الأدب الإسلامي
بقلم : الدكتور عبد الرحيم الكردي
عاش الجاحظُ في النصف الأوّل من العصر العباسيّ (150-255هـ) هو العصر الذهبيّ للحضارة الإسلامية، وكان الجاحظُ درةَ هذا العصر، ذكاءً وعلمًا وثقافةً؛ فهو زعيم البيان العربي، وقطب من أقطاب علم الكلام، ألف زهاءَ ثلاثمائة وستين مُؤَلَّفًا، تميزتْ بالابتكار والإبداع والطرافة، وتنم عن معرفة واسعة بالثقافات التي عرفها أبناءُ عصره.
هذا العالم الموسوعيّ الجليل كان يفهم آيات القرآن الكريم فهمًا خاصًّا، يعتمد على الفطنة الشديدة الحساسية لدقائق المعاني، وعلى الخبرة العميقة بدلالات الأساليب اللغوية، فلم يرضَ عن التفسيرات الساذجة التي كان يذيعها فريقٌ من المفسرين بين الناس، ولم يرضَ عن التأويلات المغلوطة التي يستخدمها الطاعنون على القرآن، من أصحاب الملل الضالة؛ فانبرى للدفاع عن القرآن الكريم ضدّ هؤلاء وأولئك؛ فكشف عن جهلهم باللغة، وعدم استواء منطقهم، وفضح دوافعهم، التي تتمثّل في الرغبة في إرضاء أذواق العامة بالنسبة للمفسرين، وفي اتباع الضغائن والكراهية والحقد الدفين على الإسلام لدى الطاعنين.
لم يستخدم الجاحظ أساليبَ الدعاية والوعظ ولا أساليب التشهير، ولم يعتمد حتى على أساليب السخرية التي برع فيها وامتلك ناصيتَها، بل استخدم منهجًا علميًّا منضبطاً في الردّ على هؤلاء وأولئك، هذا المنهجُ العلميُّ يعتمد على ثلاثة أركان هي:
أ- اللغة، ب- العقل، ج- الرواية .
هذا المنهجُ القائم على هذه الأركان الثلاثة في فهم كتاب الله، كانت له جذور في مناهج الفقهاء المجتهدين، من أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي، فقد كانوا يتسخدمون اللغةَ والعقلَ والروايةَ في فهم الآيات التي يستنبطون منها الأحكامَ الفقهيةَ، لكنّ استخدامَ الجاحظ لهذا المنهج أسفر عن نظريات ثلاث تتعلق كلٌّ منها بركن من هذه الأركان الثلاثة؛ ففي المجال الأوّل مجال اللغة شيّد الجاحظُ نظريةً في البيان العربيّ لأوّل مرة، وفي المجال العقليّ كان الجاحظ صاحبَ رؤية ومذهب خاصّ به في التفكير والتعليل عُرِفَ باسمه «الجاحظية»، وفي مجال الرواية أقام الجاحظُ بناءَ نظرية في الإعجاز القرآنيّ بالتعاون مع النظام عُرِفَت بالصَّرْفة.
أوّلاً: نظريةُ البيان:
يرى الجاحظُ أنّ البيانَ هو وضوح الدلالة، وأن الدلالة يمكن أن يُعَبَّر عنها بأدوات أخرى غير اللغة، مثل الإشارة والخطّ والحال؛ لكن اللغةَ هي أعظم وسيلة منحها الله للإنسان لكى يبين عن أفكاره ومشاعره، ويرى أن البيان منحةٌ عَامّة في كل لغات البشر، ولدى كل الأجيال؛ فالعربيّ يُوْصَف بالبيان في لغته، والفارسيّ والروميّ يُوْصَفَان أيضًا بالبيان في لغتيهما.
ويرى أنّ العربَ في جاهليتهم كانت لهم طرقٌ خاصّة في استخدام اللغة، وفي التعبير عن المعاني. هذه الطرقُ كانت معروفةً بالسليقة والفطنة لدى العرب الفصحاء. وكانوا لا يحتاجون إلى قواعد خاصّة لمعرفتها؛ فلمّا فسدت الأذواقُ احتاج الناس إلى قواعد يعرفون بها طرقَ أداء المعنى، هذه القواعد تشبه قواعد النحو؛ لكنها ليست هي، بل هي قواعد أخرى أكثر صعوبةً وأوسع مدى، إنها «البيان العربي» الذي يحاول استقصاءَ أساليب العرب في أداء الدلالات وكيفية وضع الألفاظ، وما يتصل بها من أطياف المعاني؛ فعلى سبيل المثال يرى الجاحظُ أنّ الناس يفهمون كلمة (طَيّب) على أنها تؤدى معنى واحدًا، لكن المتتبع للبيان العربي يلاحظ أنّ العربَ إذا قالوا: «ماء طيب» فيريدون أنه عذب وإذا قالوا: شعير طيب، أو بُرٌّ طيب، فإنما يريدون أنه وسط وأنه فوق الدُّون، ويقولون «ريح طيبة» أي أنه خال من النَّتَن، ويقولون: طاب لك الشيء.
ويروى الجاحظ في ذلك أن طُوَيْسًا المغني قال لبعض ولد عثمان بن عفان: «لقد شهدت زفاف أمّك المباركة إلى أبيك الطيّب يريد الطاهرة».
يقول الجاحظ: «ولو قال: شهدت زفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك لم يحسن ذلك، لأن قولك طيب إنما يدل على قدر ما اتصل به من الكلام وقد قال الشاعر: والطيبون معاقد الأزُرُ.
وقد يخلو الرجل بالمرأة فيقول: وجدتها طيبة، يريد: طيبة الكَوْم، وإذا قالوا: «فلان طيب الخلق» فإنما يريدون الظّرف والمِلْح» (ص59 ج4 الحيوان).
ويرى الجاحظُ أيضًا أن القرآن الكريم كما جاء بلغة العرب لفظاً وصوتًا فإنه نزل أيضًا حسب البيان العربيّ، واستخدم الأساساليبَ نفسَها التي استخدمها العربُ الجاهليون في وضوح الدلالة؛ بل تنوع بيانه حسب تنوع البيان العربي؛ فهو إذا خاطب الأعرابَ أخرج الكلامَ مخرج الإشارة والوحى والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطاً وزاد في الكلام (ص94 ج1 الحيوان).
من ثم فإنّ فهم آيات القرآن الكريم يتوقف على الخبرة بأساليب العرب، وأن من يتعرّض لتفسير آية من آيات الله دون علم بهذه الأساليب فقد أخطأ، ويضرب الجاحظُ أمثلةً كثيرةً لجهل مشهوري المفسرين في عصره، من أمثال: عِكْرمة والكلبى والسُّدى والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر الأصم وزيد بن أسلم. كما يضرب أمثلةً كثيرةً أخرى لجهل أصحاب الملل الطاعنين في القرآن بهذه الأساليب. من ذلك مثلاً: أن زيد بن أسلم يزعم في قول الله تعالى: ﴿وَالتِّيْنِ وَالزَّيْتُوْنِ﴾ أن التين «دمشق» وأن الزيتون «فلسطين». يقول الجاحظ: «وما تُعْرَفُ دمشق إلا بدمشق ولا فلسطين إلا بفلسطين (ص208 ج1 الحيوان).
ومن ذلك أيضًا، طعن طائفة من أصحاب الدهرية في قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدَّمُ ولَحْمُ الْخِنْزِيْرِ﴾ قالوا: إن الله ذكر الميتة كلَّها والدم كلَّه ولم يذكر من الخنزير إلا لحمَه، فكيف تحرمون الشحمَ والعرقَ والمخَّ والرأسَ.
يقول الجاحظُ في ذلك: «العربُ تقول للرجل الصانع نجّارًا وإن كان لا يعمل بالمثقب والمنشار، وتسميه خبّازًا إذا كان يطبخ ويعجن، وتقول: هؤلاء بنو فلان وإن كان نساؤهم أكثر من الرجال.. وإن للناس عادات وكلامًا يعرف كل شيء بموضعه، وإنما ذلك على قدر استعمالهم له وانتفاعهم به، وقد يقول الرجل لوكيله: اشترِ لي بهذا الدينار لحمًا أو بهذه الدراهم، فيأتيه باللحكم فيه الشحمُ والعظمُ.. ولو أنّ رجلاً قال: أكلتُ لحمًا وإنما أكل رأسًا أو كبدًا أو سمكاً لم يكن كاذبًا، وللناس أن يعضوا كلامهم حيث أحبوا» (ص74 ج4 الحيوان).
ومما ينتمي إلى ذلك أيضًا، أنهم طعنوا في قول الله تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَىٰ بَطْنِه وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ أرْبَعٍ﴾ النور: آية 45، وقالوا: كيف يكون المشيُ على البطن، وما علمنا أن المشيَ يكون إلا بالأرجل.
يقول الجاحظ: في هذا الذي جهلتموه ضروبٌ من الجواب أما وجهٌ منه فهو قول القائل وقول الشاعر: «ماهو إلا كأنه حيّة» «وكأن مشيته حيّة» يصفون ذلك ويذكرون عند مشيته الأيم والحيّاب وذكور الحيّات، ومن جعل للحيّات مشيًا من الشعراء أكثر من أن نقف عليهم» (ص271 ج4 الحيوان).
ومثل ذلك أيضًا قولهم في قوله تعالى عن النحل: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ﴾: إنّ العسلَ لم يدخل للنحلة في بطن قط، كما أن ما تفرزه النحلة ليس شرابًا بل يكون كذلك عندما يمزج بالماء.
يردّ الجاحظ على هؤلاء بأنهم يجهلون أساليبَ العرب في التعبير عن المعاني؛ فهم يسمون الشيءَ باسم الشيء المجاور له، وباسم ما كان وما يكون، يقولون: نزل السماء، ويريدون المطر، ويقولون: رعينا السماءَ، ويريدون العشب، ويقولون: أعصر خمرًا، ويريدون العنب. ثم ينهى حديثه عن ذلك بقوله: «ومن حمل اللغةَ على هذا المركب لم يفهم عن العرب قليلاً ولا كثيرًا. وهذا البابُ هو مفخر العرب في لغتهم وبه وبأشباهه اتّسعت» (ص 426 ج5 الحيوان).
ثانيًا: الجاحظية :
كان الجاحظ أحدَ زعماء المعتزلة ورأسُ فرقة عُرِفَتْ باسمه هي «الجاحظية» وكان يعتقد فيما كان المعتزلة يعتقدون به، مثل إعلاء شأن العقل، وحريّة الإرادة، وخلق القرآن، والعدل، والتوحيد، وانفرد بأمور أخرى كالقول بالطبع والكمون، وتعادل قوى الطبيعة وغير ذلك.
وقد ظهر أثر اعتناق الجاحظ جليًّا في فهمه لمعاني القرآن الكريم، خلال تحكيمه للعقل في كل معنى، وخلال قدرته الفائقة على دحض مفتريات الطاعنين على القرآن؛ فلم يقبل عقل الجاحظ قول الجهمية وابن حائط: إن الوزغة يجب قتلها؛ لأنها كانت تضرم النار على إبراهيم u .
يقول الجاحظ: «إن الوزغة التي تقتلها على أنها كانت تضرم النار على إبراهيم أهى أم من أولادها، فمأخوذة هي بذنب غيرها؟ أم تزعم أنه في المعلوم أن تكون تلك الوزغة لا تلد ولا تبيض ولا تفرخ إلا من يدين بدينها ويذهب مذهبها» (ص287 ج4 الحيوان).
ولم يقبل عقل الجاحظ قولَهم بأن الوطواط والضفدع والعقرب والحيّة فيهم عصاة وفيهم طائعون، ولم يقبل عقلُه قولَ المفسرين أن السنور خرج من عطسة الأسد في سفينة نوح، ولا قولهم إن الخنزير خرج من سلح الفيل. ولم يقبل قولهم بأن الله قد شقّ لسان الحيّة؛ لأنها حملت إبليس عند غوايته لآدم في الجنة، ولا يقبل عقله قولَ ابن حائط وناسٍ من جهال الصوفيّة بأن في النحل أنبياءَ، لقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾، ويعجب الجاحظُ من منطقهم المعوج وعدم فهمهم للآية، ثم يقول: «فإن كنتم مسلمين فليس هذا قول أحد من المسلمين، وإلا تكونوا مسلمين فلم تجعلون الحجة على نبوة النحل كلامًا هو عندكم باطل؟» (ص424 ج5 الحيوان).
كما يردّ الجاحظُ على الدهرية طعنَهم في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُوْنَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيْهِمْ حِيْتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُوْنَ لاَ تَأْتِيْهِمْ﴾ الأعراف: آية 163، إذ يرون أن مجيء الحيتان في مواعيد معينة ليس فيه إعجاز أو غرابة، فيقول الجاحظ لهم، لو كان قال: تأتيهم صيفًا أو شتاءً لكان كما تقولون، لكن يوم السبت ليس من متعلقات تقلب الطبيعةَ ودورانها؛ فهو يأتي صيفًا وشتاءً وربيعًا، لذلك فإن العلاقة بينه وبين هجرة الأسماك والطيور منفكّة.
وهكذا يستخدم الجاحظُ عقلَه في فهم النصّ، ويحكمه في صواب معناه أو في خطئه، وهذا لا يكون إلا من رجل كالجاحظ .
ثالثًا : الصرفةُ
أمّا الأمور التي لايجد لها الجاحظُ سندًا من التفسير اللغوي، أو من البرهان العقلي، ولا يمكنه انكارُها لورودها في القرآن الكريم أو في الأخبار المتواترة فإنه يقول فيها: «بالصَّرْفة».
والمقصودُ بالصَّرفة. أن الله تعالى قد صرف أوهامَ أناس عن رؤية أشياء ظاهرة لهم لغاية وحكمة إلهيّة وتدبير ربّاني.
وقد استخدم الجاحظُ هذه النظريةَ في الردّ على الدهرية الذين طعنوا في قصة سليمان وبلقيس، وفي قصة يوسف، وفي قصة موسى، وطعنوا في الآيات التي تتحدّث عن رجم الشياطين .
قالوا: زعمتم أن الله تعالى أعطى سليمانَ مُلكاً على الجن والإنس والطير والريح، ثم زعمتم – وهو إما بالشام وإما بسواد العراق – أنه لا يعرف باليمن ملكةً هذه صفتُها، وملوكنا اليوم دون سليمان في القدرة ولا يخفى عليهم ملك في مشارق الأرض أو مغاربها، حتى يأتيه طائر ضعيف الطيران فيخبره بذلك، وقالوا مثل ذلك في يوسف وهو وزير ملك مصر، ولا يعرف كيف يصل إلى أهله ولا يعرف مكانَهم، ومثل ذلك بالنسبة لموسى ومعه أمةٌ من الأمم يظلّون أربعين سنة يتسكّعون في أرض التيه لا يستطيعون منها خروجًا، وكانت من قبل ملاعبهم وطرق تجارتهم؟! ومثل ذلك قالوه في الشياطين الذين يعرفون أنهم لايصلون إلى السمع في السماء، ثم يعرضون أنفسهم للموت عن طريق الشهب حتى يوم القيامة. كأنهم لبهاءُ، وهم من هم كيدًا ومكرًا وشغفًا بالأخبار .
يردّ الجاحظ على كل ذلك بقول واحد، وهو أن الله تعالى قد صرف أوهامَ سليمانَ ويوسف وبني إسرائيل وموسى. كما صرف أوهامَ الشياطين لحكمة إلهيّة، ولتدبير ربّاني، ومثل ذلك صرف أوهام الجن عن معرفة موت سليمان حتى يبين أنهم لا يعلمون الغيب، ومثل ذلك أيضًا صرف أوهام العرب عن معارضة القرآن، فلم يحاولوا – ولو بكلام سخيف – أن يَتَحَدَّوْه .
وبعدُ، فإن المطاعنَ التي تصدّى الجاحظُ لتفنيدها والتفسيرات المغلوطة التي كشف زيفَها تُعَدُّ الآن نوعًا من التاريخ، لكن منهجه يمكن أن يُتَّخَذ نواةً لمناهج أخرى أكثر تطورًا في الدفاع عن القرآن الكريم وفي فهمه فهمًا صحيحًا؛ فالمطاعن التي توجه للقرآن الآن لم تنقطع بل ازدادت شراسةً، والفهم الخاطئ لآيات القرآن لم يتوقّف، ولن يتوقّف إن شاء الله أيضًا ذلك المدد الطيب من العلماء الذين يسخرون عقولَهم وأقلامَهم للدفاع عن القرآن الكريم ولتصحيح مفاهيمه في عقول الغافلين .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32.