دراسات
إسلامية
سُرَاقَةُ
بنُ مالكِ بنِ
جُعْشُم
ومحاولته
لنيل جائزة
قريش يوم
الهجرة
بقلم: أسامة نور القاسمي
(*)
عندما أفلت النبي –صلى الله عليه وسلم- من يد قريش وباءت مؤامرتها لقتله –صلى الله عليه وسلم- بالفشل جُنَّ جنونها، وأرسلت جواسيسها خارج مكة في كل جانب تجوب الصحراء وتتحسّس الرمال وتمسح الجبال وتستنطق المنطقة كلها بحثًا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه لتحول دونه –صلى الله عليه وسلم- ودون لجوئه إلى مكان يتخذه مقرًّا لدعوته ومنطلقًا لانتشارها وعاصمة للدولة الإسلامية العالمية ومولدًا للحضارة الإسلامية الخيِّرة.
وفي
جانب آخر رصدت
جائزةً غالية
جدًّا وأعلنت
عنها لمن
يعتقل إليها ويردّ
عليها
محمَّدًا
–صلى الله
عليه وسلم- وصاحبه
أبابكر –
رضي الله عنه –
حيًّا أو
ميتًا. وكانت
عبارة عن مئة
إبل.
وأغرت
هذه الجائزة
الثمينة
سراقة بن مالك
بن جُعْشُم
المدلجي
ومَنَّىٰ
نفسه أن يكون
هو الحَظِيَّ
بها دون غيره،
فنصب نفسه
لذلك، وخرج
يلاحق النبي
–صلى الله
عليه وسلم-
وصاحبه
أبابكر –
رضي الله عنه –.
وقد
روى البخاري –
رحمه الله –
قصة سراقة يوم
الهجرة، فقال:
قال ابن شهاب:
وأخبرني عبد
الرحمن بن
مالك
المدلجي، وهو
ابن أخي سراقة
بن مالك بن
جُعْشُم أن
أباه أخبره: أنه
سمع سراقة بن
جُعْشُم يقول:
جاءنا رسل كفار
قريش، يجعلون
في رسول الله
–صلى الله
عليه وسلم-
وأبي بكر،
ديةَ كل واحد
منهما، لمن
قَتَلَه أو
أَسَرَه.
فبينما أنا
جالس في مجلس
من مجالس قومي
بني مدلج أقبل
رجل منهم، حتى
قام علينا
ونحن جلوس،
فقال: يا
سراقة إني
رأيتُ آنفًا
أسودة –
أي
أشخاصًا
–
بالساحل،
أراهما
محمدًا
وأصحابه. قال
سراقة: فعرفتُ
أنهم هم،
فقلتُ له:
إنهم ليسوا
بهم؛ ولكنك
رأيتَ فلانًا
وفلانًا
انطلقوا
بأعيننا –
أي في
نظرنا
مُعَايَنَةً
يتبعون
ضالّةً لهم
–
ثم لبِثْتُ في
المجلس ساعة،
ثم قمتُ
فدخلتُ، فأمرتُ
جَاريتي أن
تخرج بفرسي،
وهي من وراء أكمة
–
أي رابية
مرتفعة
–
فتحبسهاعليّ.
وأخذتُ رمحي
فخرجتُ به من
ظهر البيت،
فخَطَطْتُ
بزجّه الأرضَ – أي
أمسكتُ
بأسفله.
والزّجُّ:
الحديدة في
أسفل الرمح
–
وخفضتُ
عاليَه –
أي
أمسكتُه بيدي
وجررتُه على
الأرض
–
حتى أتيتُ
فرسي
فركبتُها،
فرفعتُها
تُقَرِّب بي – أي
أسرعتُ بها السير
–
حتى دنوتُ
منهم،
فعَثَرَتْ بي
فرسي، فخررتُ عنها،
فقمتُ
فأهويتُ يدي
على كنانتي – الكنانة:
جعبةٌ صغيرة
من جلد
يُحْمَل فيها
النبل
والسهام
–
فاستخرجتُ
منها الأزلام – الأزلام:
سهام لاريش
عليها كان أهل
الجاهلية يستقسمون
بها –
فاستقسمتُ
بها: أضرُّهم
أم لا؟ فخرج
الذي
أَكْرَهُ،
فركبتُ فرسي
وعصيتُ الأزلامَ،
تُقَرِّب بي،
حتى إذا سمعتُ
قراءةَ رسول
الله – صلى
الله عليه
وسلم - وهو لا
يلتفت، وأبوبكر
يُكْثِر
الالتفاتَ،
ساخت يدا فرسي
في الأرض حتى
بلغتا
الركبتين،
فخررتُ عنها، ثم
زجرتُها،
فنهضتْ فلم
تكد تُخْرِج
يديها، فلما
استوتْ
قائمةً إذا
لأثر يديها
عُثَان –
أي
دخان، ج:
عَوَاثِن،
وأكثر ما
يستعمل فيما يُتَبَخَّرُ
به، ويطلق على
الغبار أيضًا
–
ساطع من
السماء مثل
الدخان،
فاستقسمتُ
بالأزلام،
فخرج الذي
أكره،
فناديتُهم
بالأمان، فوقفوا،
فركبتُ فرسي
حتى جئتُهم. و
وقع في نفسي
حين لقيتُ ما
لقيتُ من
الحبس عنهم،
أن سيظهر أمر رسول
الله –صلى
الله عليه
وسلم- فقلتُ
له: إن قومك قد
جعلوا فيك
الديةَ.
وأخبرتُهم
أخبارَ ما
يريد الناس
بهم. وعرضتُ
عليهم الزادَ
والمتاع، فلم
يرزآني –
أي
لم يصيبا
شيئًا من زادي
ومتاعي –
ولم يسألاني
إلاّ أن قال:
«أخْفِ عنّا»
فسألتُه أن
يكتب لي كتاب
أمن. فأمر عامر
بن فهيرة،
فكتب في رقعة
من أديم. ثم
مضى رسول الله
–صلى الله
عليه وسلم-.
قال
ابن شهاب:
فأخبرني
عُرْوَةُ بنُ
الزبير: أن
رسول الله
–صلى الله
عليه وسلم-
لقي الزبير في
ركب من
المسلمين،
كانوا تجارًا
قافلين من الشام،
فكسا الزبيرُ
رسولَ الله
–صلى الله
عليه وسلم-
وأبابكر
ثِيَابَ
بَيَاضٍ. وسمع
المسلمون
بالمدينة
مخرجَ رسول
الله –صلى
الله عليه وسلم-
من مكة،
فكانوا يغدون
كلَّ غداة إلى
الحَرَّة،
فينتظرونه
حتى يردَّهم
حرُّ الظهيرة،
فانقلبوا
يومًا بعدما
أطالوا
انتظارَهم، فلما
أووا إلى
بيوتهم،
أَوْفَىٰ – أي
أَشْرَفَ
–
على أُطُم من
آطامهم –
أي على
حصن من حصونهم
–
لأمر ينظر
إليه،
فبَصُرَ
برسول الله
–صلى الله
عليه وسلم-
وأصحابه
مُبَيَّضِيْن
يزول بهم
السَّرَابُ،
فلم يملك
اليهودي أن
قال بأعلى
صوته: يا
معاشر العرب،
هذا جَدُّكم
الذي تنتظرون – جَدُّكم:
حَظُّكم
–
فثار
المسلمون إلى
السِّلاح،
فتَلَقَّوْا رسولَ
الله –صلى
الله عليه
وسلم- بظهر
الحَرَّة،
فعدل بهم ذاتَ
اليمين، حتى
نزل بهم في
بني عمرو بن
عوف. وذلك يوم
الاثنين من
شهر ربيع الأوّل،
فقام أبوبكر
للناس، وجلس
رسول الله –صلى
الله عليه وسلم-
صامتًا،
فطَفِقَ من
جاء من
الأنصار –
ممن لم يَرَ
رسولَ الله
–صلى الله
عليه وسلم- يُحَيِّي
أبابكر، حتى
أصابت الشمس
رسولَ الله
–صلى الله
عليه وسلم-
فأقبل أبوبكر
حتى ظَلَّلَ
عليه بردائه،
فعرف الناسُ
رسول الله –صلى
الله عليه
وسلم- عند
ذلك، فلبث
رسول الله –صلى
الله عليه
وسلم- في بني
عمرو بن عوف
بِضْعَ
عَشْرَةَ
ليلةً،
وأَسَّسَ
المسجد الذي أُسِّسَ
على التقوى،
وصلى فيه رسول
الله –صلى الله
عليه وسلم- ثم
ركب راحلتَه،
فسار يمشي معه
الناس، حتى
بَرَكَتْ عند
مسجد الرسول
–صلى الله
عليه وسلم-
بالمدينة،
وهو يُصَلِّي
فيه يومئذ
رجال من
المسلمين.
وكان
مِرْبَدًا للتمر
–
والمِرْبَدُ:
ما يُجَفَّفُ
فيه التمر
–
لسُهَيْل
وسَهْل
غلامين
يتيمين في
حَجْر أسعد بن
زُرَارَة،
فقال رسول
الله –صلى
الله عليه
وسلم- حين
بركت به
راحلتُه: «هذا
إن شاء الله
المنزلُ» ثم
دعا رسول الله
–صلى الله عليه
وسلم-
الغلامين،
فساومهما
بالمربد؛
ليتّخذه
مسجدًا،
فقالا: لا؛ بل
نهبه لك يا
رسول الله،
فأبى رسول
الله أن يقبله
منهما هِبَةً
حتى ابتاعه
منهما، ثم
بناه مسجدًا.
وطَفِقَ رسول
الله –صلى
الله عليه
وسلم- ينقل
معهم اللَّبِنَ
في بنيانه
ويقول وهو
ينقل
اللَّبِنَ: «هٰذَا
الحِمَالُ لا
حِمَالَ
خَيْبَرْ،
هذا أَبَرُّ
رَبَّنا
وأَطْهَرْ».
ويقول: «اللّٰهُمَّ
إِنَّ
الأَجْرَ
أَجْرُ
الآخِرَهْ، فارْحَمِ
الْأَنصارَ
والمُهَاجِرَهْ».
فتَمَثَّلَ
بشعر رجل من
المسلمين لم
يُسَمَّ لي. (البخاري:
3906، كتاب مناقب
الأنصار، باب
هجرة النبي وأصحابه).
وقال
البخاري:
حَدَّثَنا
محمد بن بشار:
حَدَّثنا
غُنْدَرٌ:
حَدَّثَنا
شُعْبَة عن
أبي إسحاق،
قال: سمعتُ
البراء –
رضي الله عنه –
قال: لمّا
أقبل النبي
–صلى الله
عليه وسلم- إلى
المدينة
تَبِعَه
سُرَاقَةُ
بنُ مالك بنِ
جُعْشُم،
فدعا عليه
النبي –صلى
الله عليه
وسلم- فساختْ
به فَرَسُه،
قال: أُدْعُ
اللهَ لي ولا
أَضُرُّك،
فدعا له. قال:
فعَطِشَ رسول
الله –صلى
الله عليه
وسلم- فمَرَّ
براعٍ. قال
أبوبكر:
فأخذتُ
قَدَحًا
فحلبتُ فيه
كُثْبَةً من
لَبَن –
والكُثْبَةُ:
كلُّ قليل
جمعتَه من لبن
أو غيره
–
فأتيتُه فشرب
حتى رضيتُ»
(البخاري: 2439، 3908؛
مسلم: 2009).
وقال
البيهقي في
«السنن
الكبرى»:
وفيما أجاز لي
أبو عبد الله
الحافظ
روايته عنه أن
أبا العباس
محمد بن
يعقوب،
حَدَّثهم،
أنا الربيع بن
سليمان، أنا
الشافعي، أنا
غير واحد من
أهل العلم:
أنه لمّا قدم
على عمر بن
الخطاب –
رضي الله عنه – ما
أصيب من
العراق، قال
له صاحب بيت
المال: أنا
أدخله بيتَ
المال. قال:
لا، وربّ
الكعبة لا يُؤْوَىٰ
تحت سقف بيت
حتى أقسمه،
فأمر به،
فوُضِعَ في المسجد،
ووُضِعَتْ
عليه
الأنطاعُ – الأنطاعُ:
جمع نِطْع
بكسر النون
وفتحها وسكون
الطاء
وبكسرها: بساط
من الجلد
–
وحرسه رجال من
المهاجرين
والأنصار.
فلما أصبح غدا
معه العباسُ
بنُ عبد
المطلب، وعبد
الرحمن بن عوف
أخذ بيد
أحدهما أو
أحدهما أخذ
يده، فلما
رأوه
كَشَطُوا – أي
أزالوا
وكشفوا
–
الأنطاعَ عن
الأموال،
فرأى منظرًا
لم يَرَ مثله،
رأى الذهب فيه
والياقوت
والزبرجد
واللؤلؤ
يَتَلَأْلأُ،
فبكى، فقال له
أحدهما: إنه والله
ما هو بيوم
بكاء؛ ولكنه
يوم شكر
وسرور، فقال:
إني والله
ماذهبتُ حيث
ذهبتَ؛ ولكنه
والله ما كثر
هذا في قوم
قطّ إلا وقع
بأسهم بينهم،
ثم أقبل على
القبلة ورفع
يديه إلى
السماء، وقال:
اللهمّ إني
أعوذ بك أن
أكون مُسْتَدْرَجًا؛
فإني أسمعك
تقول:
«سنَسْتَدْرِجُهم
مِنْ حَيْثُ
لاَ
يَعْلَمُونَ»
(القلم/44).
ثم
قال أين
سُرَاقَةُ بن
جُعْشُم،
فأتي به أشعر
الذراعين
دقيقهما،
فأعطاه
سِوَارَيْ كسرى،
فقال:
اِلبَسْهما،
ففعل، فقال:
قل: الله أكبر.
قال: الله
أكبر. قال: قل:
الحمد لله
الذي سلبهما
من كسرى بن
هرمز
وألبسهما
سراقة بن جُعْشُم
أعرابيًّا من
بني مدلج،
وجعل يقلب بعض
ذلك بعضًا،
فقال: إن الذي
أدّى هذا
لأَمين، فقال
له رجل: أنا
أخبرك أنت
أمين الله وهم
يُؤَدُّون
إليك ما
أدّيتَ إلى
الله، فإذا
رتعتَ رتعوا.
قال: صدقتَ،
ثم فرقه.
قال
الشافعي:
وإنما
ألبسهما
سُرَاقَةَ
لأن النبي
–صلى الله
عليه وسلم-
قال لسراقة:
وأنظر إلى
ذراعيه كأني
بك قد
لَبِسْتَ
سِوَارَيْ
كسرى. قال: ولم يجعل
له إلا
سِوَارَيْن
(البيهقي: 13033).
وقد
مات سراقة بن
مالك بن جعشم
المدلجي
الكناني –
رضي الله عنه – في
خلافة عثمان –
رضي الله عنه –
سنة أربع
وعشرين من
الهجرة
الموافقة
لسنة ست مئة
وخمس وأربعين
من الميلاد.
وقيل بعد
عثمان. وله في
كتب الحديث 19
حديثًا. وكان
في الجاهلية قائفًا
أي بارعًا في
اقتصاص الأثر
وإصابة الفراسة.
والقيافةُ
اشتهر بها في
العرب آل كنانة
واختصّ بها من
كنانة بنو
مدلج.
(الإصابة في
تمييز
الصحابة،
الترجمة 3109).
إن
قصة سراقة يوم
الهجرة
النبوية
لتؤكد أن الله
- عزّ وجلّ-
أحاط رسوله
–صلى الله
عليه وسلم- بعنايته
الخاصة حيث
أيّده في
طريقه إلى
الهجرة
بمعجزات
باهرات، فلم
يقدر سراقةُ
على مسّه –صلى
الله عليه
وسلم- بسوء
رغم محاولته
المتكررة. ومن
المعجزات
الإلهية أن سراقة
ألقى الله في
روعه أن نبيه
سينتصر لا محالة
وأن قريشًا
مغلوبون
مهزومون
خائبون ألبتة.
* *
*
(*) المتخرج
من الجامعة
الإسلامية:
دارالعلوم/
ديوبند
والحامل
لشهادة
الماجستير في الفلسفة
في اللغة
العربية
وآدابها من
جامعة دهلي.
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم ديوبند
، محرم – صفر 1437
هـ = أكتوبر –
ديسمبر 2015م ، العدد
: 1- 2 ، السنة : 40