الأدب الإسلامي
كلمة
موجهة إلى ندوة (تطور الرواية العربية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية)
المنعقدة
بجامعة عليجراه الإسلامية(*)
بقلم : ن . ع . خ . الأميني
يسرّني
ويسعدني أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى القائمين على قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة
علي جراه الإسلامية . وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الدكتور كفيل أحمد القاسمي الّذي
أصرَّ إصرارًا بالغًا أن أشارك في هذا البرنامج الأدبيّ الهام الذي يعقده القسم .
وذلك كضيف شرف في هذه المناسبة . كما يسعدني أن أبدي غاية تقديرى واستحساني تجاه
ما يقومون به باستمرار وفي إخلاص من خدمة قيمة للغة العربية ، من خلال شتى
نشاطاتهم ، بما فيها تدريسها وعقد مؤتمرات وندوات ومناسبات حول شتى الموضوعات التي
تنصبّ في قناة خدمة اللغة العربية التي هي أشرفُ اللغات على وجه الأرض، باختيار
الله لها وعاءً لكتابه الأخير، ولغةً لنبيه الخاتم الرسول الأعظم سيدنا محمد ﷺ . ومن ثم لغةً لدينه
الخالد .
فهنيئًا لكم
أيها الإخوة العاملون في حقل هذه اللغة المختارة من قبل الله عزَّ وجلَّ خالق
اللغات واللهجات ، وفَّقكم الله للمزيد من خدمتها والاعتناء بها ، بكل شكل من
الأشكال المتصورة .
لقد سبق لي أن
كتبتُ في أكثر من مناسبة حول فضيلة هذه اللغة على جميع اللغات من حيث كونها مختارة
من قبل الله لِتشمل الرسالة الإلهيَّة المحمديَّة الأخيرة ، ومن حيث كونها ثريةً
ثراء لاتدانيها فيه لغة على وجه الأرض ؛ فهي ثريّة مفرداتٍ و اشتقاقاتٍ ، ومبانيَ
ومعانيَ ، وتعابيرَ وأساليبَ ؛ حيث ليس بوسع أي لغة في دنيا الله أن تدانيها في
هذه الخصيصة ، كما أنها ثريّة بجمهالها وغنائها و وفائها بالمعنى الذي تُؤديه كل
كلمة من كلماتها وكل فقرة من فقراتها ؛ فلم تعرف لغةٌ غيرُ اللغة الغربية التعبيرَ
الأوفى عن كل غرض من الأغراض . وإني أعتقد أن الله –وهو أعلم بما كان وبما سيكون –
قد خصَّ هذه اللغة من بين اللغات بجميع الصفات والفضائل التي أَهَّلتها لتكون على
مستوى استيعاب الوحي الإلهي الأخير ، ولتكون اللغة الرسمية الوحيدة لدين الله
الإسلام الذي لن يقبل الله من أحد غيره دينًا ؛ من هنا فهي لغة مقدَّسة حقًّا لدى
المسلمين، ومن هنا فكل مشتغل بها دراسة وتعلمًا أو تدريسًا و تأليفًا ، أو كتابة
وخطابة، أو نشرًا لها بأسلوب من الأساليب أسعد حظّاً ، وأصعد جدًا من جميع
المشتغلين بغيرها لأن المشتغل باللغة العربية مشتغل باللغة السماوية الإلهية الخالدة
، والمشتغلين بغيرها مشتغلون بلغات أرضية بشرية فانية ؛ فما أبعد الفرقَ بين
الفريقين !.
إنّ اللغة
العربية باقية بقاءَ القرآن الكريم الذي وعد الله تعالى بحفظه أبدًا بقوله : «إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحـٰـفِظُونَ» (الحجر/9)
وفي حفظ الذكر يندرج حفظُ مبانيه ومعانيه معًا ، وحفظُ ظاهره وباطنه ، وحفظُ لغته
ودلالاتها ، وحفظُ مفرداتها ومركّباتها ، وحفظُ كل شيء يتّصل بها ؛ فالعامل على
نشر هذه اللغة ، يعمل على الحفاظ عليها وعلى بقائها تعمل عَمَلَها وتـؤتي أُكُلَها
، ويعمل على إنشاء سياج حولها يمنعها من الضياع ؛ فهو مستحق للشكر من ربّه الشكور
، ويجدر بالذكر من خلقه ،ويليق بأن تُسَجَّل أعمالُه في جبين التاريخ ؛ لأنه يقوم
حقًّا بعمل جليل يعدِلُ الجهاد والنضال في سبيل الله .
وقد آمن
العلماء المتعمقون والسلف الصالحون والأعلام الراسخون في العلم أن العربية أفضل
اللغات ، واعترفوا بفضلها المطلق على سائر لغات الدنيا ، ودعوا – من خلال أقوالهم
وسلوكهم – إلى التمهر فيها وامتلاك ناصيتها . وعابوا على المثقفين المسلمين أن
يخطئوا فيها إعرابًا فضلاً عن الإخطاء فيها تعبيرًا .
وقد صدق
الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي المصري (المتوفى 1422هـ / 2002م) في
كتابه الفصحى «لغة القرآن» (ط:
1402هـ/ 1982م دارالكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة بيروت ، لبنان) وهو أوفى كتاب
أُلِّف في فضل اللغة العربية في العصر الحاضر، حينما قال:
«يعتقد
المسلمون بحق أن لغتهم العربية جزء لاينفك من حقيقة الإسلام ؛ لأنها كانت ترجمانًا
لوحي الله ، ولغةً لكتابه ، ومعجزةً لرسوله ، ولسانًا لدعوته ، ثم هذَّبها النبي
الكريم بحديثه ، ونشرها الدين بانتشاره ، وخلَّدها القرآن بخلوده ؛ فالقرآن
لايُسَمّىٰ قرآنًا إلا منها ، والصلاة لاتكون صلاةً إلاَّ بها» .
وأطلق إمام
اللغة والأدب أبو منصور الثعالبي النيسابوري رحمه الله (350-429هـ = 961-1038م) في
ذلك قولاً قيّمًا أصبح مضرب المثل بين المعنيِّيْنَ من الكتّاب والأدباء والمؤلفين
باللغة العربية ؛ حيث قال:
«من أحب
الله تعالى أحبَّ رسوله محمدًا ﷺ؛ ومن أحبّ
الرسول العربي ، أحب العرب ؛ ومن أحب العرب ، أحبّ العربية ، التي بها نزل أفضل
الكتب على أفضل العجم والعرب ؛ ومن أحب العربية ، عُنيَ بها ، وثابَرَ عليها ،
وصرف همته إليها ؛ ومن هداه الله للإسلام ، وشرح صدره للإيمان وأعطاه حسن سريرة
فيه ، اعتقد أن محمدًا ﷺ خير الرسل
، والإسلام خير الملل ، والعرب خير الأمم ، والعربية خير اللغات والألسنة ،
والإقبــــال على تفهُّمها مــن الــديانـة ؛ إذ هي أداة العلــم ، ومفتاح التفقه
في الدين وسبب إصلاح المعــاش والمعاد» (فقه اللغة للإمام
الثعالبي، ص25، ط: 1 ، 1427هـ / 2006م، ديوبند، الهند)
على كلّ ،
فأيها الإخوة المستمعون من خلال هذه الجلسة والعاملون في مجال العربية من منبر قسم
اللغة العربية وآدابها بالجامعة ، أنتم سُعَدَاءُ جدًّا بعكوفكم على خدمة هذه
اللغة التي شرّفها الله تعالى ، سواء بعقدكم هذا البرنامج أو من خلال تدريسكم لها
، وتأليفكم فيها ، وكتابتكم بها.
* * *
أيها الإخوة
الأكارم !
إنّ العربيّة
رغم أنّها مضمونة المستقبل ، باحتضان القرآن الكريم لها ، فلا تتغير ولا تتبدّل،
فضلاً عن أن تَمَّحِى ؛ بل إنّها مُحَدَّدَة الإطار ومُوَحَّدة الشعار فلا تخرج عن
الأسلوب القرآني والإطار الحديثيّ – لكون الحديث شرحًا وتفسيرًا للقرآن – لكنّها
تناغمت عبر رحلتها الطويلة الممتدة على أكثر من 15 قرنًا مع روح العصر ، وأسعفت
الخطباء والكتاب والأدباء والمُؤَلِّفين بالجديد المزيد من الصيغ والتعابير
والأساليب وطرائق الكتابة ومناهج التأليف والخطابة ، التي اقتضاها كل عصر حسب
العوامل الكثيرة المتنوّعة التي تفاعلت وتداخلت وتلاحمت ؛ فوُجِد فن الرسائل ،
وأسلوب الدواوين ؛ وفن «المقامة» التي كانت
عبارة عن حكايات قصيرة تشتمل كلُّ واحدة منها على حادثة لاتستغرق غالبًا أكثر من
مقامة (جلسة) وتنتهي بعظة أو مُلْحَة . وكانت المقامة الأساسَ الأوّل للقصة
والرواية في اللغة العربية . ويؤكّد مؤرخو اللغة العربية أن ابن دُرَيْد (أبو بكر
محمد بن الحسن بن دريد البصري 223-321هـ = 838-933م) هو الذي استحدث المقامةَ حيث
وَضَعَ أربعين حديثًا سلك فيها مسلكَ الرواية والحكاية ، وتَوَخّى فيها جمالَ
الإنشاء ؛ ولكن المؤرخين يؤكدون أن بديع الزمان الهمداني (أبو الفضل أحمد بن
الحسين بن يحيى الهمداني 358-398هـ = 969-1008م) أوّل من أجاد هذا النوع من
الكتابة ، مُحَاكِيًا – كما هو المظنون – الأحاديث الأربعين لابن دريد، وظل هذا
الفنّ يتطوّر ، حتى بلغ به الحريريُّ (أبومحمد القاسم بن علي البصري الحريري
446-516هـ = 1054-1122م) الذروة مُتَّبِعًا منهاج البديع في ذلك .
* * *
والقصّة
بمعناها اللغوي الذي يعني السردَ والإخبار هي قديمة قدم الإنسان نفسه . أما القصّة
بمعناها الاصطلاحي الذي يعني الفنَ الأدبيَّ ، فقد أكّد المؤرخون أنها وليدة القرن
التاسع عشر الميلادي وقد استوعبه الكتاب العَرَبُ من الغرب الذين سبقوهم إلى هذا
الفن الذي ظهرت بظهور الطباعة التي وُجِدَت لدى الغرب أولاً . ونشأت القصّة بنشوء
القوميات وانتشار الصحافة ، ثم نمت بشكل طبيعيّ حسب ما اقتضته المشيئة الإلهيّة
التي تسمح بظهور شيء وتطوّره ونضجه واختماره في الوقت الذي قدّره الله له وتحت
الظروف التي يشاؤها الله له .
وقد كانت
الخطوة الأولى إلى القصة من الكتّاب العرب أنهم ترجموا أولاً القصصَ الغربية إلى
اللغة العربية ، ثم خَطَوْا إلى النسج على منوالها باللغة العربية ، فبدأوا
يُنْتِجون أدبًا قصصيًّا و روائيًّا، اختمر مع مرور الوقت ، وتوفّر العوامل ،
وتقدم العلم والتكنولوجيا ، ومسّ الحاجة إلى الإكثار من هذا الفنّ ، لكون الإنسان
العصريّ – عربيًّا كان أو غربيًّا – توّاقًا إليه وحريصًا على قراءته .
وقد كان
اللبنانيّون أسبق العرب إلى تناول القصة مُتَرْجَمَةً ، ثم مُنْتَجَةً ، ثم تلاهم
المصريّون، ثم شاركهم الكتاب والأدباء من كل بلد عربيّ .
* * *
ولم تعجز
اللغة العربية عن استيعاب هذا الفن الأدبي الحديث من القصّة والرواية ، كما لم
تعجز عن استيعاب مُعْطَيَات العلم الحديث التي لا تُحْصَىٰ ؛ بل إن هذا
الفنّ بدا في اللغة العربية أجمل وأروع منه في غيرها ، لكونها مُمَدَّة بالتأييد
الإلهي ، والاختيار الربّاني ، وبالتالي لكونها أقـدر على التعبير والتصوير ،
ولكونها غوّاصةً على المعاني والأفكار والرؤى ؛ فبدت القصّةُ كأنّها فيها وُلِدت ،
وفيها نشأت وترعرعت ، وفيها شبّت وتلبّست الجمالَ الفاتن ، والسحرَ القاتلَ .
واليوم غنيت المكتبات العربية العالمية بإنتاجات هذا الفن الأدبيّ ، ونبغ فيه
أدباء وكتّاب لايحصون ، وبعضهم أحرز قصب السبق بين كتاب القصة في اللغات العالمية
كلّها .
* * *
وإنّى أهنئ
القائمين على قسم اللغة العربيّة بهذه الجامعة الإسلامية العريقة – التي تشكل
رمزًا شاخصًا على حياة المسلمين الثقافية والفكرية في شبه القارة الهندية – حيث
عقدوا هذه الندوة حول موضوع «تطور الرواية العربيّة
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية» للاعتناء بهذا الفن
الأدبيّ والاهتمام بهذه اللغة المشرفة التي يُثَابُ خَدَمَتُها ثوابًا لايُثَابَه
أيّ خادم لأيّ لغة على وجه الأرض، علمًا بأنّها – اللغة العربية – لغة إلهيّة
تحتلّ الفضائلَ التي تخلو منها كل لغة في دنيا الله . كما أسلفتُ في بداية هذه
الكلمة .
تقبّل الله
سعيكم جميعًا ، وجعلكم من عباده الصالحين المخلصين الذين لايبغون من وراء كل عمل
في الحياة إلاّ وَجْهَه .
وصلى الله
وسلّم وبارك على عبده نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب
العالمين .
* * *
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو
– أغسطس 2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.
(*) عقدت
الندوة في الفترة ما بين 13-15/ مارس 2007م (الثلاثاء – الخميس : 22-24/ صفر
1428هـ) من قبل قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة المذكورة ، وقدمت الكلمة في
الجلسة الافتتاحية للندوة التي انعقدت في الساعة 10 من صباح الثلاثاء : 13/ مارس
الموافق 22/ صفر .