الفكر
الإسلامي
أهمية
التوازن في
الإسلام
بقلم:
الأستاذ
محمد ساجد
القاسمي(*)
إن
التوازن مبدأ
ثابت نلمسه في
جميع ماخلق
الله من أشياء
في هذا
الكون،
فكلُّ شي فيه
منظَّم
ومتِّسق، فلا
اضطراب فيه
ولا عشوائية،
ولا اختلال
ولافوضوية ﴿ذَلِكَ
تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ﴾(1).
مبدأ
التوازن:
إن
الأرض التي
نعيش عليها
خلقها الله
عزَّوجل،
وجعلها سابحة
في الفضاء
الواسع
بتجاذب
متوازن ، وخلق
كلَّ ما عليها
بتوازن كامل
وتقدير معلوم﴿إِنَّا
كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ﴾(2).
فبهذا
التقدير
والتوازن خلق
الإنسان ، حيث
جعله حسن
الصورة،
منتصب
القامة،
متناسب الجسم،
سوي الأعضاء ،
وجعل أعضاءه
الثنائية على
بعد متناسب،
فلوانحرف عضو
عن موضعه
المتناسب
لاختل توازنه
وذهب حسنه.﴿لَقَدْ
خَلَقْنَا
الإنْسَانَ
فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ﴾(3).
وبه
أنزل الماء من
السماء ﴿وَأَنْزَلْنَا
مِنَ
السَّمَاءِ
مَاءً بِقَدَرٍ﴾(4)،
وبه قسم
الأرزاق بين
العباد ﴿وَلَوْ
بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ
لَبَغَوْا
فِي الْأَرْضِ
وَلَكِنْ
يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ مَا
يَشَاءُ
إِنَّهُ
بِعِبَادِهِ
خَبِيرٌ
بَصِيرٌ﴾(5)،
و به نزَّل كل
شيء من خزائنه
وذخائره﴿وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ
إِلَّا
عِنْدَنَا
خَزَائِنُهُ
وَمَا
نُنَزِّلُهُ
إِلَّا
بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ﴾(6).
وكذلك
جعل الشمس
والقمر
والنجوم تجري
بتقدير
وتوازن، لا
تحيد عن
مسارها، ولا
تتقدم ولا تتأخر
﴿وَالشَّمْسُ
تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ
لَهَا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ *
وَالْقَمَرَ
قَدَّرْنَاهُ
مَنَازِلَ حَتَّى
عَادَ
كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ *
لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي
لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ
الْقَمَرَ
وَلَا
اللَّيْلُ
سَابِقُ
النَّهَارِ
وَكُلٌّ فِي
فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ﴾(7).
و
جعل الليل
والنهار
متعاقبين،
فلم يجعل الليل
مستمرًا حتى
لا يملَّ
الناس من
الظلام الدائم،
ولم يجعل
النهار
سرمدًا لئلا
يسأموا من النور
المتتابع ﴿قُلْ
أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ
اللَّيْلَ
سَرْمَدًا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللهَ
يَأْتِيكُمْ
بِضِيَاءٍ
أَفَلَا
تَسْمَعُونَ *
قُلْ
أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ
اللهُ عَلَيْكُمُ
النَّهَارَ
سَرْمَدًا
إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ
مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللهَ
يَأْتِيكُمْ
بِلَيْلٍ
تَسْكُنُونَ
فِيهِ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(8).
وللحفاظ
على التوازن
والاعتدال
أمر الله عزوجل
بإقامة الوزن
بالقسط،
وإيفاء
الكيل، وتحقيق
العدل
والنصفة،
ونهاهم عن
الظلم والجور،
وبخس الوزن ﴿وَالسَّمَاءَ
رَفَعَهَا
وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ *
أَلَّا
تَطْغَوْا فِي
الْمِيزَانِ *
وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ
وَلَا
تُخْسِرُوا
الْمِيزَانَ﴾(9).
كلُّ
ذلك يدل على
أن التوازن
قاعدة كبرى،
ومبدأ ثابت،
وأساس مهم في
جميع ماخلق
الله من أشياء
في هذا
الكون،
ولولا ذلك
للمسنا فيه اضطراباً
واختلالًا
وعشوائية،
دون اتساق وتنظيم
وتقدير معلوم.
الإسلام دين
التوازن:
وفقًا
لمبدأ
التوازن الذي
يتجلى واضحًا
في الكون
والمخلوقات
جعل الله
الإسلام - دينه
الذي ارتضى
لعباده، ولا
يقبل منهم
سواه - وسطاً
متوازنًا ﴿دِينًا
قِيَمًا
مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا﴾(10).
كما وضع
تشريعاته
وأحكامه
وتعاليمه
كلها منظَّمة
متوازنة، لا
إفراط فيها
كاليهودية التي
حملت العلم
وتركت العمل،
ولا تفريط
كالنصرانية
التي غالت في
العمل وتركت
الدليل، بل هوالدين
الوسط الذي
يجمع بين
العلم
والعمل، والروح
والجسد،
والعقل
والنقل، والدنيا
والآخرة. وهو
الصراط
المستقيم
الذي أنعم
الله على من
سلكوه، وغضب
على من حادوا
عنه،
وضلَّ من
تنكبوه،
الصراط الذي
أمر عباده
بالاستهداء
له: ﴿اهْدِنَا
الصِّرَاطَ
الْـمُسْتَقِيمَ
* صِرَاطَ
الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْـمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ
وَلَا
الضَّالِّينَ﴾(11).
فالإسلام
بتشريعاته
المتوازنة
وتعاليمه السمحة
دين نظام
وتوازن
وانضباط.
فإن
كان الأمر
كذلك فبالطبع
أن تكون الأمة
التي تحمل هذا
الدين أمة
متوازنة، أمة
وسطا، قال
الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً
وَسَطًا
لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ
عَلَى
النَّاسِ
وَيَكُونَ
الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا﴾(12)،
فالأمة
الإسلامية
أمة متوازنة
في الفكر
والعقيدة، وفي
العبادات
والمعاملا ت،
وفي العلاقات
والسلوكيات.
وقد عمَّ هذا
التوازن
حياةَ الأمة
الخاصة
والعامة.
التوازن في
الحياة
الخاصة:
دعا
الإسلام بتعاليمه
وأحكامه كلَّ
فرد من أفراد
الأمة أن يكون
متوازنًا في
فكره
وعقيدته،
فيعبد الله وحده،
ولا يشرك به
شيئًا؛ لأن
الشرك ظلم
عظيم وغمط لحق
الله تعالى:﴿وَإِذْ
قَالَ
لُقْمَانُ
لِابْنِهِ
وَهُوَ يَعِظُهُ
يَا بُنَيَّ
لَا تُشْرِكْ
بِالله إِنَّ
الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(13).
وعبادة غير
الله شطط
وتنكُّب عن
الصراط السوي ﴿وَرَبَطْنَا
عَلَى
قُلُوبِهِمْ
إِذْ قَامُوا
فَقَالُوا
رَبُّنَا
رَبُّ
السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ
لَنْ
نَدْعُوَ
مِنْ دُونِهِ
إِلَهًا
لَقَدْ
قُلْنَا
إِذًا
شَطَطًا﴾(14).
ومتوازناً في
عبادته تعالى
فلا إفراط
ولاتفريط،
قال النبي صلى
الله عليه
وسلم: إن
الدين يسر ولن
يشاد الدين
أحد إلا غلبه
فسددوا
وقاربوا
وأبشروا(15).
ويتجلى
التوازن في
قول الرسول
صلى الله عليه
وسلم لأحد
أصحابه الذين
أرادوا أن
يسيروا على
أسلوب خاص
للعبادة
يهوونه،
ويضيِّقوا
على أنفسهم
بترك الطيبات،
والتشديد
عليها: إن
لبدنك عليك
حقًّا، وإن
لزوجك عليك
حقًّا، وإن
لربك عليك
حقًّا، فأعط
كلَّ ذي حق
حقه(16).
وأمره
كذلك أن يكون
وسطاً
معتدلًا في
العلاقات مع
الناس،
عادلًا في
غضبه ورضاه،
وسروره وحزنه، فلا
يندفع مع
ميوله
وعواطفه اندفاعًا،
ولا ينساق مع
انفعالاته
ومشاعره
انسياقًا،
ولا يحب أحدًا
حبًا لا نهاية
له، ولا يبغض
بغضًا لا حدَّ
له، فقد
أعطانا النبي
صلى الله عليه
وسلم الميزان
العادل للحب
والبغض، حيث
قال: أحبب
حبيبك هونًا
مَّا عسى أن
يكون بغيضك
يومًا مَّا
وأبغض بغيضك
هونا مَّا عسى
أن يكون حبيبك
يومًا مَّا(17). وأن يكون
مقتصدًا في
الإنفاق، فلا
يُسرف ماله
فيكون ملومًا
محسورًا، ولا
يقتر فيكون
بخيلًا
شحيحًا،
وإنما يقتصد
ويعتدل في
إنفاقه، ﴿وَالَّذِينَ
إِذَا
أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ
يَقْتُرُوا
وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا﴾(18).
وأن لا يمشي
في الأرض مرحًا
ولا يرفع صوته
أكثرمن
اللازم،
وإنما يقتصد
في مشيته ويغض
من صوته. ﴿وَلَا
تُصَعِّرْ
خَدَّكَ
لِلنَّاسِ
وَلَا تَمْشِ
فِي
الْأَرْضِ
مَرَحًا
إِنَّ الله لَا
يُحِبُّ
كُلَّ
مُخْتَالٍ
فَخُورٍ *
وَاقْصِدْ
فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ
مِنْ صَوْتِكَ
إِنَّ
أَنْكَرَ
الْأَصْوَاتِ
لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ﴾(19).
وأن يكون
متحريا
للتوازن
والنظام في كل
ما يفعله
ويصنعه،
ليكون أفعاله
وصنائعه
متوازنة
منظمة، فقد
أمر الله
عزوجل نبيه
داود بصنع الدروع
متوازنة
الحلقات
متناسقها حيث
قال: ﴿أَنِ
اعْمَلْ
سَابِغَاتٍ
وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ
وَاعْمَلُوا
صَالِحًا﴾(20).
هكذا
يهدف الإسلام
أن يسود
التوازن
والانضباط
جميع شؤون
حياته
الخاصة،
إذالاضطراب
والاختلال
يعوق دون إداء
واجباته
ورسالته.
التوازن في
الحياة
العامة:
كذلك
نظَّم
الإسلام
حياته العامة
بأحكامه وتشريعاته،
فقد ربط
العبادات من
صلاة وصوم وزكاة وحج
بأوقات خاصة
و أزمان
محددة، وأمر بإقامة
الصفوف في
الصلاة، حيث
قال
رسول الله
صلى الله عليه
وسلم: أقيموا
الصفوف، وحاذوا
بين المناكب،
وسدُّوا
الخلل(21).
وأمر
بالسلام
والتحية
للآخرين، ﴿وَإِذَا
حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ
مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا﴾(22).
والاستئذان
لدخول بيوتهم ﴿يَا
أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا
بُيُوتًا
غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ
حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا
ذَلِكُمْ
خَيْرٌ
لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ﴾(23).
كما
أمر في
المعاملات
بالاحتراز عن
كل ما يفضي
إلى
المنازعة،
وبتحديد
الأجل، وكتابة
الدين
﴿ياأَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ
إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ
بِالْعَدْلِ
وَلَا يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ
يَكْتُبَ
كَمَا
عَلَّمَهُ
اللهُ فَلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلِ
الَّذِي
عَلَيْهِ
الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ
اللهَ
رَبَّهُ
وَلَا يَبْخَسْ
مِنْهُ
شَيْئًا﴾(24).
وعدم التصرف
فيما يملكه
غيره إلا
بإذنه، قال
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم: لا يحل
مال امرئ مسلم
إلا بطيب نفسه(25).
أما
في المجال
السياسي فقد
أمر بالطاعة
للأمير ولو
عبدًا
حبشيًا، و
بتوزيع الجيش
إلى المقدمة
والقلب
والميمنة
والميسرة
والساقة،
وبالانضباط
العسكري عند
الهجوم على
العدو، قال
تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ
الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ
فِي
سَبِيلِهِ
صَفًّا
كَأَنَّهُم
بُنيَانٌ
مَّرْصُوصٌ﴾(26).
وبالتزام
أمرالقائد
والاستئذان
منه لقضاء
شؤونه
الخاصة، قال
الله تعالى: ﴿إِنَّمَا
الْـمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ
آمَنُوا
بِالله
وَرَسُولِهِ
وَإِذَا
كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ
جَامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا
حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ
إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ
أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ
وَرَسُولِهِ
فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ
لِبَعْضِ
شَأْنِهِمْ
فَأْذَن
لِّمَن
شِئْتَ
مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمُ الله
إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ
رَّحِيمٌ﴾(27).
وأمر بأيفاء
العهود
والمواثيق
والاتفاقيات ﴿وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ
إِنَّ
الْعَهْدَ كَانَ
مَسْئُولًا﴾(28).
هكذا
نظم الإسلام
حياته الخاصة
والعامة ولم يتركها
دون نظام
وتنسيق،
وذلك
ليؤدي ما
حمله الله
تعالى من
الأمانة
الكبرى ، ويقوم
بعمارة الأرض
ومسؤولية
الخلافة فيها
وفقًا لما أمر
الله عزوجل؛
فنستطيع أن
نقول بحق: إن
الإسلام دين
نظام وانضباط
وتوازن.
* * *
الهوامش:
(1 ) الأنعام/96.
(2) القمر/49.
(3) التين/
4.
(4) المؤمنون
/ 18.
(5) الشورى/27.
(6)
الحجر/21.
(7) يس/40.
(8) القصص/72.
(9) الرحمن/9.
(10) الأنعام/161.
(11) الفاتحة/7.
(12) البقرة:
143.
(13) لقمان/13.
(14) الكهف/14.
(15) صحيح
البخاري، باب
الدين يسر،
رقم:39.
(16) صحيح
البخاري رقم: 1867.
(17) المعجم
الأوسط/رقم:6185.
(18) الفرقان/67.
(19) لقمان/19.
(20) سبأ/11.
(21) سنن
أبي داؤ، باب
تسوية
الصفوف، رقم:666.
(22) النساء/86.
(23) النور/27.
(24) البقرة/282.
(25) سنن
الدارقطني،
كتاب البيوع،
رقم: 91.
(26) الصف:
4.
(27) النور/62.
(28) الإسراء/34.
* * *
(*) أستاذ
بالجامعة
الإسلامية
دارالعلوم
ديوبند
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم
ديوبند ،
شعبان 1435 هـ =
يونيو 2014م ،
العدد : 8 ،
السنة : 38