دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
يعترض بعض رجال السياسة وأصحاب رؤوس الأموال وذو الشخصيات العامة، في بعض دول العالم، على أي شعاع حرية يسطع على صحافـة بلادهم، خاصةً عندما تتعرض الصحافة لأولئك الذين اقتحموا مجالَ السياسة من الأبواب الغير شرعية، ومن لهم ماضي وطني وسياسي واجتماعي غير مشرف، وأصحاب الصفقات المشبوهة والدخول الطفيلية والثروات المتضخمة، وهؤلاء الدين ينغمسون في الإباحية والمحرمات. ولا يقف اعتراضهم، عند تسخيرهم لبعض الأقلام المأجورة، للهجوم الضاري على من عارضهم، ولا عند تهديدهم للصحفيين الشرفاء بالاعتقال أو القتل أو خطفهم وذويهم أو النقل من وظائفهم إلى جهات أخرى، ولكن قد يصل اعتراضهم في أحد مراحله إلى تكبيل الصحافة بالقوانين التي تقصف أي قلم، بل وتقصف رقبة كل صحفي شريف، بحجة أن هذا تدخل في حياتهم الشخصية، وليس من حق أحد أن ينشر فضائحهم، التي زكمت الأنوف برائحتها التي فاحت في كل مكان، وليس للصحافة أن تعلن صور نسائهن وهن كاسيات عاريات في أحضان رجال أجانب عنهن، أو في أوضاع جنسية مخجلة يندى لها الجبين، من أجل تيسير الحصول على صفقة تجارية أو منصب سياسي أو عمولة، بحجة أن هذه أعراضهم وشؤونهم الخاصة، وليس للصحافة أن تنقل صور من مستندات اختلاساتهم أو تهربهم الضريي أو حصولهم على امتيازات ليست من حقهم أو رشاوى والتي تمتص أولاً وأخيرًا من دم الفقراء، بحجة أنها من أسرار عملهم وبدونها لا يسير العمل ولا يحقق الأرباح المطلوبة منه، وليس للصحافة أن تنقل أسرار الكواليس الخلفية داخل الأحزاب والمقار السياسية، ولا الاتفاقات السرية لتزوير الانتخابات، أو إسقاط مرشح أو أكثر أو غيرها من الأنشطة المريبة، بحجه أن العمل السياسي لا يخضع للمبادئ والقيم. هذا هو منطقهم الأعوج الفاسد الذي ينشرونه ويدعون إليه في كل زمان ومكان، ولهذا يعترضون على حرية الصحافة، يعترضون وهم مخطئون ومرتكبون لجرائم يعاقب عليها الشرع والقانون.
فما بالنا بفرد تعرَّض لطعن في شرفه أو تشكيك في ذمته، وهو برئ، ماذا ننتظر منه تعليقًا وتعقيبًا على حرية الصحافة والرأي العام الذي أشاع عليه ذلك؟. وللإجابة على هذا سنسرد واقعتين، الأولى حادثة الإفك، وقد تحدث الناس في المدينة في هذا الأمر شهرًا كاملاً، انتقل الحديث من دار إلى آخر، ومن حي إلى آخر، ردده الناس في أمسياتهم وسمارهم وأحاديثهم وأوقاتهم كلها، ومنهم من نسج حوله ما شاء من المفتريات والأكاذيب، ليشفي حقده وغله تجاه الإسلام والمسلمين ونبيهم عليه الصلاة والسلام، ورغم كل هذا لم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أية إجراءات تعسفية أو قمعية، ضد من ردّدوا هذه الفرية، ولو أراد لكان، ولكنه انتظر حتى ظهور البراءة، وصدور حكم السماء، فما أقام عليهم غيره، رغم ارتفاع أصوات المسلمين في طلب الانتقام والتأديب. بل عندما أراد أبو بكر الصديق، أن يمنع نفقته، عن أحد أقاربه وكان ممن اشتركوا في ترديد هذه الفرية، نزل القرآن معاتبًا، فأعاد أبوبكر النفقة إلى ما كانت عليه، قال تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النور آية 22 الواقعة الثانية، عندما وقف عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، يخطب في الناس: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فقال له سلمان الفارسي: لا سمعَ لك اليوم علينا ولا طاعة. فلم يغضب عمر لهذه المقولة من سلمان الفارسي، ولم يتهمه بالتمرد والعصيان والخروج عن الخلافة، والانشقاق عليها ومحاولة تفريق أمر الأمة، ولم يأمر بالقبض عليه أو اعتقاله، ولم يقم أتباع سيدنا عمر بإسكانه والنيل منه. إنما قال له عمر: ولمه؟. قال سلمان حتى تبين لنا من أين لك هذه البرد الذي ائتزرت به، وأنت رجل طوال لا يكفيك البرد الذي نالك كبقية المسلمين؟!. تخيل أخي القارئ هذا الهجوم العلني من أحد المسلمين على شخص الخليفة، أمام الناس جميعاً لمجرد أن ساوره الشك في عدالة توزيع الخليفة، دون أن يسبق هذا الشك تأكد وتمحص عن مصدر هذا البرد من أية جهة. لو حدث هذا التعرض ويمتلك المسلمون حينئذ أجهزة أعلامنا هذه، والدولة الإسلامية تتسع أركانها وتشمل رعاياها من سائر الملل المختلفة، ومنهم من هو أعدى أعداء الإسلام، ألم يكن هذا الخبر مادة خصبة للصحف، وخاصة المعارضة منها، لتقريض أركان الدولة الإسلامية والتشكيك في قيادتها، وكل هذا لمجرد برد، ليس لأملاك ولا أطيان وأفدنة وقصور وأموال مكدسة في البنوك. ولكن ماذا كان رد عمر أمير المؤمنين؟ لم يغفل عن الموضوع، ولم يؤجل الإجابة عليه، ولكن جابهه بنفس الوسيلة الإعلامية وقتذاك، وعلى مسمع ومرأى من الجمع الذي شهد عصيان سلمان الفارسي، ونادى ابنه عبد الله فيقول له: نشدتك الله هذا البرد الذي ائتزر به أهو بردك؟. فيقول: نعم، ثم يقول موجهًا خطابه للناس إن أبي رجل طوال، لا يكفيه البرد الذي ناله كبقية المسلمين، فأعطيته بردي ليأتزر به. عندئذ يقول سلمان: الآن مر نسمع ونطع.
هذا السلوك الإسلامي الرشيد، في تناوله لقضية تخصّ وتمسّ فرد من أبناء المجتمع الإسلامي، سواء كان هذا الفرد رئيسًا أو مرؤوسًا، ويتم تناولها على الملأ، في جوّ يسوده الأمن والطمأنينة، لجميع أطرافها، ينتهجه الغرب الآن، وبعض الدول الديمقراطية، تحت دعوى قمة التقدم الحضاري. فقبل سنوات قليلة وصف «نيل كينوك» رئيس حزب العمّال البريطاني الأسبق، مارجريت تاتشر رئيسه الوزراء آنذاك، بأنها ذيل كلب للحكومة الأمريكية، يهتز طرباً لأوامرها، ونشرت الصحف البريطانية تصريحه، ولم تصدر «تاتشر» قانوناً لمنعها من تكرار ذلك. كما استقال «نيجيل لاوسون» أحد الوزراء المقربين إلى «تاتشر» عقب كشف أسرار علاقته الخاصة بسكرتيرته التي أنجبت منه طفله. أما «ديفيد ميلور» وزير التراث السابق ببريطانية فقد استقال أيضا بعد حملة صحفية، اتهمته دون تقديم دلائل كافية، بأنه أقام لفترة في ضيافة منى جاويد الغصين ابنة رئيس الصندوق القومي الفلسطيني، في إشارة إلى تأثير ذلك على مواقفه السياسية تجاه الفلسطينيين والعرب. كما أن صحف انجلترا فضحت كل أمراء وأميرات العائلة البريطانية المالكة وما حكايات ديانا وتشارلز عنا ببعيد. كما امتلأت الصحف الفرنسية بأخبار الابنة غير الشرعية للرئيس الفرنسي السابق ميتران، وحاورته بشأنها قبل وفاته، ولم يغضب ولم يصدر قانونًا لمنعها من تكرار لخوض في ذلك.
وفي اليابان اضطر عدد من رؤساء الحكومات والوزراء إلى تقديم استقالاتهم بسبب اتهام الصحافة لهم بالفساد. وقبل عدة سنوات ظهر الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون»، على شاشات التليفزيون، يجاهد لتبرئة نفسه من تهمة جنسية، ألصقتها به الصحافة الأمريكية، ولم يصدر قرارًا بمصادرة حريتها. كما أن صحيفة الواشنطن بوست قد ألمحت قبل عدة سنوات إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، كان على علاقة غرامية بإحدى موظفات البيت الأبيض، ولم يغضب بوش، ولم يقم دعوى قضائية ضدّ تلك الصحيفة. كما فجر اثنان من الصحفيين فضيحة ووترجيت، وأثبتا أن الرئيس «نيكسون»، يتجسّس على الحزب المعارض، وواصل الصحفيان تحقيقاتهما في البيت الأبيض، وقلبا في الأوراق، واطّلعا على المستندات، ولم يستطع أحد أن يمنعهما، ولم يستطع حزب «نيكسون» أن ينافقه، ويقدم في الكونجرس قانونًا يلغي حرية الصحافة، وخرج نيكسون من البيت الأبيض، وبقي الصحفيان لم يعتقلا ولم يسجنا ولم يحاسبا. ومنذ عدة أعوام اتهم صحفي نائب الرئيس الأمريكي بتقاضي رشوة ألف دولار من صحفي ياباني لتسهيل عقد مقابلة مع الرئيس «كارتر»، ودافع نائب الرئيس عن نفسه وقال إن هذا المبلغ على سبيل الهدية، وعندئذ قال له «كارتر»: اجْمَعْ أوراقك واخرُجْ من البيت الأبيض، وخرج نائب الرئيس ولم يدخل الصحفي السجن. كما أن الحملات الصحفية التي أطاحت بكبار الشخصيات السياسية في الولايات المتحدة والدول الغربية أكثر من أن تحصى. كما أجبرت الصحافة الأمريكية «جاري هارت» المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1988م على الانسحاب من السباق الرئاسي بعد فضح علاقته الغرامية مع فتاه تدعي «دونارايس». كما استقال «السناتور بوب باكوود» عقب فترة من إعادة انتخابه في عام 1992م بعد أن نشرت الصّحف الأمريكية قصة تحرشه بعدة سيدات في مطلع السبعينات. وتعتبر قضيه «ديك موريس»، كبير مستشاري الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي «كلينتون»، الذي استقال بسبب تورطه في فضيحة أخلاقية نموذجًا لدور الصّحفي في كشف المستور، وإن كان ذلك عن طريق مراقبة الأشخاص والتسلّل إلى حياتهم الخاصة بكل الطرق الممكنة، ولم يتعرض المحرر الصحفي لهجوم أو محاكمة من أحد ولم يتهم بأنه خالف أخلاقيات المهنة والتقط صورًا بدون علم الآخرين وسجل أحاديثهم الخاصة بدون استئذان.
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34