الكرسي
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
لايُوْجَد صاحب منصب خالد في منصبه إلى الأبد، فإن لم
يتوفه الأجل، أو يصبه مرض، تهب سنة التغيير برياحها وعواصفها، وسنة التغيير هذه،
تجعل المناصب أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية؛ فعندما تتوقف الموسيقى فجأةً عن
العزف، أما إن يسعدك الحظ بالمكوث على إحدى هذه المقاعد الوثيرة، أو قد تجد نفسك
خارج حلبة السباق، وإذا كنت ممن تمرسوا في اقتناص واغتنام هذه المقاعد؛ فإنك ستجد
نفسك، مع كل نغم للموسيقى، تجري في نفس الحلبة، مرات ومرات، ربما يصيبك مركز أرفع
ومرتبة أعلى مما كنت عليه سابقًا، وهكذا يستمر بك الحال حتى تلهث وتنقطع أنفاسك،
وربما تفاجئ بوقوعك على الأرض متألمًا، إذا ما سحب أحد الكرسي من تحتك قبل أن تتكئ
أو تمكث عليه؛ حينئذ ستنظر إلى تلك الكراسي التي أمضيت عمرك تجري حولها؛ فتجد غيرك
قد سكانها واستقر فيها؛ بل وعزز مكانته ودعم إقامته عليها، ولم ينالك منها إلا
الحسرة والندم، فلو دامت هذه المناصب لأحد ما وصلت لمن عليها الآن، ولو دامت لمن
عليها الآن، فلن ولم تصل لمن سيأتي إليها غدًا وبعد غد، وهذا وذاك من أبعد
المستحيلات؛ فالكراسي بالمناصب التي تمثلها، كلها مؤقتة بمن يعتليها، لا تدوم لأحد
ولا يخلد فيها أو بها أحد. وللكرسي مغناطيسية غريبة، خاصةً كلما رفع وعلا المنصب
الذي يمثله؛ فما إن تجلس عليه، حتى تشعر بقوة جاذبيته لك، مما تجعلك تتصور أنه
سيدوم لك، وأنك ستدوم له، وأنك باق فوقه إلى أبد الآبدين، لن يتخلى عنك ولن تستغني
عنه، مهما كان، ومهما حدث، ومهما طال بك الزمن، وقد يخدعك بنعومته ودفئه، ويسحرك
بما يمنحه لك من مميزات، ويجعلك تظن واهمًا أن لديك ملكات خاصةً ومواهب نادرةً
وقدرات خارقةً، لا تتوفر لأحد سواك، وهذه وتلك هي التي مكنتك من هذا وذاك المنصب،
وجعلته هو الذي يسعى وراءك سعيًا حثيثًا؛ فأنت أجدر بالاستحقاق به من غيرك، وهذا
ما عاشه من سبقوك إليه، وسيعيش فيه من يأتون خلفك، إلا من اتعظ!.
واحترام الكرسي، وإجلال من يجلس عليه، عادة
منتشرة بين المرؤوسين جميعًا، مهما صغرت أو كبرت مناصبهم ومراكزهم؛ فالكرسي يضيف
للجالس عليه سمات وصفات لم تكن به قبل، ويخفي ما به من عيوب وعاهات لازمته من قبل،
ويصبغ عليه جمالاً وحسنًا لم تلده به أمه، فالكرسي يطيل قامته إن كان قصيرًا،
ويزيد وزنه إن كان نحيفًا، ويجعله رشيقًا إن كان سمينًا، ويضع على لسانه كلامًا
بليغًا لم يقله، وينسب له حكمةً لم ينطق بها، ويهديه أعمالاً مجيدةً لم يسمع بها،
أضغاث أحلامه تصير استراتيجيات يجب أن تدرس في المعاهد والكليات، أقواله صدق،
ومواعظه بلاغة، وأفعاله يضرب بها الأمثال في الأدبيات، النقد له يتحول إلى همس،
والإشادة به تصبح طبولاً وزمورًا.
والناس أصدقاء للجالس على الكرسي طالما بقي
فوق الكرسي، وأعداء له إذا ما وقع من فوقه، فهم يتنافسون في مصافحته ومحاولة لمسه
كأنه ولي من أولياء الله الصالحين طالما أنه باق فوق الكرسي، وهؤلاء هم الذين
يهربون منه عندما يفقد منصبه كأنه مرض معد أو داء عضال، هم يعرفون عيد ميلاده
فيسارعون بالتهنئة، ويعرفون موعد زواجه فيتسابقون لتقديم باقات الورد والزهور،
فإذا أصابه زكام تزاحم على بابه الذين جاءوا يستفسرون عن صحته، أما لو خرج عن
الحكم؛ فهم ينسون اسمه ولا يذكرون أنهم عرفوه في يوم من الأيام، وإذ بالأمور
جميعها من حوله تنقلب على عقبيها، وتتحول إلى عكس ما كانت عليها تمامًا.
لهذا وذاك ولكل ما هو ماض أو آت، يجب ألا
يطمئن أي منا إلى أي من تلك المناصب؛ فهي تلف وتدور، وتتأرجح يمينًا ويسارًا،
ولأعلى ولأسفل، وفي جميع الاتجاهات، وفجأة وبدون سابق مقدمات تلقي بالجالسين بها
إلى الأرض، وتأتي بغيرهم إلى ذات تلك الكراسي؛ فهي غادرة لا تعرف الصداقة ولا تعرف
الوفاء، وكلما كبر المنصب كبرت الأخطار التي يتعرض لها صاحبه؛ فالساعي في مكتب
الوزير يستغرق نقله من عمله عدة ساعات، بينما الوزير نفسه فمن الممكن أن يفقد عمله
بعد خمس دقائق، وأذكى كبار المسؤولين، من أصحاب المناصب العليا، هم الذين يضعون
استقالاتهم في جيوبهم؛ ولكن عدد هؤلاء الأذكياء قليل جدًّا. وعلينا أن نتذكر
دائمًا أن بقاء الحال من المحال، وأن المال والصحة والمناصب وكل ما تشتهيه الأنفس
وتتمناه، لا تقف أمام باب واحد إلى الأبد؛ فاليوم أنت في السماء، وغدًا ستكون في
الأرض، وربما تحت الأرض تداس بالنعال، وإذا خرجت من منصب وصلت إليه بجد وتعب،
ونلته عن استحقاق وجدارة وكفاءة، لا بالفهلوة وتفتيح المخ والمحسوبية وغيرهم من
الطرق الغير شرعية، وكنت على تقوى من الله فيه؛ فاحمد الله على أنك لم تخسر نفسك
أو تفقد صوابك، وأن المنصب لم يغرّك، كما غر من خُدِعوا بــه وخدعوا فيه .
ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة
: 33
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع
أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق –
الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email:
ashmon59@yahoo.com