الفكر الإسلامي
بقلم: نور عالم خليل الأميني
إن الدين الذي ندين به إنما أنزله الله لنا عن طريق نبيه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي الأمي صلى الله عليه وسلم، وبلغنا عنه عن طريق الصفوة المختارة من جيل البشر، التي تعرف بالصحابة، تلك الجماعة المؤمنة التي اختارها الله لصحبة نبيه، ولتلقى الدين عنه مباشرة، وكُلِّفت تبليغَه إلينا. وكانت هذه الجماعة أبر الناس قلوبًا وأعمقهم علمًا وأقلهم تكلفًا، وبلغت من صدق إيمانها، وحسن إخلاصها، وجميل صنيعها في الدين الذي آمنت به، وحسن بلائها في سبيل إعلاء كلمة الله، أن رضي عنها رب العرش، وأعلن رضاه عنها في كتابه الخالد، وبلغت من حبها لنبيها، وصفاء قلوبها وطهارة نفسها، ونزاهة قصدها، وعفة عزيمتها بحيث استحقت أن يقيم نبيُّها حولها سياجًا منيعًا من أمره الكريم، حين قال: “لاتسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه”.
وهذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف، الواسع الأرجاء، الشاسع الأقطار، الذي نعتز بالانتساب إليه فُتِح كثير منه في زمن الصحابة، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وافتُتِح كثير منه كذلك بعد الخلفاء الراشدين؛ لكن الصحابة هم الذين بدأوا به، وعبدوا الطريق إليه، والقادة منهم هم الذين جعلوا راية الإسلام تخفق في الشرق والغرب، وجعلوا الشعوب والأمم تدخل في الإسلام وتنضوي تحت رايته، وتستظل بهدايته.
كل ذلك شدّني إلى أن أكتب هذه السطور التي سيقرأها القراء، لأحفز من خلالها الشباب الإسلامي، والنشء الجديد إلى الإيمان من جديد بفضل الصحابة، ولأثير فيه كامن الحب نحوهم، ولأؤكد أن دين المرء لايتم بدون حبهم، وأن القلب الــذي يتعكر ببغضهم قليــلاً أو كثيرًا، يتعكر قليلاً أو كثــيرًا بضعف الـدين؛ لأنهم هم الذين نقلوا الدين إلينا، وأن الكتاب والسنة والشريعة، كل ذلك يعــود مشكوكاً فيه لدى المرء بقدر الشك الذي يعيش في قلبه نحو الصحابـــة رضي الله عنهم.. وإذا كان لابد للقلب لكي يبقى حيًا من كمية من البغض ككميـــة أخـرى من الحب، فلصاحبــــه غناء في بغض أعـــداء الله ورسولـــه في داخل الصف وخارجـــه، كما أن له غناء طبعًا، في حب الله ورسوله وآله وأصحابــه ومن تبعهم من المؤمنين ويتبعهــم بإحسان إلى يــوم الــدين.. وبالإيجاز حاولتُ أن أبرز مكانة الصحابة وقيمتهم في الإسلام، ولاسيّما لأن هناك فرقـة تنتمي إلى المسلمين تتبنى سبّ الصحابة والطعن فيهم، وعلى الطعن في الصحابة الكرام رضي الله عنهم والإساءة إليهم وتوجيــــه أشنع التهم إليهم يتأسس دينُها الذي تسميه “الإسلام“ والإسلامُ منها بـــريء؛ لأن الإسلام عن طريق الصحابــة وصل إلينا نحن المسلمين، فالطعنُ في الصحابة طعنٌ في الإسلام، ورفضٌ له، وهدم لأسسه. والعقيدةُ هي الأصل في الإسلام، فمن كَفَّر الصحابةَ، واعتبرهم أَكْفَرَ الكافــرين – كما تعتقـد هذه الفرقــــة – فكيف يجوز أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، من هنا أفتى كبارُ العلماء السلف بكفر من يُكَفِّر الصحابةَ رضي الله عنهم؛ فقد قال الإمام الذهبيّ: “فمن طعن في الصحابة أو سبّهم، فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين“.(1)
ويُخطِئ كثيرٌ من المسلمين عندما يظنّون أن رفعَ الهتافات بالإسلام، والتضامن الإسلاميّ، والوحدةِ الإسلاميّة؛ وتحدّيَ القوى الكبرى – المعادية للإسلام – بالأقوال العريضة والدعاوي الفارغة، يكفي لكون هذه الفرقة مسلمةً مهما اعتقدت بكفر جميع الصحابة – حتى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – باستثناء ستة منهم فقط، وتَنَاوَلَتْهم بأشدّ الشتائم واللعنات، واعتقدت أنّ ذلك يفتح لها – لتلك الفرقة – بابًا واسعًا إلى الجنة!!.
الصحابة في اللغة
* الصحبة بالضم في اللغة يتحقق مدلولها في شخصين بينهما ملابسة ما كثيرة أو قليلة، حقيقة أو مجازًا(2) وفي هذا المعنى جاء استعمال الكلمة في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُه﴾(3).. ولو صاحب أحدٌ أحدًا ساعةً من نهار، أو لازمه في بعض أسفاره يستطيع أن يقول: صحبت فلانًا في سفري ساعة من النهار.. وقد تستخدم في المشابهة في الأخلاق والعادات والأعمال، ففي الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام لسيدتنا عائشة رضي الله عنها: “إنّكن صواحبُ يوسف” أي أخلاقكن كأخلاق النسوة اللاتي كانت لهن قصة مع يوسف.. وتوسّعوا في استخدام الكلمة، فأطلقوها على الملابسة بين العقلاء والجمادات، وعلى هذا الأساس سُمِّيَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “صاحب السواك والنعلين والوسادة”.
وكلمة “الصحابي”(4) منسوبة إلى الصحابة (بالفتح) مصدر معناها الصحبة (بالضم).
الصحابي في الاصطلاح
أما الصحابي في الاصطلاح فهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه: من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو عنه، ومن غزا أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، وجالسه.(5) ويدخل فيه الإنس والجان، ويدخل في التعريف الذكور والإناث، والأحرار والموالي.
فمن لقيه كافرًا، أو لقيه كافرًا وأسلم بعد لحاقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، أو من لقيه مؤمنًا بغيره صلى الله عليه وسلم كأهل الكتاب، لايكون صحابيًا.. ويخرج من هذا التعريف من لقيه مؤمنًا، ثم ارتد ومات على ردته..
ويدخل في التعريف من لقيه مؤمنًا، ثم ارتد، وعاد إلى الإسلام قبل موتهصلى الله عليه وسلم سواءاً اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أو لم يجتمع، كالأشعث بن قيس، وقرة بن هبيرة، وقد أطبق أهل الحديث على عدهم في الصحابة وتخريج أحاديثهم في المسانيد والسنن والصحاح، وقد زوج أبوبكر الصديق رضي الله عنه أخته للأشعث بن قيس، ويرى بعض العلماء أن الردة تحبط فضل الصحبة وثوابها، وتحبط العمل، وبه قال الإمام الأعظم أبو حنيفة، وصرح به الإمام الشافعي في الأم، رحمهما الله، وحكى الرافعي تقييده باتصالها بالموت(6).
التفاضل بين الصحابة
وليس الصحابة كلهم في درجة واحدة في الفضل، بل يفضل بعضهم بعضًا، وقد نص عز وجل على ذلك في الكتاب الكريم:
﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(7) وقال ﴿وَالسّـٰـبِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـٰـجِرِيْنَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾(8).
وكلهم ذوو فضل وكرامة، ولا يبلغ مستواهم أحد من الفضلاء والعباد، والزهاد والصالحين، والأتقياء والخاشعين؛ لأن شرف الصحبة لا يناله أحد.
وعلى هذا الأساس قسمهم العلماء إلى طبقات، و وزعهم ابن حبان والحاكم في اثنتي عشرة طبقة، وهي كما يلي:
1 – من تقدم إسلامه بمكة.
2 – أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر بن الخطاب لما أسلم وأظهر إسلامه حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة، فبايعه جماعة من أهل مكة.
3 – المهاجرة إلى الحبشة .
4 – أصحاب بيعة العقبة الأولى، ويقال: فلان عقبي.
5 – أصحاب بيعة العقبة الثانية.، وأكثرهم من الأنصار.
6 – المهاجرون الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل دخوله المدينة، وقبل أن يبني المسجد.
7 – أهل بدر.
8 – المهاجرون بين بدر والحديبية .
9 – أهل بيعة الرضوان .
10 – المهاجرون بين الحديبية وفتح مكة .
11 – مسلمة الفتح.
12 – من جاءه صلى الله عليه وسلم بعد الفتح من القبائل والأعراب، ويدخل فيهم الصبيان والأطفال الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وغيرها(9).
عدد الصحابة
دراسة الكتب التي ترجمت للصحابة، تدل على أنه لايمكن حصر عددهم بالجزم؛ لأنهم كانوا قد تفرقوا في القرى والأمصار والبلدان ونواحي العالم.
وقد قال سيدنا كعب بن مالك في حديثه عن تخلفه عن غزوة تبوك(10): “والمسلمون كثير لا يجمعهم كتاب حافظ”.. روي عن أبي زرعة أن عدة من شهدها معه صلى الله عليه وسلم سبعون ألفًا.. وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: خرجنا إلى تبوك زيادة على ثلاثين ألفًا، وبهذا العدد جزم ابن إسحاق، وقال الواقدي كان معهم عشرة آلاف فرس(11).
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صفة حجة الوداع: “نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك” ثم قال: “… فقدم المدينة بشر كثير”(12).
ونقل عن الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض والمسلمون ستون ألفًا، ثلاثون ألفًا بالمدينة، وثلاثون ألفًا في قبائل العرب.
والذين وصلتنا أسماؤهم لاتصل إلى معشار هذا العدد، كما صرح به ابن حجر في “الإصابة” وجمع رحمه الله في هذا الكتاب جل الكتب السابقة التي ترجمت للصحابة مع المختلف فيهم، أو الذين قيل فيهم: شخصان، وهما شخص واحد في الواقع، فبلغ عددهم رجالاً ونساء اثني عشر ألفًا ومائتين وسبعًا وتسعين (12297)(13).
الغرض من بعثة النبي
بين الله عز وجل الهدف من إنشاء الجن والبشر قائلاً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾(14) يعني أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لاشريك له، ولم يكن هدفه من وراء خلقهم تحقيق حاجة من الحاجات، أو طلب الرزق منهم؛ لأنهم هم الفقراء إليه تعالى في جميع الأحوال وهو تعالى خالقهم ورازقهم..
وتصحيح الصلة بين العبد وربه وإفراد العبادة والعبودية لله الواحد القهار، هو الغرض الأساسي والهدف الأول الأصيل الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل، فكلما نسي العباد موقفهم الحقيقي في الحياة: موقف العبودية الكاملة الشاملة من المعبود الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أو التبس عليهم ذلك، وبدأوا يطَّرِحون على عتبات كثيرة، وعادوا لم يخلصوا له الدعاء والعبادة، ولم يفردوا له الإنابة والالتجاء.. بعث الله من الأنبياء أو الرسل من يصحح صلتهم بربهم، ويعود بهم إلى موقف العبودية الصحيحة، وإلى مكانتهم الحقيقية في الكون، ومركزهم في الوجود، ودورهم في الحياة، فهم عباد لله، فيجب أن لايعبدوا إلا إياه، ولا يسجدوا إلا له، ولا يستغيثوا إلا به، ولا يتألّهوا ولا يتذللوا إلا له، ولا يلتجئوا إلا إليه، ولا يطَّرحوا إلا على عتبته.. وهم أشرف المخلوقات، وأكرم الموجودات وأعز الخلق على الله؛ فلا يجوز ولا يعقل أن يسجدوا للضعيف من المخلوقات، والتافه من الموجودات.
الغرض من البعثة كما يقرره القرآن
وصرفُ العباد عن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده، ومحاربة الوثنية، وإنقاذ الناس من براثنها، كان النقطة التي ركّز عليها الأنبياء جهودهم وجهادهم بصورة أساسية فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ نُوْحِي إِلَيْهِ أَنَّه لاَ إِلـٰـهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾(15).
وذلك أن الوثنية تُوجِدُ الإنسانَ المعكوسَ في فكره وسلوكه وأخلاقياته وآدابه، وتجعل من الإنسان الكريم العزيز إنسانًا ذليلاً مهانًا ضائعًا مشلولَ الفكر، مكبوتَ العقل، ضيقَ الأفق، قاصرَ النظر، مسلوبَ الإرادة، مخبوطَ الحواس، فاقدَ الطموح والمروءة والشهامة، مفلسًا في معاني العزيمة والإباء والرجولة.. وتوجد حاجزًا سميكاً بينه وبين تقدّمه المعنوي، والروحي والخلقي، والاجتماعي والمدني، وتخنق كل ما فيه من القوى والمواهب.
والله يريده إنسانًا سويًا وسطاً كريمًا، موفور العقل، صحيح التفكير، واسع الأفق، متمتعًا بجيمع قواه ومواهبه، صاحبَ طموح وإباء، ورجولة وشهامة، محلقًا بجناحيه الطليقين عاليًا في سماء الروح والأخلاق والمدنية؛ حتى يصلح لإعمار الأرض، وخلافة الله فيها.. والذي هانت عليه نفسه وفقد ثقتَه بها، كمن فقد الثقة بالله العظيم الجليل القوي القادر على كل شيء، وحرم الاعتماد عليه والالتجاء إليه، فخضع لأتفه شيء، وسجد لما لايسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئًا، ولا يقضي له حاجة، ولا يعطى له سؤلاً، لايصح أن يكون خليفة الله في هذه الأرض، ولا يمكنه أن يؤدي دوره في إعمارها وإصلاحها، والحيلولة دون تخريبها وإفسادها، والعبث بمن فيها من العباد والبلاد والحرث والنسل.
الحكمة في إرسال الرسول بشرًا:
وشاء الله عز وجل أن تتم هداية الإنسانية وإصلاحها وتصحيح مسارها عن طريق من يصطفيهم من عباده من الأنبياء والرسل، فيكلمهم وحيًا أو من وراء حجاب، فيباشرون عملية الرجوع بعباد الله إلى الله، ولم يشأ أن يتم ذلك عن طريق الملائكة أو الكتب التي ينزلها – مثلاً – على الجبال، أو يضعها على الأشجار، أو في مكان محدد، فيقرؤه الناس، ويتشبَّعون بما فيه من قوانين الإصلاح، وتعاليم التزكية، وتوجيهات تطهير النفس والقلب وتقويم الأخلاق، وتثقيف السلوك، وإرشادات الحكم والاجتماع والمدنية وتأسيس الحضارة، ومعالم النهضة العقلية والفكرية.
وإنما اختار الله العليم الحكيم صفوةً من الناس؛ لتكون نماذج يحاكيها الناس، ويتبعون خطواتها، ويهتدون بهديها، ويتخلقون بأخلاقها، ويتشرّبون عاداتها وآدابها، ويصدرون عما فيها من الإخلاص والتواضع، وتزكية النفس والإيثار، والبر والمواساة، والعطف والرأفة، وذوق العبادة والإنابة، والزهد في حطام الدنيا، والعناية بجانب الآخرة، ونزاهة النية، واستقامة الضمير، وعفة القصد، وروح كراهة الشر وحب الخير، ومحاربة قوى الشر، ومكافحة نوازعه، والانتصار للحق ودوافعه.. فيعود الفرد بذلك كله إنسانًا كامل القوى، شامل الصفات، متكامل العادات، موفور المواهب، صحيح القوى، رقيق الشعور، لطيف الذوق والوجدان، يستطيع أن يضفى على الحياة معنى الهدف والحقيقة بعد ما ينصهر في بوتقة الشخصية النبوية وقالب تربية الرسالة الإلهية، ويعود وكأنه وُلِدَ ولادة جديدة، فتزدان به الحياة، ويتجمّل به التاريخ، وتغبطه الملائكة، ويباركه الرحمن، وتتعطر به الدنيا، ويقوم به العدل، وتنتشر به المحبة، وتَنْفُقُ به سوق الخير، ويفوح به ريّا الوئام والسلام، وتستوي به الحياة، وتنهض به الحضارة، ويعمّ به العلم والفضل والمدنية، ويتأسس به المجتمع الصالح السعيد الآمن، ويتحقق به دور خلافة الله في الأرض.
وذلك لأن الإنسان فُطِرَ على المحاكاة والتقليد؛ فلا بد من نماذج بشرية متكاملة الصفات والعادات والأخلاق، يحاكيها البشر، أما بدون ذلك فلن يستطيع الناس أن يطبقوا التعاليم الإلهية على النفس والحياة والمجتمع؛ لأنهم لم يكونوا ليعرفوا صورةَ تطبيقها وطريقةَ العمل بها.. والتعاليمُ والتوجيهات الموجودة في الكتاب تبقى مجرد فكرة ما لم توضع موضع التنفيذ، والفكرةُ المجردة مهما كانت مفيدة ومبنية على الأسس السليمة والقواعد المستقيمة، لا تقدم شيئًا ولا تؤخر، مالم يواكبها العمل والتنفيذ، والفكرةُ المجردة عن التنفيذ، فكرة جامدة لاروح فيها ولا حياة، فلا تحرك ساكنًا، ولا توقظ نائمًا، ولا تنبه غافلاً.
فلا بد من فكرة.. أي تعاليم وإرشادات إلهية.. ولا بد ممن ينفّذها، أي الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، لئلا يبقى للناس حجة بعد الرسل، ولئلا يقولوا: إننا لم نجد من يرشدنا ويأخذ بأيدينا، ويصبغنا بالتعليمات الإلهية، ويربينا في حضن الأخلاق والصفات التي أُرِيدَ أن نتحلى بها، ولم نجد من نحاكيهم ونقلدهم، ونعمل كما يعملون، ونسير على خطاهم فيسهل لنا العمل، ويتيسر لنا التنفيذ، ويهون علينا التقليد، ويمكننا أن نكون كما أُرِيدَ أن نكون: وقد صرّح القرآن الكريم بأن الله عز وجل ببعثه الرسلَ إلى الناس قد قطع عليهم الحجة، وسد عليهم باب العذر فقال:
﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(16).
وبالوحي والكتاب وبالأنبياء والرسل المُوْحَى إليهم والمُنْزَل عليهم الكتاب يتم عمل التربية وإبراز الإنسان المطلوب، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حين قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتـٰـبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾(17) وقال في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيـٰـتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتـٰـبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾(18).
مناط نجاح النبي في مهمته
لابد أن يتربى في حضن النبوة مباشرة جيل يكون مثاليًا، مستجمعًا لصفات الإنسانية الكاملة ويكون غرة في جبين التاريخ؛ لأنه يكون نتاج التربية النبوية المباشرة، وصنيع الحضن النبوي، وخريج مدرسة النبوة والإيمان، وعلى منواله تنسج الأجيال التي تليه، ويخلف هو نبيَه في القيام بعمل الدعوة وتبليغ الرسالة في زمن الفترة.. وهذا ما تمّ لكل نبي ورسول قدرَ ما شاء الله عز وجل.. فقد شاء الله لبعضهم أن تأتي دعوته في وقت قليل بحاصل كبير، وقدّر لبعضهم أن يُنْفِق في دعوته فرصة طويلة جدًا من عمره الطويل؛ ولكنه لم يؤمن من قومه إلا قليل، فهذا نوح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – يحكى عنه القرآن: ﴿فَلَبِثَ فِيْهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِيْنَ عَامًا﴾(19) ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ﴾(20).
أصحاب النبي هم ثمرة جهوده في الواقع:
وأصحاب النبي وحواريوه الذين يتلقون الإيمان والتربية في حضنه الإيماني النبوي، هم في الواقع ثمار الجهود الدعوية والنبوية التي يبذلها النبي، ولا يقاس نجاح نبي في دعوته بكمية المؤمنين بالدعوة؛ لأن ذلك سوء أدب، وتقليلٌ لقيمة جهودهم وجهادهم؛ ولأن الإيمان مداره التوفيق الإلهي، ولذلك قال الله عز وجل عندما رأى مدى حرص النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على أن يقبل القوم دعوته: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(21) ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسـٰـلَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(22) .. ولكن يقاس بكيفية الإيمان واليقين والتربية الخلقية والتزكية النفسية التي أخذ بها من آمن به من قومه، ولو كان عددهم ضئيلاً جدًا، فيجب أن يأتوا صورة منه في العادات والأخلاق وأنماط السلوك والذوق والوجدان.. وقد أدى كل نبي الأمانة التي حُمِّلَ إياها كلَّ الأداء، وبلغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، و وضع في تربية المؤمنين به جهده المستطاع، ونجح في ذلك كل النجاح، حسبما أراد الله عز وجل.
الحكمة في عدم بقاء سير الأنبياء السابقين
وأصحابهم وحواريهم محفوظة
ولو كان سجلُ سير الأنبياء والرسل السالفين وسير من آمن بهم وتربّى في مدرستهم، محفوظاً بكل دقيق وجليل، كمثل سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسير كثير من أصحابه وأصحاب أصحابه بل وسير الآلاف المؤلفة من العلماء والأئمة والصلحاء والشهداء والأولياء في أمته صلى الله عليه وسلم لأمكننا أن نعرف في تفصيل مدى كونهم صورةً من أنبيائهم، ومدى تشرّبهم لتعاليمهم وإرشاداتهم، ومدى تفاعلهم مع الأحكام والشرائع التي جاءوا بها، ومدى انصهارهم في بوتقتها، ومدى انصباغهم بصبغة الدين الذي كلفوا الإيمانَ به..
ولكننا مع الأسف لانعرف حتى عن هؤلاء الأنبياء والرسل الكرام – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – سوى الصورة الإجمالية للغاية لبعض الأنبياء المعدودين، التي أعطانا إياها القرآن، فضلاً عن سير أصحابهم المفصلة، وفضلاً عن أخبار العظماء في دياناتهم وأممهم، فهذا سيدنا المسيح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – وهو آخر الأنبياء قبل سيدنا النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم كان العالم المسيحي يعتقد أولاً أن “العهد الجديد” يحتوى فيما يحتوى على أخبار السنوات الثلاث الأخيرة من سيرته، ثم توصل أصحاب الاختصاص في الموضوع من أبناء المسيحية ذاتها إلى أنها لاتزيد على أخبار خمسين يومًا من حياة المسيح عليه السلام(23).
وعدم بقاء سير الأنبياء السابقين وأخبار العظماء والصلحاء في أمتهم محفوظة يرجع إلى حكمة الله عز وجل؛ لأنه تعالى لم يُرِد لدياناتهم ورسالتهم البقاءَ والاستمرار، والخلودَ والعموم، والعالميةَ والشمول، كما أراد للإسلام رسالته الأخيرة الخاتمة، فلم تقم الحاجة إلى أن يضمن الله البقاءَ والحفاظ لسير أنبيائها ودعاتها الأولين وأصحابهم المؤمنين؛ لأن رسالتهم ودعوتهم كانت لعهد خاص طويل أو قصير، وشعب معين، وإقليم من الأقاليم(24).
البعثة العظمى:
عندما عمت الظلمة، وشملت الدنيا كلها، ودُفِنَت تعاليم الأنبياء والرسل تحت أنقاض الجاهلية، وسارت الإنسانية في طريق الانتحار، ولم يعد أمل في الإصلاح والتغيير، وصارت البشرية كلها تعيش أحلكَ الفترات التي قال عنها أحد الكتاب الإنجليز في السيرة النبوية وهو “السيد وليم ميور” William Muir المعروف بتحامله على الإسلام:
“ولم تكن الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربية صالحة لقبول أي تغيير أو نهضة، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم شابًا، ولعل اليأس في إصلاح القوم لم يصل ذروته مثل ما وصل في عصره؛ ولكن حينما تضعف الثقة بسبب واحد لنتيجة خاصة، تفتعل له أسباب أخرى، وتعتبر أسبابًا لحدوث هذه النتيجة:
“من ذلك ما يقوله بعض الناس: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم حين نهض معه العرب كلهم لإيمان جديد، و وقفت الجزيرة العربية وقفة رجل واحد، ثم يستنجون من ذلك أن الجزيرة العربية كلها كانت متهيئة متحمسة إذ ذاك لتحوّل مفاجيء عظيم، ولكن التاريخ عندنا يكذب هذه النتيجة إذا تأملنا في تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام بقلب هاديء، فلم تنجح جهود المسيحيين المتواصلة ودعوتهم وموعظتهم المستمرة خلال خمسة قرون، إلا في كسب عدد قليل جدًا من بعض القبائل، فتمر موجة صغيرة على سطح بحر الحياة العربية الهاديء، نتيجة لتلك الجهود الحقيرة الضعيفة، التي قام بها دعاة المسيحية، تتخللها حينًا بعد حين موجات الوثنية العربية.. والأوهام الإسماعيلية كانت أعنف وأطغى، كان هذا التيار الجاهلي الوثني يضرب جدار الكعبة”.
ويقول في مكان آخر: “وكانت أوضاع العرب قبل البعثة المحمدية بعيدة عن كل تغيير ديني، كما كانت بعيدة كل البعد من وحدة الصفوف واجتماع الشمل، وكان دينهم يقوم على أسس وثنية سخيفة تعمقت جذورها، واصطدمت بصخرتها محاولات نصارى مصر والشام للإصلاح فباءت بالفشل(25).
أحد الكتاب الغربيين المعروف “بوسورث سميث” (Bosworth Smith) وهو مؤرخ يمتاز من بين زملائه بالاتجاه الفلسفي يقرر بأنه لم تكن من بين الثورات التي تركت ارتسامات خالدة على تاريخ البشرية العمراني، ثورة أبعد في القياس والأمل عند العقل البشري من ظهور الإسلام في العرب، فقد كان حادثًا لم يكن يتوقع حدوثه.
“إننا مضطرون إلى أن نسلم أن علم التاريخ – إذا كان هنالك شيء يستحق أن يسمى علم التاريخ – يبقى حائرًا مرتبكاً في العثور على حلقات الأسباب والعلل التي يجب عليه البحث عنها (بحكم منصبه ووظيفته) لحدوث هذا الانقلاب”(26) .
تلك الفترة الحالكة السواد التي صوَّرها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي بقوله: “أيها الملك: كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف”(27).
وصوَّرها حكيم الإسلام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ”الشاه وليّ الله الدهلوي (1114-1176هـ = 1703-1762م) بقلمه البارع بما يلي:
“اعلم أن العجم والروم لما توارثوا قرونًا كثيرة، وخاضوا في لذة الدنيا ونسوا الدار الآخرة واستحوذ عليهم الشيطان، وتعمقوا في مرافق المعيشة، وتباهوا بها، و ورد عليهم حكماء الآفاق يستنبطون لهم دقائق المعيشة ومرافقها، فما زالوا يعملون بها، ويزيد بعضهم على بعض ويتباهون بها، حتى قيل: إنهم كانوا يعيرون من كان يلبس من صناديدهم منطقة أو تاجًا قيمتها دون مائة ألف درهم، أو لايكون له قصر شامخ أو آبزن وحمام وبساتين، ولا يكون لهم دواب فارهة وغلمان حسان، ولايكون له توسّع في المطاعم وتجمل في الملابس، وذكرُ ذلك يوطل، وما تراه من ملوك بلادك يغنيك عن حكاياتهم، فدخل كل ذلك في أصول معاشهم، وصار لايخرج من قلوبهم إلا أن تُمَزَّع. وتولد من ذلك داء عضال دخل في جميع أعضاء المدينة.. وآفة عظيمة، ولم يبق منهم أحد من أسواقهم ورستاقهم وغنيهم وفقيرهم إلا وقد استولت عليه، وأخذت بتلابيبه، وأعجزته في نفسه، وأهاجت عليه غمومًا وهمومًا لا أرجاء لها؛ وذلك أن تلك الأشياء لم تكن لتحصل إلا ببذل أموال خطيرة، ولا تحصل إلا بتضعيف الضرائب على الفلاحين والتجار وأشباههم والتضييق عليهم، فإن امتنعوا قاتلوهم وعذبوهم، وإن أطاعوا جعلوهم بمنزلة الحمير والبقر يستعمل في النضح والدياس والحصاد، ولا تقتنى إلا ليستعان بها في الحاجات، ثم لاتترك ساعة من العناء، حتى صاروا لايرفعون رؤوسهم إلى السعادة الأخروية أصلاً، ولا يستطيعون ذلك، وربما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمه دينه(28).
وصارت حالة الإنسانية إلى ماجاء عنه التعبير الأصدق الأوفى في الحديث الشريف: “إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب”(29).. ولا تعبير أبلغ وأدق وأروع وأصدق من التعبير القرآني الرباني:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(30) .
عندما حصل ذلك الفساد المحيط بالعرب والعجم، جاءت رحمة الله لتدرك الإنسانية التي استجمعت قواها لتقع في حفرة من النار، فتغيب في ظلام الغيب، فمست الحاجة إلى بعثة نبي جديد عظيم؛ وذلك لأن “الأوضاع الفاسدة والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي، أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفى له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر.
“ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض جاهلية، و وثنية تخريبية، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان واسع الأرجاء يسع العالم كله ويؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمـٰـتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(31) قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لايبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية، ترسيخًا لايتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية، والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف بكل مقاومة، وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنة الخلد التي وعد بها المتقون”(32).
فكانت البعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام التي أنقذت الإنسانية من اللعنة التي حقّت عليها، وسخطِ الله العزيز الجبار الذي أحاطها، والدمار الذي أخذ بتلابيبها، وعادت بها من شفا الحفرة التي وصلت إليها ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾(33).
كانت هذه البعثة عندما اشتدت إليها حاجة الإنسانية وتاقت إليها مهجتها ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(34).
وكانت كما صوّرها النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه النبوي البليغ: “مثلي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهنّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقحمون فيها”(35).
المستوى المتدني الذي بدأ منه النبي صلى الله عليه وسلم عمله:
وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم تربية أفراد البشرية وتعليمهم وتزكيتهم من المستوى الأسفل الذي ما مُنِيَ به نبي من الأنبياء ورسول من رسل الله – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – وبلغ به إلى المستوى الأسمى الأرفع الذي لم يبلغه نبي ولا رسول، بدأ القيام بمسؤوليته من نقطة الصفر، وتكلل سعيه بالنجاح الذي لم يُعْرَفْ لأحد من الأنبياء والمرسلين، وقد حارت في ذلك الألباب ودهش العقلاء عبر التاريخ، إنه لغز لم يحله الحكماء ولم يطلع عليه خبراء العلم والحكمة، وقد اعترف بذلك أحد الأدباء الفرنسيس المعروف بالقوة والصراحة اللتين قلما عرفناهما للدارسين من غير المسلمين، يقول هذا الأديب الشاعر وهو “لامارتين” 1490-1986م: “إن إنسانًا لم ينهض أبدًا متطوعًا أو غير متطوع لمثل هذا الهدف الأسمى؛ لأن هذا الهدف كان فوق طاقة البشر، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام، التي حالت بين الإنسان وخالقه، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربه، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية العقلية المعقولة الساطعة في ضباب هذه الوثنية السائدة والآلهة المادية، هو ذلك الهدف الأسمى والأعلى، إنه لم يحمل إنسان مثل هذه المسؤولية الضخمة، والمهمة العظيمة الجليلة، التي تخرج عن طوق البشر، بمثل هذه الوسائل الحقيرة الضئيلة..
إلى أن قال: “وأروع من ذلك أنه هز تلك الأصنام والآلهة، والتصورات والعقائد والنفوس الإنسانية هزة عنيفة، إنه بني على أساس ذلك الكتاب الذي تُعْتَبَرُ كل كلمة منه مصدرَ التشريع، قومية ربانية، ألفت بين أفراد كل جيل وسلالة ولغة، إن الميزة الخالدة لهذه الأمة التي كوّنها محمد صلى الله عليه وسلم أنها شديدة المقت والتقزز من الآلهة الباطلة، شديدة الحب لله الواحد الذي يتنزه عن المادة وشوائبها، وهذا هو الحب الذي يدفعه إلى الثأر والانتصاف من كل إهانة تُوَجَّه إلى الذات الإلهية، وهذا الحب يعتبر أساس سائر الفضائل عند هذه الأمة.
“لقد كان إخضاع ثلث العالم لهذه العقيدة الجديدة من مأثرته بلا ريب؛ لكن الأصح أنه كان معجزة إلهية وليست بشرية، إن الإعلان بعقيدة التوحيد في زمن كانت تئن فيه الدنيا تحت وطأة أصنام لاحصر لها، كانت معجزة مستقلة بذاتها.
“وما لبث محمد صلى الله عليه وسلم أن أعلن هذه العقيدة أمام الملأ، حتى أقفرت المعابد القديمة من عبادها، فلا داعي فيها ولا مجيب، وتكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان”(36).
المخاطبون الأولون بالرسالة العظمى
بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيئة التي فسدت كل ناحية من نواحيها، واختلت فيها الموازين وعكست المقاييس، وبطلت المشاعر والأحاسيس، وأصبح فيها المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، والصحيح سقيمًا، والسقيم صحيحًا، والخبيث طيبًا والطيب خبيثًا..
فقلبها رأسًا على عقب، وغيَّر مجراها تمامًا، وصنع من خامات الجاهلية نماذج إنسانية رائعة لم تطلع الشمس عليها من قبل ولا من بعد، ولو اجتمع جميع عقلاء البشر ليتخيلوا صورةً أجمل منها لما أمكنهم أن يتخيلوا أحسن ولا أجمل منها، ولا أكمل ولا أفضل منها.. ولو أن جميع مصوري العالم البشري توفّروا على أن يصوروا بريشاتهم العبقرية لوحةً أروع منها تعبوا دونما جدوي.. ولو أن جميع مصلحي الإنسانية اجتمعوا ليُخَرّجُوا رجلاً واحدًا يساوي أي فرد من أفرادها لفشلوا.. إنما كانت آية من آيات النبوة والرسالة المحمدية الخالدة الباقية.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولم يزل قائمًا بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها، من الصدق والعدل والوفاء، لايحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه، من حرب وسلم وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقلة وكثرة، وظهوره على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب، التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان، وبأخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لايعرفون آخرة ولا معادًا، فصاروا أعلم أهل الأرض، وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.. وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين”(37).
وقد أجاد الشيخ أبو الحسن الندوي حين قال: “أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالته ودعوته الفرد الصالح المؤمن بالله، الخائف من عقاب الله، الخاشع الأمين، والمؤثر للآخرة على الدنيا، المستهين بالمادة، المتغلب عليها بإيمانه وقوته الروحية، يؤمن بأن الدنيا خُلِقَت له وأنه خُلِقَ للآخرة، فإذا كان هذا الفرد تاجرًا فهو التاجر الصدوق الأمين، وإذا كان فقيرًا فهو الرجل الشريف الكادح، وإذا كان عاملاً فهو العامل المجتهد الناصح، وإذا كان غنيًا فهو الغنى السخي المواسي، وإذا كان قاضيًا فهو القاضي العادل الفهم، وإذا كان واليًا فهو الوالي المخلص الأمين، وإذا كان سيدًا رئيسًا فهو الرئيس المتواضع الرحيم، وإذا كان أمينًا للأموال العامة فهو الخازن الحفيظ العليم”(38).
اختار الله لصحبة نبيه نفوسًا زكية
ولا غرو فإن الذين سعدوا بصحبة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، لم يسعدوا بصحبته إلا بتوفيق من الله عز وجل، وباختيار منه، ولم يكن شرف الصحبة سلعة رخيصة ينالها كل من هب ودب، ولم يكن بضاعة يشتريها المرء بثمن في جيبه، أو يحصلها بقوة في ساعده، أو يحظى بها بحيلة أو جهد من عنده.. وإنما الصحبة كانت منصبًا لم ينله إلا من كتبه الله له، وجعله أهلاً لذلك، وعلم فيه أنه يحتمله عن كفاءة وغناء، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه:
“إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعة يعني أبا بكر وعمر، وعثمان وعليًا، جعلهم أصحابي، وقال: في أصحابي كلهم خير”(39).
وقال: “إن الله اختارني واختار لي أصحابي فجعل منهم وزراء وأختانًا وأصهارًا”(40).
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إن الله نظر في قلوب العباد، فنظر قلب محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه”(41).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “من كان متأسيًا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم”(42).
الجيل الأول الذي تربي في حضن النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك لأن الإسلام كان رسالة الله الأخيرة، وكان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم الرسل وإمام الكل، فاقتضى ذلك أن يختار الله لهذا النبي خلفاء يتلقون منه التعليم والحكمة والتزكية مباشرة، ويكونوا من سمو السيرة والأخلاق، وثبات الإيمان واليقين، والاعتدال والاتزان في الميول والاتجاهات، والبر والمواساة، والطاعة والانقياد، والرأفة والرحمة، ورقة المشاعر والأحاسيس، والإيثار والتضحية، والعفة والنزاهة، والصبر والجلادة، والفروسية والشهامة، والهمة والطموح، والعدل والفضل، والزهد في زخارف الدنيا وبهارجها، والإنابة إلى الله والاطِّراح على عتبته، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، بحيث تغبطهم الملائكة، ويباهي بهم ربهم ويكونون هم غرة في جبين التاريخ البشري، ليكونوا منارة عالية تهتدى بها الأجيال البشرية اللاحقة، وينقلون هم إليها الدين وشرائعه، وخصائصه وأحكامه، وأخلاقه، مزاجه وذوقه.
* * *
(1) كتاب الكبائر، ص: 238.
(2) المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، ص: 186، لمؤلفه الدكتور فاروق حمادة.
(3) الكهف: 34، 37.
(4) قال الإمام النووي في “تهذيب الأسماء واللغات”: ويجمع صاحب على صحب، كراكب وركب، وصحاب كجائع وجياع، وصحبة بالضم كفاره وفرهة، وصحبان كشاب وشبان.. والأصحاب جمع صحب كفرخ وأفراخ.. والصحابة: الأصحاب، وجمع الأصحاب أصاحيب.. وصحبته (بكسر الحاء) أصحبه (بفتحها) صحبة (بضم الصاد) وصحابة (بفتحها).
(5) الدكتور فاروق حمادة: مقدمة “فضائل الصحابة” للإمام أحمد بن شعيب النسائي، توزيع: دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ص:15، 16.
(6) المصدر السابق ص: 16، 17.
وهناك تعاريف أخرى للصحابي، اقرأها في “إرشاد الفحول” ص: 7 وفتح المغيث ج3 ص: 86 وتهذيب الراوي، ج2 ص: 212، والتقييد والإيضاح مع مقدمة ابن الصلاح ص:291.
(7) الحديد: 10.
(8) التوبة: 100.
(9) ليراجع معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص: 22 ومقدمة “فضائل الصحابة”: بقلم الدكتور فاروق حمادة ص:18-19.
(10) رواه الشيخان.
(11) انظر مقدمة “فضائل الصحابة” ص: 20.
(12) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
(13) انظر مقدمة “فضائل الصحابة” ص: 20.
(14) الذاريات، الآيتان: 56، 57.
(15) سورة الأنبياء، الآية: 25.
وقد أعلن القرآن الكريم هذا الغرضَ الأساسيَّ من بعثة الأنبياء في آيات كثيرة بصورة تفصيلية على ألسنة الكثير من الأنبياء الكرام – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – انظر الآيتين: 25، 26 من سورة هود، وأيضًا الآية 50، والآية: 61، والآية: 84 من تلك السورة، والآيات: 51-54 من سورة الأنبياء.. والآيات: 69-82 من سورة الشعراء، والآيتين 41 و 42 من سورة مريم، والآيتين 16 و 17 من سورة العنكبوت، والآية 25 منها، والآيات 37-40 من سورة يوسف.
(16) سورة النساء، الآية: 165.
(17) سورة البقرة، الآية: 213.
(18) سورة آل عمران، الآية: 164.
(19) سورة العنكبوت، الآية: 14.
(20) سورة هود، الآية: 4.
(21) سورة القصص، الآية: 56.
(22) سورة المائدة، الآية: 67.
(23) القس الدكتور “شارلس أندرسن إسكات” في مقال له في “دائرة المعارف البريطانية” الطبعة الرابعة عشرة، ج13، ص:1710.
(24) تصريحات العهدين القديم والجديد تؤكد ذلك في صراحة، انظر التثنية (18:15) (18:18) و(33: 1-2) ونبوءة أشعياء، الإصحاح 40، وإنجيل متى، الإصحاح العاشر 6-7 مثلاً.
(25) “حياة محمد” وليم ميور “Sir William Muir: “Life of Mohammad” Vol. 1, London, 1885, P, cc xxx VVI.
نقلاً عن كتاب “السيرة النبوية” للشيخ أبي الحسن الندوي ص: 61-63 ط: لبنان 1979م.
(26) Bosworth Smith: “Mohammad and Mohammada nism” London. 1976. نقلاً عن نفس المصدر.
(27) مجمع الزوائد: 6/26؛ مسند أحمد: 5/291.
(28) حجة الله البالغة، باب إقامة الارتفاقات وإصلاح الرسوم.
(29) رواه مسلم، كتاب الجنة، باب “الصفات التي يعرف بها”.
(30) سورة الروم، الآية: 41.
(31) سورة الأنعام، الآية: 122.
(32) العبارة التي بين القوسين من السيرة النبوية لأبي الحسن علي الندوي، ص: 64 و 65.
(33) سورة آل عمران، الآية: 103.
(34) سورة الحج، الآية: 5، 6.
(35) متفق عليه برواية أبي هريرة رضي الله عنه.
(36) “لامارتين” (Lamartine) في كتابه Histoirede laurquie ج2، ص 276 و 277، (باريس 1854م) مقتبس من كتاب “Islam and the World” للدكتور “زكي علي” ص 15-16. (لاهور 1947م) نقلاً عن كتاب “السيرة النبوية لأبي الحسن علي الندوي. ص66 و67.
(37) انظر “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”.
(38) “من غار حراء” لأبي الحسن الندوي.
(39) مسند البزار عن جابر بسند صحيح.
(40) راجع: تفسير القرطبي – سورة الفتح.
(41) انظر شرح السفاريني للدرة المضيئة، ج2، ص:28.
(42) المصدر نفسه.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34