الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير
معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
والصدق خير من يقدره الحاكم، والصدق مصدر ثقة، ومحط اعتماد، ومظهر شجاعة متناهٍ، وهذه أمور لها مكانة في نفس كل حاكم، وتظهر قيمتها إذا قورنت بضدها، وضد الصدق الكذب، وهو خصلة لا تصاحبها الثقة، ولا يسير معها الاعتماد الناجح، والكذاب جبان يهرب من الحقيقة، وهو خفاش يؤذيه النور، وتعميه أشعة الصدق.
وقد رأينا من قبل ما قيل عن الغيبة وأنها طلاء آخر للؤم، وللأعراب في صحرائهم قول يماشي هذا الرأي، والمنكب فيه يحاذي المنكب:
“قيل لأعرابي: “فلان يعيبك”.
قال: ذاك المائل عن المجد رجلاً، المطليّ باللؤم وجهًا، ولكن قد ينبح القَمَرَ الكلبُ”.(1)
وللأمثال نصيب من رسم صورة اللئيم، تأتي عن طريق تعريفه، وتحديد صفاته، وصاحب المثل حدد اللئيم بسلاسل تجعله لايخرج عن الحيز الذي خطه له، وأحكم حلقته عليه، وطلاها بالطلاء اللائق به، والمثل تجري ألفاظه ومعانيه هكذا:
“اللئيم إذا ارتفع جفا أقاربه، وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف، وتكبّر على ذوي الفضل”.(2)
هذا حال اللئيم إذا ارتفع، وتغيّر حاله أتى من أن الخلق الحسن عنده لم يكن أصيلاً، وما كان يظهره لمعارفه عندما كان في مرتبة متدنية في معيشته، وما كان يظهره أثناءها، من احترام للأشراف، وما كان بيديه من تواضع وخضوع لذوي الفضل، لم يكن إلا قشرة رقيقة تغطي اللؤم المتأصل فيه، والذي ظهر واضحًا عند ما حُكَّ وكُشِط كشطاً رحيمًا!.
واللئيم عندما يظهر في حالة غير ما يأتي منه عندما تتغير هذه الحال ينطلق من مركب نقص داخله يخفيه، ويعاني منه، لا يفتأ أن يسعى بإكماله عندما تتاح له الفرصة، ومركب النقص شعبة من شعب الجبن، لأن المرء يظهر منه غير ما يخفي، لأنه لو كان شجاعًا لأظهر ما بداخله على السطح دون مبالاة، فإن كان شيئًا سوءاً متناهيًا سعى إلى علاجه، واستعان أقاربه وإِخوانه على التخلص منه، فيكمل منه ما نقص بطريقة شريفة، وسعي نبيل.
هذه صورة للئيم، وهناك صورة للكريم الذي يثبت على حال واحدة في التعامل مع إخوانه، ومن لهم فضل عليه وقت رخائهم، فلا يغير موقفه معهم وقت شدتهم، وانحسار ماء الغِنى عنهم في يوم من الأيام، لأنه يؤمن بالمثل الذي يقال على لسان الحسين:
“كفر النعمة لؤم”.(3)
وقد جاءت صورة هذا الوفاء في بيت شعر وافٍ، يقول الشاعر:
أأترك، إن قَلَّتْ دراهم خالد
زيـــارتَـــه، إنـي إذاً للئيـــــم”(4)
ويحذر الناس اللئيم، ويدعون الله أن لا يحوجهم إليه في عسرة، ويقرنون هذا الدعاء بالوقاية من عذاب جهنم، فالشاعر في الأبيات الآتية يقرن هذين الدعاءين، ليوازن حمايته من الحاجة للئيم بوقايته من عذاب جهنم:
“ربِّ أنعمت في الكثير من العمـ
ــر ونجيتـي مـــن الأشـرار
فاعفني اليـوم من سـؤال لئيم
وقِني في غـدٍ عـذاب النار”(5)
ويأتي تحذير من مصاحبة اللئيم، ومع هذا التحذير القوي تعليل يدعم هذا التحذير، فيساعد على قبول هذا النصح، وقد أتى هذا من شاعر صاغه في بيته الآتي:
“لا تصاحب من الأنام لئيمًا
ربمـا أفسـد الطباعَ لئيمُ”(6)
فالطبع في الإِنسان متأصل، وسمي طبعًا لانطباعه في داخل الإِنسان، وهو يكاد يكون بقوة الغريز في ثبوته وتمكنه، ولهذا قال الشاعر في البيت السابق مغاليًا عن تأثير اللؤم أنه “ربما” أفسد الطبع، رغم قوته وتمكنه.
ويبلغ الهجو منتهاه عندما يهاجم المنذر بن صخر الأسدي خصومه، ويصفهم باللؤم، ويضع ذلك في صورة مبتكرة، تلفت النظر، وتسهل رواية الشعر، وانتقاله وانتشاره، لأن في الرسم إبداعًا، وفي القول مبالغة:
إذا المجلس العبدي يومًا تقابلوا
رَأَى كلهم وجهًا لئيمًا يقابله
وإن سِيْلَ أي الناس ألأم والدًا
أشار إلى العبدي مَنْ أنت سائله”(7)
ويبدو أن إلصاق اللؤم وحده كافٍ لذعر من وصف به، ويزيد هذا الذعر درجات إذا جاء ذلك شعرًا، كما في البيتين الآتيين، وهما لمالك بن أحمد بن سوار الطائي:
ترى اللؤم في العجلان يومًا وليلة
وفي دار مروان ثوى آخر الدهـر
ولما أتـى مـروان ألقى رِحالـه
وقال: رضينا بالمقام إلى الحشـر(8)
هذه الصورة التي رسمها الشاعر للؤم، وجعله يتصرف تصرف الإنسان، فيختار دار المهجو مروان، ثم يختار البقاء فيها، لأنها تلائمه، ترعب المهجو، وتخيفه، لأنها تحمل عنصرالجاذبية في سماعها وحفظها وتردادها، والتمثل بها.
ويأتي قول آخر عن اللئيم، والتعامل معه، ومحاولة أخذ شيء منه، قبل أن يدركه لؤمه فلا يستجيب، أو يجد المفرَّ فيهرب بحجة يهيؤها، أو عذر يؤلفه، لأن هذا طبعه، وهذه طريقته في السير مع طبعه، وعدم إفادة الناس مما عنده، والقول جاء في “ربيع الأبرار”.
“إذا سألت لئيمًا فغافصه (فاجئه)، ولا تدعه يفكر، فإنه كلما تفكر ازداد بعدًا”.(9)
لابد من ختلهِ كما تختل الأرنب، أو كما تلقي القبض على سارق، أو تقتل حية؛ لأنك كلما أعطيته فرصة للتدبر، والتفكير في الاستجابة، فإن اللؤم المتمكن منه لا يَدُلُّه إلا على طرق الرفض، يتفنن فيها، وهو فيها خبير، لكثرة ما استفاد منها، وأقدم عليها، حتى أصبحت عادة من عاداته المتمكنة، وجانبًا من طبيعته المتأصلة.
وفي البيتين الآتيين صورة لها صلة باللئيم:
جمعتُ صنوفَ المال من كل وجهة
ومـا نِلتُها إلا بكف كريـم
وإني أرجّى أن أموت وتنقضـي
حياتي ومـا عنـدي يد للئيم(10)
هذا الشاعر يقر بالمعروف لمن أسدى إليه معروفًا، بل إنه يذكر أن هذا المال ليس صنفًا واحدًا، ولكنه أصناف متعددة، جاءته من طرق مختلفة، ولكن اليد التي مدتها يد كريم، فهو يفخر بهذا، وإن المنة التي ملكته، والمعروف الذي طوّق عنقه هو لكريم، يعتز بما ناله منه؛ ثم يردف البيت الأول ببيت ثان يتجه فيه إلى الله مؤملاً أن يموت وليس للئيم عنده يد، وأن الزمن لم يحوجه إليه، ولم ترغمه أسباب الحياة إلى الاضطرار إلى مد يده إليه.
ويحدد أحد المتبصرين الحدود بين الكرم واللؤم، وثواب هذا، وعقاب هذا، في قول مختصر مفيد، قال زيد بن أسلم:
“يا ابن آدم أمرك الله أن تكون كريمًا وتدخل الجنة، ونهاك أن تكون لئيمًا وتدخل النار”.(11)
لقد اقتصر على ما لكل من الكريم واللئيم عند الله في الآخرة، أما ما للإثنين في الدنيا فالتوفيق للمحسن، وحجب التوفيق لمن حجب إحسانه، ولم يعط مما أعطاه الله، سواء كان ذلك مالاً أو خلقًا.
وكنا قد حفظنا ونحن صغار بعض الأبيات التي تتصل بحسن الخلق، والتي تحث على الفضائل، والابتعاد عن الرذائل والتي اختيرت اختيارًا دقيقًا، وكانت تُعطَى لنا في المطالعة، أو في كتب المحفوظات. وكنا نحفظها، ولم نكن نقدرها حق قدرها، ولم تكن عقولنا قد نضجت النضج الكافي، فتقرن ما فيها من أقوال إلى ما في الحياة من أفعال، وإن شرح لنا هذا، وبُيِّن، فإنه لايتعمق في إدراكنا، ونعجب اليوم من هذه المحفوظات، ونبل مراميها، وشريف القصد منها:
ومن هذه الأبيات بيت حول الكرم واللؤم، يعبر عنهما خير تعبير، وهو حكمة لا يستغني عنها المتمثل فيما يصادفه في هذه الحياة:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا”(12)
وينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قوله:
“الناس على أربعة أقسام: كريم وسخي، وبخيل ولئيم؛ فالكريم هو الذي لا يأكل ويعطي، والسخي هو الذي يأكل ويعطي، والبخيل هو الذي يأكل ولا يعطي، واللئيم هو الذي لا يأكل ولايعطي”.(13)
والذي يهمنا هو اللئيم، والذي تبين من المقارنة في هذا القول أنه لا يفيد أحدًا، ولا يفيد حتى نفسه، وهذا مأتى رجحان هذه الرذيلة على البخيل وغيره من العيوب.
هذه بعض الأقوال عن اللؤم واللئيم وردت في كتب الأدب والفكر، وهي تمثل رأي السابقين في رذيلةٍ من أبشع الرذائل، تتبعوها في مجتمعهم، ودرسوها، وأصدروا أحكامهم نحوها، وحذروا منها، وصوروها بصورها المزرية، ليبتعد الناس عنها، ولينفروا منها، وهذا فعلم دائمًا مع الرذائل، أملاً في أن يصفو مجتمعهم منها، فتصبح صفحته ناصعة.
وما قالوه في ذلك الزمن في ذلك المجتمع ينطبق على زمننا ومجتمعنا، فالخُلق بالأمس هو الخلق اليوم، خاصة إذا كان إطاره من الإِسلام وهديه. وقد تكون مجالات التطبيق في زمننا أوسع، وعددها أكثر، لتشعب الحياة اليوم إلى شعب لم تكن بالأمس، نتيجة التقدم في المجالات المختلفة .
وهم حريصون في ذلك الزمن على جعل أي رذيلة هدفًا، يهاجمونه بصور مختلفة، ويسددون إليه أسهم القول، ونشاب الأمثال، وينصبون أقواس الشِّعر، ويسلون سيوف الحكمة، فيحاصرون الرذيلة من كل جانب، فلا يدعون لها ولصاحبها المتلبس بها فرصة الازدهار أو الانتشار.
وهذه خطة اتخذوها، وسياسة اتبعوها، نحن حقيقون أن نتبعهم فيها، ونحذو حذوهم، ونمشي في أثرهم، لأن ما ابتدعوه وطبقوه مجرب مضمون، بلوره مرور الوقت، وحسنته المدة، وتكرار الزمن.
والتراث مَنَاجِمُ ملأى بالمعادن الثميْنة، والمدخرات الغالية النافعة، وما علينا إلا أن نتعود على الالتفات إلى الوراء لنعرف كم تركنا خلفنا مما يصلح لزمننا، ويفيدنا في سيرنا، فالماضي هو الأساس الذي عليه مرتكزنا، وكل أمة تبعد عن تراثها مثل الشجرة التي فصلت منها جذورها، قد تبقى واقفة زمنًا، ولكنها بدون ورق وثمر، تلعب بها الرياح، وعوامل الزمن، ولا تبقى طويلاً قبل أن ينخر فيها السوس فتهوي بها الريح.
* * *
الهوامش :
- البصائر: 3/810.
- المخلاة : 178.
- المخلاة : 178 ، 179 .
- المخلاة : 283.
- المخلاة : 311.
- المخلاة : 317.
- ربيع الأبرار : 3/715.
- ربيع الأبرار: 3/715.
- ربيع الأبرار: 3/718.
- ربيع الأبرار: 3/718.
- المخلاة : 78.
- المخلاة : 123.
- المخلاة : 177.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32