دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور محمود محمد بابللي
حق الملكية :
إن من أبرز الحقوق التي يتمتَّع بها الإنسان ويحرص على أن تبقى مصونة حق الملكية، هذا الحق الذي مَنَحَه الشارع للإنسان على ماملّكه إياه من متاع الحياة الدنيا، وخوّله حق التصرف فيما يملكه، ووضع له الحماية اللازمة لصيانتها من وقوع التعدي عليها بأي شكل من الأشكال.
والملكية الفردية والحرية الاقتصادية هما دعامتا الاقتصاد ومنطلقه الذي يزدهر برعايتهما.
وقد تقتضي المصلحة أن تضع الدولةُ يدَها على هذه الملكية جميعها أو على جزء منها، لقاء تعويض عادل تدفعه لصاحبها، أو أن تتدخل الدولة في إلزام صاحب الحق بحسن التصرف فيه، أو الامتناع عن أن يكون سببًا للإساءة إلى الآخرين .
ولما كان تدخُّل الدولة يقع غالبًا وعند اقتضاء وجوبه على ملكية الأفراد، فقد وَجَدتُ من الضروري أن أُفرِّق بين ملكية الله وملكية الإنسان اللتين ورد النص عليها في كثير من آيات القرآن الكريم، لرفع الالتباس عن هذا المفهوم الذي يقع فيه كثير من الناس، ولبيان أن ملكية الإنسان اكتسابية، جاءته بتمليك من الله الذي أعطاه حق التملك، ولذلك فهي خاضعة للأحكام التي خَصَّها الله بها، وألزم المتملكَ بمراعاتها تحت طائلة المسؤولية .
1– ملكية الله سبحانه وتعالى:
إن ملكية الله سبحانه وتعالى هي ملكية ذاتية تصدر عنه؛ لأنه الموجد والخالق والرازق، وإن موجد الشيء من عدم – دون استعانة بأحد – يكون مالكه وحده على وجه الاستقلال، وقد قال الله سبحانه وتعالى:
﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا فَيهِنَّ﴾(1) وفي آية أخرى ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾(2).
فالله سبحانه الموجد والخالق لهما، فهو يملكهما ملكية تامة مطلقة، ولايُسْأل عن تصرفه فيهما؛ لأنه وحده الذي يَسْأَل، وإن لايسأله أحد عن تصرفه، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(3).
ويقول سبحانه: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ﴾(4).
وهذه الآية مؤكدة لسابقاتها؛ لأن خالق الشيء، أي موجده من عدم هو مالكه، ولا أعتقد أن مسلمًا له اعتراض على ذلك .
2– ملكية الإنسان:
إن ملكية الإنسان ليست ذاتية، وإنما هي اكتسابية، وهذا الاكتساب لايتم إلا بتقدير من الله سبحانه، الذي يسّر له هذا التملك، وعلى هذا تكون ملكية الإنسان بتمليك الله له، أي أنه أتته ممن ملّكه إياها.
وهذا التمليك ليس تمليكاً مطلقًا، وإنما هو تمليك محدود بما يسره الله له.
كما أن هذا التمليك لايقطع الصلة بين المتملك والمالك الحقيقي؛ لأن الذي أعطى فرض على الآخذ شروط التمليك، وبذلك تكون ملكية الإنسان مقيدة بهذه الشروط التي لاتصح دونها. كما أن الصلاة والزكاة والحج، لاتصح إلا بالكيفية التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفنا هذه الشروط كنا مسؤولين عن هذه المخالفة.
ولهذا قلت: إن المالك ملكاً ذاتيًا لايسأله أحد عن تصرفه فيما يملك، أم المتملك من غيره ملكاً مشروطاً، فإنّه مسؤول عن تنفيذ هذه الشروط، وعن نتيجة تصرفه فيما تملّكه .
3– الرزق هو التمليك المُخصَّص للمخلوقات :
إن كلمة الرزق، هي التمليك الحقيقي للمخلوقات، وهي غير خاصة بالإنسان، وإنما تشمل كل من كتب الله له الحياة، ولايعيش في هذه الحياة إلا بما ييسره الله له من رزق.
وإن الله سبحانه تكفَّل لجميع المخلوقات برزقها طوال حياتها، فالرزقُ مرتبط بحياة المخلوق من لحظة حياته حتى انتهائها، وقد يأتي الرزق بتسخير من الله سبحانه عن طريق الناس بعضهم لبعض، أو لبعض الحيوانات التي تعيش مع الإنسان، غير أن هناك كثيرًا من المخلوقات لاقدرة للإنسان على رزقها، ولذلك فقد تكفل اللهُ به، مصداقًا لقوله سبحانه:
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيها مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ﴾(5).
فإذا قلنا إن الله هو الرزاق، فهِمْنا من هذا الوصف الذاتي أنه سبحانه هو الذي يرزق عباده كما يرزق مخلوقاته، وأن هذا الرزق هو تمليك لهم ينتفعون به ما استهلكوه، أو أنهم مسخَّرون بحفظه لأصحابه.. فهم بهذه الحالة أمناء عليه ولم يتملكوه؛ ولكن الله سبحانه استودعهم إيّاه.
ورزق الإنسان كرزق غيره من المخلوقات، مكتوب ومقدر، ولايزيد ولاينقص، ولابد للإنسان أو لكل مخلوق أن يستوفي كامل رزقه قبل لحظة وفاته.
فالطفل الذي يموت عند ولادته، ليس له رزق مقدر، وإنما كان رزقه يأتيه وهو جنين عن طريق أمه أو مرضعته.. ومن يموت طفلاً أو في مقتبل العمر، فإن رزقه الذي استهلكه طوال حياته هو ماخَصَّه الله به، ولو كان من أغنى الأغنياء؛ لأن ما خلفه ليس ملكه وإنما أصبح ملك ورثته..
وإن هذا الرزق المخصَّص أو المقدر لكل إنسان هو ما يتملكه حقيقة أو ما يستهلكه بنفسه، وإن مايزيد على حاجته، ولو كان في حياته، فهو أمانة بيده لمن قدّر الله له أن يتملكه من بعده، أو معه في حال حياته.
4– التمليك غير الكامل:
خلق الله سبحانه الإنسان، وخلق له مايساعده على الحياة، لتحقيق مراد الله منه، طوال مدة حياته الدنيا، وإن مما خلق له رزقَه الذي قدّره له، والذي يسر له الحصول عليه، وملّكه إياه وحجزه عن غيره، أي جعله تحت يده ومكَّنه من الانتفاع منه.
وهذا التمكين لايفيد الملكية المطلقة التي تُخرج الإنسان عن المساءلة، وإنّما هو تمليك مشروط يوجب التقيد بهذه الشروط.
ومن هذه الشروط ما أوجب الله فيه من حقوق فرض على هذا المتملك إخراجها منه مصداقًا لقوله سبحانه:
﴿وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌ مَّعْلُومٌ﴾(6).
لأن هذه الأموال التي تملكوها – بتمليك الله لهم – ليست خالصة لهم، وإنما لهم فيها نصيب محدَّد، كما لأصحاب الحقوق نصيب محدَّد أيضًا، توفيقًا مع قوله تعالى:
﴿لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾(7).
أي أن هذا الاكتساب ليس خالصًا لهم، وإنما لهم فيه نصيب، كما أن لغيرهم فيه نصيبًا.
وهذا التخصيص بالنصيب ورد من المالك الأصلي لمن أراد أن يملكه، أما إذا كان التمليك لايفي بحاجات الإنسان الضرورية، فإن المالك الأصلي يعفيه من إخراج هذا النصيب، ويجعل له في ملكية الآخرين نصيبًا يتمم حاجاته منه.
5- متى ينسب الملك للإنسان :
إذا استعرضنا الآيات القرآنية التي يُنْسَب فيها الملكُ لله تعالى، والآيات التي يُنْسَب فيها الملك للإنسان، اتضح لنا أن هذه النسبة تفيد غرضين محدَّدين:
الغرض الأول: عندما يراد من النص بيان أصل الملكية، فإن النسبة تكون لله سبحانه مالك كل شيء، كما في قوله سبحانه:
﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾(8).
وفي قوله سبحانه:
﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه﴾(9).
وفي قوله تبارك شأنه:
﴿وَاَنْفِقُوا مِنْ مَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾(10).
فهذه الآيات وأمثالها تذكير للإنسان بأن ما لديه من مال هو من مال الله الذي قدّره له، ويسّر له امتلاكه ليتصرف فيه تبعًا لأوامره سبحانه.
الغرض الثاني: عندما يراد من النص الحض على الإنفاق مما امتلكه الإنسان بتمليك الله له. وهذه النسبة ترد في قوله تعالى:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(11).
وفي قوله أيضًا:
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ﴾(12).
وفي قوله سبحانه:
﴿إنّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ﴾(13).
إن هذه النسبة لاتخرج عن كونها تخصيصًا بمن آتاه الله المال وتمييزًا له عن الذين لا يملكون أو لايجدون ماينفقون..
فإذا قلنا هذا البيت هو بيت فلان، فإن النسبة تعود إليه لتمييزه عن بيت غيره، ولتتحدد مسؤولية من هو تحت تصرفه.
وهذه النسبة لاتغير من حقيقة التمليك شيئًا؛ ولكنها تُحَدِّد من تملكه، أو من أصبح له حقُ التصرف فيه، ليُحاسَب تبعًا لكيفية هذا التصرف، وهل أنه تم تبعًا للأوامر التي أَمرَ بها المالكُ الأصلي أم أنه خالفها؟.
وهنا يأتي الجزاء الذي لابد منه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر..
6– التمليك لاعلاقة له بالعقيدة :
إن التمليك للبشر (أو الرزق) يُكْتَب لهم من لحظة نفخ الروح فيهم، دون تفريق بين مسلم وكافر؛ لأن الرزق هو معاش الإنسان في حياته الدنيا – قل ذلك الرزق أو كثر – لأنه مدار حياتهم، فلابد لهم منه، وهذا تابع لحقيقة الوجود، وهو ابتلاء وامتحان في قلته أو في كثرته.
وهل يُتصور أن يتم وجود لبشر أو مخلوق دون أن يكون له رزق خاص به؟ إن ذلك مخالف لسنة الله في خلقه.
أما الإيمان فلا يكون إلا لمن أراده الله له وهداه إليه.
وأن التشريع الآلهي أنزله الله للناس كافة، فهو لايقتصر على من يؤمن به، وإنما هو تشريع للبشر جميعهم، آمن به من آمن وكفر به من كفر.
أما الرزق فإنه لايُحرمُه إنسان قــد قدّر الله له الحياة على هذه الأرض، وهو التمليك الذي خصه الله به دون غيره.
وهو بهذا التخصيص يكون مالكاً لما رزقه الله فينسب إليه، ويكون مسؤولاً عنه دون سواه.
ومن هذا المنطلق وجُدت الملكية في الإسلام ووجُدت لها الحماية، كما وجُدت لها الحدود والشروط التي لاتتم إلا بها.
وعلى هذا تكون مشاركة الكافر للمؤمن برزق الله نتيجة لخلقه ووجوده على ظهر هذه الأرض. أما يوم القيامة فليس له منها شيء (أي من هذه الملكية) وإنما هي خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، مصداقًا لقوله تبارك وتعالى:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي اَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَومَ الْقِيَامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَّعْلَمُونَ﴾(14).
* * *
الهوامش:
- سورة المائدة الآية 120.
- سورة المائدة الآية 17.
- الأعراف آية 54 .
- سورة الزمر الآية 62.
- سورة الحجر الآية 20.
- سورة المعارج الآية 24.
- سورة النساء الآية 32.
- سورة النور الآية 33.
- سورة الحديد الآية 7.
- سورة المنافقون الآية 10.
- سورة التوبة الآية 103.
- سورة البقرة الآية 274.
- سورة الأنفال الآية 72.
- سورة الأعراف الآية 32.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس 2008م ، العـدد : 8 ، السنـة : 32