتين، يومًا على أصحابه بالكوفة، فجاء ابن المحاضر بن المورع، فقال له أبو نعيم:
إني رأيت أباك البارحة في النوم، وكأنه أعطاني درهمين ونصفاً؛ فما تؤولون هذا؟
فقلنا: خيرًا رأيت.
فقال: أما أنا فقد أوَّلتهما أني أعيش يومين ونصفاً، أو شهرين ونصفاً، أو سنتين ونصفاً، ثم ألحق.
فتوفي بالكوفة، ليلة الثلاثاء لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة ومئتين، بعد هذه الرؤيا بثلاثين شهراً تامة»(5).
ولا يستغرب النص الآتي أن يأتي من أحد الصوفية، فهو يماثل دعوى بعضهم في اليقظة، يغالون في التقشف، ويغالون في التطلع إلى العوض، فإن صح هذا الحلم فهو حديث قلب صاحبه في اليقظة.
«قال المسوحي:
كنت آوي [كذا] باب الكناس كثيراً، وكنت أقرب من مسجد، ثم أتفيأ فيه من الحر، وأستكن فيه من البرد، فدخلت يوماً، وقد كان لَظَّنِي الحر، واشتدَّ عليَّ، فتفيأت، فغلبتني عيني فنمت، فرأيت كأن سقف المسجد قد انشق، وكأن جارية قد تدلت عليَّ من السقف، عليها قميص فضة، يتخشخش، ولها ذؤابتان.
قال: فجلست عند رجلي، فقبضت رجلي عنها، فمدت يدها، فنالت رجلي، فقلت لها: يا جارية لمن أنت؟
قالت: أنا لمن دام على ما أنت عليه»(6).
والمسوجي هذا يوصف بأنه أحد الكبراء من شيوخ الصوفية.
ومن الأحلام التي تحتاج إلى تفسير مثل الحلم الذي كان تفسيره موت رائيه بعد سنتين ونصف، الحلم الآتي:
«قال أبو عمر محمد بن يوسف القاضي:
اعتل أبي علةً شهوراً، فأتيته ذات يوم، ودعا بي، وبإخوتي: أبي بكر، وأبي عبد الله، فقال لنا:
رأيت في المنام كأن قائلاً يقول:
كل لا، واشرب لا، فإنك تبرأ.
فقال أخي أبو بكر: إن «لا» كلمة، وليست بجسم، ولا ندري ما معنى ذلك.
وكان بباب الشام رجل يعرف بأبي علي الخياط، حسن الدراية بعبارة الرؤيا، فجئنا به، فقص عليه المنام، فقال: ما أعرف تفسير ذلك، ولكني أقرأ في كل ليلة نصف القرآن، فأخلوني الليلة حتى أقرأ رسمي من القرآن، وأفكر في ذلك.
فلما كان من الغد جاءنا، فقال:
مررت البارحة، وأنا أقرأ على هذه الآية:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمٰوٰتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوٰةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَـٰلَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(7).
فنظرت إلى «لا»، وهي شجرة الزيتون؛ اسقوه زيتًا، واطعموه زيتوناً.
قال: ففعلنا، فكان سبب عافيته»(8).
وهكذا ناب الحلم عن الطبيب، والحقيقة أن الأمر بدا مثل اللغز، وكأن الحل معروف مقدماً!!
وتصحيح خطأ في قراءة القرآن عن طريق حلم من الأحلام ليس غريبًا، وقد مرَّ بنا حلم صحَّح خطأ، أو على الأصح أشير فيه إلى خطأ، وأمامنا الآن نص هكذا:
«قال أبو حمدون:
صليت ليلةً فقرأت، فأدغمت حرفاً، فحملتني عيني، فرأيت كأن ثوراً قد تلبيب بي، وهو يقول:
بيني وبينك الله.
قلت: من أنت؟
قال: أنا الحرف الذي أدغمتني.
قال: قلت: لا أعود.
فانتبهت، فما عدت أدغم حرفاً»(9).
وهناك حلم يخص الطيب بن إسماعيل هذا، وله صلة بالقرآن، وهو كما يلي:
قال أبو حمدون المقرئ:
«كنت ليلةً قائمًا أصلي، فحملتني عيني، وصاحب لي، يقال له: محمد الخياط، قائم يصلي بحذائي على سطح، فرايت كأن موسى بن عمران قد أهوى إليه بحربة فطعنه بها، فاستيقظت، فأوجزت الصلاة، وناديته:
يا محمد، يا محمد، أوجز في صلاتك.
فقلت له: ويحك مالك وما لموسى بن عمران؟
قال: قرأت، فبلغت إلى هذا الموضع:
﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(10).
فحدثت نفسي، فقلت: ما كان أجرأه على الله، يقول لله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فقلت: فأنا قد قلت: مالي أراه يومي إليك بالحربة، ليطعنك بها»(11).
وعنه حلم ثالث، وليس عن آية من الآيات هذه المرة، ولكنه عن الدعاء، والنص هكذا:
«قال عبد الله بن الخطيب:
كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاث مئة من أصدقائه، قال:
وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه:
يا أبا حمدون، لم تسرج مصابيحك الليلة.
قال: فقعد فأسرج، وأخذ الصحيفة، ودعا لواحد واحد، حتى فرغ»(12).
ومن الرؤى القليلة، التي جاءت بشعر، الرؤيا التالية، ولعل باعثها الموعظة تجاه الدنيا، وهي هكذا:
«قال أبو بكر الشاشي:
رأيت كأني أنشد هذه الأبيات في النوم، من غير أن تكون على ذكري:
قد نادت الدنيـا على نفسها
لو كان في العالم من يسمـع
كم واثق بالعمــر أفنيتــه
وجامع بددت ما يجمع»(13)
وأتى الحلم حاملاً رأي مذهب مقابل مذهب، فيأتي صاحب الحلم بحجة يرى أنها من القوة بحيث غطت على دعوى خصمه، ومحنة خلق القرآن مشهورة، وتفصيلها مما كتب في اليقظة يفوق كثيراً ما جاء في الحلم، وهو كما يلي:
قال الحسن بن خالويه:
«كنت البارحة عند سيف الدولة، وعنده ابن بنت حامـد، وكان من كبار المعتـزلة – أعاذنا الله مما هم عليه –.
فقال لي: يا ابن خالويه، ناظره في القرآن. فأخذ يحتج عليَّ أنه مخلوق، وأخذت أنا أحتج عليه أنه كلام الله غير مخلوق، من القرآن، ومن حديث رسول الله، ولغة العرب، إلى أن أدحضت حجته. واستظهرت عليه، وانصرفت إلى منزلي، وقد ذهب من الليل نحو الثلث، فنمت، فإذا بقائل يقول لي:
لمَ لَمْ تحتج بأول القصص؟
قال: فقلت: وإيش في أول القصص؟
قال: قال الله تبارك وتعالى:
﴿طسم * تِلْكَ ءَايَـٰتُ الْكِتَـٰبِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(14).
والتلاوة لاتكون خلقاً، ولا تكون إلا بالكلام»(15).
وقد جاءت النجدة لابن خالوية في الحلم، فعضدت ما كان قدمه حججاً أمام رأيه في اليقظة، واعتقاده أن القرآن كلام الله، وأنه غير مخلوق. وقد لايكون ابن خالويه رأى حلمًا، ولكنه تنبه للآية بعد أن انتهى الجدل، وتفرق من في المجلس، فرأى أن إلحاقها في صورة حلم أقوى، وهي بلا شك أقوى، خاصة في ذلك الزمن.
وننتقل إلى رؤيا فيها ما في الرؤى مما يحتاج إلى تعبير، وتعبيرها جاء مشيرًا بوفاة صاحبها، والتلميح له بذلك، والقصة هكذا:
«قال حبيش بن مبشر الفقيه:
كان يحيى بن معين يحج، فيذهب إلى مكة على المدينـة، ويــرجع على المدينــة، فلما كان آخر حجة خرج على المدينة، فأقام بها يومين، أو ثلاثة، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفقائه: فباتوا فرأى في النوم هاتفاً يهتف به:
يا أبا زكريا، أترغب عن جواري؟
فلما أصبح قال لرفقائه:
امضوا، فإني راجع إلى المدينة.
فمضوا، ورجع، فأقام بها ثلاثاً، ثم مات.
وقيل إن وفاته قبل الحج»(16).
وآخر جملة في الخبر تشكك في وقت الوفاة، فإذا صح أنها قبل الحج، فقد لا يكون هناك حلم!
ويورد عنه حلم آخر، يماثل الأحلام التي سقناها في أول الأقسام، والحلم هكذا؛ وفيه روح الدنيا، ونظرتها، مع نسيان الأدب مع الله – تبارك وتعالى – .
«حدثني حبيش بن مبشر قال:
رأيت يحيى بن معين في النوم، فقلت:
ما فعل الله بك؟
قال: أدخلني عليه في داره، وزوجني ثلاث مئة حوراء، ثم قال للملائكة:
انظروا إلى عبدي، تطرّى، وحسن»(17).
وينقذ حلم مراجعٌ لإحدى الدوائر الحكومية في مصر، في زمن الدولة الطولونية، فيُلْفَتُ في الحلم نظر مسؤول لقضيته، فيهب لنجدته، وكأن الأمر لم يكن حلمًا، والنص كما يلي:
«حدث محمد بن علي الماذرائي قال:
كتبت لخمارويه بن أحمد بن طولون، وأنا حدث، وقد ركبتني الأشغال، وقطعني ترادف الأعمال عن تصفح أحوال المتعطلين، وتفقدهم. وكان ببابي شيخ من مشيخة الكتاب، قد طالت عطلته، وأغفلت أمره، فرأيت في منامي ذات ليلة أبي، وكأنه يقول:
ويحك، با بني، ما تستحيي من الله أن تتشاغل بلذاتك، وعمالك يتلفون ببابك ضرًّا، وهزلاً؛ هذا فلان من شيوخ الكتاب قد أفضى أمره إلى أن تقطع سراويله، فما يمكن أن يشتري بدله؛ وهو كالميت جوعاً، وأنت لا تنظر في أمره، أحب ألا تغفل أمره أكثر من هذا.
قال: فانتبهت مذعورًا، واعتقدت الإحسان إلى الشيخ، ونمت، وأصبحت، وقد أنسيت أمر الشيخ، فركبت إلى دار خمارويه، فأنا والله أسير إذ تراءى لي الرجل على دويبة له ضعيف، ثم أومأ إلى الترجل، فانكشف فخذه، فإذا هو لابس خفًّا بلا سراويل؛ فحين وقعت عيني على ذلك، ذكرت المنام، وقامت قيامتي، فوقفت في موضعي، واستدعيته، وقلت:
يا هذا، ما حل لك أن تركت إذكاري بأمرك؟ أما كان في الدنيا من يوصل إليَّ رقعةً، أو يخاطبني فيك؟ الآن قلدتك الناحية الفلانية، وأجريت لك رزقاً في كل شهر، وهو مئتا دينار، وأطلقت لك من خزانتي ألف دينار صلة، ومعونة على الخروج إليها؛ وأمرت لك من الثياب والحملان بكذا وكذا؛ فاقبض ذلك، واخرج؛ وإن حسن أثرك في تصرفك زدتك، وفعلت بك وصنعت.
قال: وضممت إليه غلامًا يتنجز له ذلك كله»(18).
ويبدو أن محمد بن علي الماذرائي له عادة لمعالجة بعض أموره بالأحلام، فله وعظ دخل إليه من باب الحلم، ولعله أراد أن يكون لذلك وقع على الحاكم حينئذ، وهو خمارويه بن أحمد بن طولون، والموعظة جاءت في الحلم هكذا:
«قال محمد بن علي الماذرائي:
كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون، فارى شيخاً عند قبره يقرأ، ملازماً للقبر، ثم إني لم أره بعد مدة؛ ثم رأيته بعد ذلك، فقلت له:
ألست الذي كنت أراك عند قبر أحمد بن طولون، وأنت تقرأ عليه؟
قال: بلى، كان قد ولينا رياسة في هذا البلد، وكان علينا بعض العدل، إن لم يكن الكل؛ فأحببت أن أقرأ عنده، وأصله بالقرآن.
قلت له: لم انقطعت عنه؟
فقال لي: رأيته في النوم، وهو يقول لي:
أحب أن لا تقرأ عندي.
فكأني أقول له: لأي سبب؟
فقال: ما تمر بي آية إلا قُرِّعْتُ بها، وقيل لي: ما سمعت هذه؟»(19).
ولا سبيل إلى تقريع الله عبداً من عباده الصالحين، على هفوة بدرت منه إلا عن طريق الحلم، والضعف جاء للحلم أن التقريع كان بأسلوب الناس في الدنيا، ولكن قد يُنفى أن رائي الحلم أحد أبناء الدنيا، أو أن هذا مبلغ علمه، ومنتهى فهمه، ونعود مرةَ أخرى فنقول: الحلم يقبل ما فيه بتسامح كبير.
ونص الحلم عن هذا الأمر جاء كما يلي:
«قال موسى بن إسماعيل:
سمعت سفيان بن عيينة يقول:
أصابني، ذات ليلة، رقة، فبكيت، فقلت في نفسي:
لو كان بعض إخواننا لرق معي.
ثم غفوت، فأتاني آت في المنام، فرفسني، فقال:
يا سفيان، خذ أجرك ممن أحببت أن يراك»(20).
ويروي الخطيب البغدادي في ترجمة أحمد بن الحسن خبراً فيه رؤيا تتصل بموعظة، ولكنه يرجع فيضعفها عندما يذكر أن أحد الرواة لا يوثق به، والقصة هكذا:
«قال الأصمعي:
قصد بعض الحكماء بعض الملوك، فأقام على بابه أياماً، فلم يصل إليه، فقال لحاجبه:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
من كان وصله لأخيه المؤمن إلى ذي سلطان، في خير يوصله إليه، أو شرّ يدفعه عنه، أعطاه الله عند ازدحام الأقدام على الصراط ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، من إنعام الله عليه بذلك.
فرغب، فأوصله، فشكا إليه، فأزال شكواه.
فرىأ في نومه أن الله قد غفر له بما فعل بذلك العبد»(21).
وأردف الخطيب البغدادي هذا الخبر بقوله: إن من بين رواة الخبر: عباس الكلواذائي، وإنه ليس بثقة.
ونأتي على خبر رؤيا مما يعضد بعض كتب الحديث، رآها أبو القاسم إبراهيم بن محمد الواعظ الصوفي، يقول فيها:
«رأيت أبا علي الثقفي في المنام، فقلت له:
فيم أنظر؟
قال: عليك بهذا الكتاب. وأشار إلى المسند الصحيح، لأحمد بن سلمة»(22).
وتشتبك الأهداف في أحد الأحلام، فالصوفية، لبعض الفئات، محل انتقاد، وأهل الحديث عند بعض الفئات محل ملاحظة، ويتضح من الرؤيا أن صاحبها معهد للغرض منها بشيء أمل أن يوصل إلى الهدف الرئيس، وهو ترجيح الصوفية، بما فيها من تقشف وعبادة، وانقطاع لها، على العمل في الحديث وتحصيله وتعليمه. والنص كالآتي:
«قال أحمد بن مسروق، أبو العباس:
رأيت كأن القيامة قد قامت، والخلق مجتمعون، إذ نادى منادٍ:
«الصلاة جامعة».
فاصطف الناس صفوفاً، وأتاني ملك، عَرْض وجهه عرض ميل، في طول مثل ذلك، فقال:
تقدم، فصل بالناس.
فتأملت وجهه، فإذا بين عينيه مكتوب: «جبريل أمين الله».
قلت: فأين النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال: مشغول بنصب الموائد لإخوان الصوفية.
فقلت: وأنا من الصوفية.
قيل: نعم، ولكن شغلك كثرة الحديث.
فكدت أبكي، فإذا بجنيد يشير إليَّ بأن لاتخف، ولا نأكل حتى تجيء.
فانتبهت، فيا ليتني صليت، أو أكلت»(23).
إن كان هذا حلماً وقع للرجل في النوم، وهذا ليس مستحيلاً، فهو مطابق لشعوره في اليقظة، ويمشي في ظل معتقده، معتقد بعض الصوفية، في النظرة إلى رجال الحديث، وتفضيل الصوفية أنفسهم على سائر الفئات المسلمة الأخرى، وأدخل الجنيد بهدوء ليؤكد أنه في الجنة معزز مكرم، خلافاً لمعتقد بعض من يرى فيه رأياً يغاير هذا.
وننتقل إلى حلم يدخل في نطاق ما سبق أن أوردناه عن الأحلام التي تنبئ بموت شخص مرموق، من رجال العلم، وهو ابن مجاهد، والنص كما يلي:
«قال أبو الفضل الزهري:
انتبه أبي في الليلة التي مات فيها أبو بكر بن مجاهد المقرئ، فقال:
يا بني، ترى من مات الليلة؟ فإني قد رأيت في منامي كأن قائلاً يقول:
قد مات الليلة مقوِّم وحي الله، منذ خمسين سنة.
فلما أصبحنا إذا ابن مجاهد قد مات»(24).
وهذه الرؤيا تدخل ضمن ترجيح علماء في جانب من جوانب العلم، وقد جاءت روايتها متقنة العرض.
وليست هذه هي الرؤيا الوحيدة عن ابن مجاهد، وقراءته للقرآن، ومحافظته على ذلك، فهناك رؤيا أخرى رآها غير رائي الحلم الأول، وهي تجري هكذا:
«أخبر أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد الطوماري قراءة عليه، قال:
رأيت أبا بكر بن مجاهد في النوم، كأنه يقرأ، فكأني أقول له:
يا سيدي، أنت ميت، وتقرأ؟
فكأنه يقول لي:
كنت أدعو في دبر كلا صلاة، وعند ختم القرآن، أن يجعلني ممن يقرأ في قبره؛ فأنا ممن يقرأ في قبره»(25).
* * *
الهوامش:
تاريخ بغداد: ترجمة يزيد بن هارون السلمي، 14/346.
تاريخ بغداد: ترجمة يزيد بن هارون السلمي، 14/347.
تاريخ بغداد: ترجمة إسحاق بن رمضان البغدادي، 6/373.
تاريخ بغداد: ترجمة عسكر بن الحصين أبو تراب النطشي، 12/317.
تاريخ بغداد: ترجمة الفضل بن دكين الحافظ، 12/356.
تاريخ بغداد: ترجمة الحسن بن علي أبوالحسن المسوجي، 7/367.
سورة النور، الآية: 35.
تاريخ بغداد: ترجمة الحسين بن بشار الخياط، 8/25.
تاريخ بغداد: ترجمة الطيب بن إسماعيل أبو حمدون القصاص، 9/360.
سورة الأعراف، الآية: 143.
تاريخ بغداد: ترجمة الطيب بن إسماعيل أبو حمدون، 9/361.
تاريخ بغداد: ترجمة الطيب بن إسماعيل، 9/361.
المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: ترجمة محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، 19/3.
سورة القصص، الآيات: 1-3.
تاريخ بغداد: ترجمة عبد الوهاب بن عبيد الله البغدادي، 16/351.
تاريخ بغداد: ترجمة يحيى بن معين المري، أبوزكريا، 14/185.
تاريخ بغداد: ترجمة يحيى بن معين المري، 14/185.
تاريخ بغداد: ترجمة محمد بن علي الماذرائي، 1/80.
تاريخ بغداد: ترجمة محمد بن علي الماذرائي، 3/81.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن إسماعيل، 4/25.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن الحسن، 4/92.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن سلمة البزار، 4/186.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن محمد بن مسروق الطرطوسي، 5/101.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن موسى بن مجاهد، 5/147.
تاريخ بغداد: ترجمة أحمد بن موسى بن مجاهد، 5/148.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35